وانتهينا من معركة التصديق على الدستور المصري الجديد. صدقه الشعب مباشرة وبواسطة الإستفتاء. بقي من خارطة الطريق التي حددها الجيش وثورة 30 يونيو أن ينتخب الناس مجلسا نيابيا ورئيساً للجمهورية وتكون مصر قد عادت الى الإستقرار والأمن والديمقراطية. تكون مصر قد تجاوزت القطوع الدامي الذي تعيشه دول الربيع العربي الأخرى. ومصر لن تعود ‘إلى ما قبل 25 يناير’ أبداً، ولا ‘إلى ما قبل 30 يونيو’ حسب مستشار الرئيس المصري المؤقت للشؤون الاستراتيجية مصطفى حجازي. عرفنا إلى أين لن نعود، ولم يعد ينقصنا إلا معرفة إلى أين نسير.
بالرغم من ذلك يشعر المرء أن هناك شيئاً ما لا يزال غامضاً، وأن مصر لم تستعد بعد الإستقرار الموعود ولن تستعيده قريباً. ذلك أن هذا الإستقرار لا يمكن أن يكون مطلب الشعب المصري عندما نزل بالملايين إلى الساحات والمدن والأرياف، لا سيما أن الإستقرار كان موجوداً عشية الربيع المشهور. وهو إذن لم يكن الهدف المطلوب على ما يظن. والمطلوب قد يكون المعنى، الوجهة التي يريد المصريون أن يقعوا عليها عند أحد الأطراف الرئيسة التي تتوالى على قيادتهم.
ينتظر الناس، العامة، من قياداتها، في مرحلة تاريخية كالتي نعيشها، أن تقول لها إلى أين تسير بها، الوجهة التي نذهب إليها، معنى ما يجري. تنتظر العامة رؤية مستقبلية لبلدها ولعيشها. تنتظر من قياداتها حلماً مرسوما، طموحاً جماعياً، لكي تسعى معها إلى تحقيقه والنضال الجماعي من أجله. فليس من الطبيعي كثيراً أن يقاطع الكثير من الشباب الاستفتاء على الدستور في مثل هذه المرحلة الحرجة من عمر ‘الثورة’. ليس من الطبيعي أن نكون بعد ثلاث سنوات من اندلاع الانتفاضة الشعبية بدون طموح شعبي مشترك، بدون ترسيمة للمستقبل كما تراه نخب هذا الشعب وقياداته.
فالسؤال ليس في معرفة ما إذا كان عندنا دستور أو لا، بل السؤال هو في معرفة لماذا الدستور. السؤال ليس في ضرورة أن يكون استقرار بل لماذا ضرورة الإستقرار. السؤال ليس في ضرورة أن يكون هناك آليات لإنتقال السلطة بل السؤال هو في معرفة مهمات السلطة وأجوبتها على التحديات. السؤال ليس في معرفة إذا كانت هناك سلطة ناعمة، متوسطة النعومة أو الخشونة، أو استبدادية بل معرفة إذا كان سيبقى عندنا غــداً ما نأكله وما يكفينا جميعنا. السؤال هو ماذا أعددنا للمستقبل في المجالات السياسية والإقتصادية والإجتماعية؟
في بلاد يأكلها الجوع كبلادنا، حيث ملايين الشباب بدون عمل وبدون غطاء صحي وبدون سكن، اللهم غير العشوائيات والقبور، حيث ننتظر عبور ملايين المواطنين إلى الشيخوخة بدون أي تأمين، في بلاد تعجز كافة مواردها الحالية عن كفاية حاجاتها وهي تئن تحت نظام توزيعي غير عادل، في بلاد سيادتها مسلوبة ومرهونة، يتوقع المرء من النخب السياسية المعنية أن تتصدى للتحديات وتقوم برسم وبلورة مشروع رؤيا جديدة لما سنكونه غداً. وبدلاً من ذلك لا نرى غير ترسيمات سياسوية سقفها يقف عند حدود الوصول إلى السلطة. وكفى الله المؤمنين شر القتال.
المطامح الكبرى للشعوب لا تتقدم إلا مقنّعة. فهي بالكاد تعبّر عن نفسها بواسطة شعارات صغيرة، غير مفهومة، غامضة، بواسطة صرخات وأنين غميقين، لكنها تعبر عن فقدان المعنى لديها. فعندما تفقد الشعوب البوصلة ولا تعود تعرف وجهتها تنزل إلى الساحات الكبرى وتصرخ بأعلى صوتها أنها ضائعة. على النخب هنا أن تجد لها الطريق وأن تعيد لها المعنى عبر مشروع جماعي مستقبلي جديد. بهذا الأمر يتحدد دور القائد أو القيادة : أن يقترح رؤية جديدة يشارك الشعب فيها لكي يعيد فتح الأفق الذي أغلق على العامة.
ما شاهدناه في مصر، منذ بداية الربيع العربي وحتى الآن، يكاد يشبه مجتمعاً قد دار على نفسه دورة كاملة. ثار على نظام لكنه عاد إليه راجياً. فالعودة إلى حكم يعتمد على الجيش كقوة اجتماعية شبه وحيدة، قادرة على حفظه موحداً بدون احتراب أهلي، هي القاعدة الأساس التي يمكننا استنتاجها من الدرس المصري. المجتمعات العربية كما هي، في الأطر الجغرافية والسياسية التي ارتضت بها بعد تجزئة سايس-بيكو، تتململ وتثور وتحاول التغيير الداخلي، فتصطدم بنسيجها الإجتماعي غير المندمج، فتقارب التدمير الذاتي ولا تجد قوة موحدة إلا الجيش ينقذها من ذاتها.
العودة المصرية الحالية هي من التماثل مع سابقاتها بحيث ذهب البعض إلى إجراء مقارنات تماثل بين الشخصيات السياسية السابقة والحالية. تماثل لا يأخذ بعين الإعتبار الظروف والمشاريع والطموحات التي ميزت بينها. فالعسكر وإن تشابهوا بالبزة والإنتماء إلى السلك العسكري لكن رؤاهم قد لا تكون واحدة. جمال عبد الناصر لم يكن عسكرياً وحسب، لكنه كان صاحب رؤيا صراعية عظيمة مع من اعتبره مانعاً لوحدة الأمة ككل، الأمة العربية. ناصر لم يفهم مصر إلا كمركز لدولة واسعة صاحبة تأثير ونفوذ سواء في مجالها الطبيعي العربي أم في مجالها الإقليمي والدولي.
عبد الناصر لم يكن عسكريا وحسب ولم يكن مصريا وحسب بل كان عربياً أولاً وصاحب مشروع فك التبعية عن الغرب وصاحب مشروع دولة صاعدة. عبد الناصر كان قائداً رؤيوياً يطرح للعامة وجهة ومعنى. كان يخاطب الناس مباشرة ويخطب ودها في كل خطوة سياسية. كان يقول لنا أن المستقبل هو للدولة المستقلة لا التابعة ولا الخانعة. كان يقول لنا كيف نقوم إلى العمل لبناء مصانعنا وأدوات إنتاجنا. كان يسعى إلى توحيد الدولة العربية التي عمل المستعمر على تجزئتها لمنعها من بناء اقتصاد متكامل يتيح نشوء الدولة العصرية عبر تجاوز البنى الإجتماعية الما قبل دولتية.
عبد الناصر لم يكن العسكر. بل كان نقيض كل ما أُريد لنا أن نكونه. فقال الوحدة العربية مفتاح الدولة الصاعدة العصرية وقال استعادة الموارد والتحكم بها لبناء اقتصادنا المستقل.
قراءة ناضجة للوضع المصرى ..وهذا هو المحك الذى سيحكم على المرحلة القادمة ويحدد نجاح او فشل التجربة ولا اظنه سيكون امتحانا طويلا فالشعب لن يصبر طويلا على اى حاكم حتى ولو حمله على الاعناق الان .. لم يعد فى قوس صبر الشعب منفذ .
إذن هذه مجتمعات متخلفة لا تحكم الا بالعصا الغليظة
و برصاص العسكر، تعبد القائد الملهم و تستنير بفكره، كفاكم استخفافا بدماء هذه الشعوب و ثوراتهم، لقد أدرك العربي ان الطغاة و من لف لفهم هم من زرع بذور الفرقة و التشتت و ربط وجود الوطن ببقاء نظامه ، كل المجتمعات على مر التاريخ قدمت سيلا من الدم و الدموع و العرق في سبيل نهضتها و المجتمعات العربية لن تشذ عن هذه القاعدة، قد يكون اليوم مظلما و كئيبا لكن تضحيات الآلاف من الشباب سوف تضيء الطريق لغد ساطع النور ، يكون فيه العربي مواطنا كامل الحقوق يختار من يحكمه و يزيح من يبغضه و يعود العسكر الى الحدود و يصوب رصاصه في الاتجاه الصحيح.