من الطبيعي والمفهوم تماماً أن يتململ الناس وتتسرب إليهم مشاعر الشك ويتمكن منهم الملل وتتسلط عليهم هواجس سقوطهم ضحايا خديعة (ربما تكون محكمة لُعبت بحرفية) لم تتضح معالمها تماماً بعد… فقد تصورت غالبية الجمهور الغفير التي أسقطت سلطة الإخوان، أو خيل إليهم أن الحياة ستعود ‘طبيعية’، وفقاً لتصور كل منهم وتعريفه للكلمة بالطبع، وبعد أن استبشروا بعودة الكهرباء من دون انقطاع وتوفر البنزين، بالإضافة إلى سائر المحروقات، مصدقين أن النقص تسبب فيه حصراً بيع غزة أو إمدادها بالطاقة، وانساقوا راضين إلى شيطنة الفلسطينيين والسوريين، من دون تمييز بين فصائلهم أو أماكن وجودهم واختلاف ظروفهم ووجدوا في ذلك ‘الآخر’ متنفساً لغضبهم وإحباطاتهم وتفسيراً مريحاً ومناسباً يلقون عليه باللائمة ويحملونه تبعية كل مشاكلهم بلا تحفظ ولا استثناء تقريباً… بعد كل ذلك تبددت غيمة التفاؤل تلك على واقعٍ مزعج ومغايرٍ تماماً، فاعتصامات أنصار الجماعة مازالت قائمة، وبغض النظر عن الجدل العقيم عن أعداد المعتصمين، فإنهم فعلياً يسببون صداعاً مرورياً في أقل تقدير، ويحطمون بالكامل تقريباً ثقة الناس في المستقبل وحالة الدعة والخدر اللذيذة والغبية في آنٍ معاً التي استسلموا لها، مؤكدين لأنفسهم أن ‘كل شيءٍ سيصير على ما يرام’، متجاهلين كل ما يحدث حولهم على وقع أجواء رمضان ومسلسلاته التي تساعد على التخلف العقلي.
أفاقوا على تضارب وتخبط تصريحات وإنذارات الداخلية والجيش، فتارةً يهددون بقرب فض الاعتصام ثم سرعان ما يتراجعون عن ذلك، ولا يملك الناس إلا أن يتعجبوا ويشكوا في مقدرتهم الفعلية، حيث يتساءلون ما الذي يمنعهم من فض الاعتصامات بالقوة؟ وفيم ذلك التأخر والتلكؤ والتردد؟ ألم نمنـــــح الفريق السيسي تفويضاً بالتصرف؟ وما معنى تلك الزيارات والوفود التي تحج إلى قيادات الجماعة في محابسهم، وهم إما متهمٌ بالتخابر مع دولةٍ أجنبية أو بقتل المتظاهرين العزل، والجريمتان تحملان عقوبة الإعدام في حالة الثبوت؟ ألا يعد ذلك تدخلاً في شؤون مصر الداخلية؟ ألم تعد ثورتا 25 يناير 2011 و30 يونيو بشكلٍ أخص ثقل مصر وتذكر العالم بقيمة مصر ومحورية دورها وتسترد القرارات المصيرية للقاهرة؟ ألم نُعلِم العالم؟
أجل، تحمل هذه التساؤلات ضمنياً الكثير من الصحة، إلا أن الأمور ليست بهذه البساطة للأسف، والمعادلة متعددة الأطراف وأصعب من ذلك بكثير… فمصر وشعبها، على أهمية البلد وخطورة الثورة، لا يوجدان ويتحركان في الفراغ، وإنما في المنطقة الأخطر، وربما الأكثر ثراءً في العالم، بها أهم مصادر الطاقة وبالتالي تتقاطع على أراضيها مصالح كل الكبار. يجوز أن ثورة الشعب المصري جديرةٌ بكل تأكيد، من حيث الحجم وعنصري المفاجأة والأهمية التاريخية والجيوسياسية للبلد أن تغير كل مفردات اللعبة وتوازنات القوة الإقليمية والعالمية، الا أن هذا هو تحديداً السبب الذي يدفع كل هؤلاء اللاعبين الى التدخل بصورةٍ قد تبدو فجةً ومسعورة في ما قد نعتبره أو نتصوره شأناً داخلياً محضاً، من دون حتى محاولة التوقف لمواراة هذا الوجه المتوحش البدائي… من ناحيةٍ أخرى، ولما كان المجتمع الجديد لا يولد جديداً تماماً وإنما يحمل على جبينه سمات القديم وعلى أكتافه ميراثه الثقيل، فإنه يتعين علينا أن نتذكر أن ثمة أموراً لم تتغير بعد، على الرغم من ضخامة الحراك.
أولاً، ولكيلا ننسى أو تختلط علينا الأمور، فإن استلاب القرار السياسي المصري وتبعيته لم يبدآ اليوم أو البارحة، وإنما من أكثر من ثلاثين عاماً، وتحديداً مذ قرر الرئيس ‘المؤمن’ أن تسعةً وتسعين بالمئة من أوراق مشكلة الشرق الأوسط في يد أمريكا، منذ ذلك الحين ومصر تنزلق على منحدر التبعية وفقدان الدور والنفوذ الإقليميين وكل أدوات الضغط ، وقد تزامن ذلك مع التجريف السياسي – الثقافي والتبعية الاقتصادية والعسكرية، حتى قامت الثورة ومصر مصطفة تماماً في المحور الأمريكي – الإسرائيلي- السعودي – القطري الخ، إن مصر المنهك شعبها والمشرفة على الإفلاس مقيدةٌ في شبكة من المصالح الأمريكية – الخليجية الاقتصادية المعقدة والأمنية الأكثر تعقيداً، وإنه لمن السذاجة المفرطة أن نتصور أن أمريكا، المرهقة بدورها التي ترى إمبراطوريتها تنحسر، ستقف متفرجة…لا، سوف تقاتل بكل شراسة وسوف تتدخل، كما أن كل الشواهد تدل على كون الإدارة الأمريكية قد استثمرت الكثير في الإسلام السياسي وتحديداً في جماعة الإخوان المسلمين، وعلقت على تعاونها معها كثيراً من القضايا الخاصة بالأمن وتسوية العديد من الخلافات مع الكثير من فصائل الإسلام السياسي التي ناصبت أمريكا العداء في بعض المراحل والخارجة من عباءة الإخوان أو المتقاربة معهم، ناهيك عن الملف الأهم في هذا السياق: القضية الفلسطينية (وحماس بالأخص) وإسرائيل، ليس هناك أدنى شك لدي في أن موجة الثلاثين من يونيو العارمة أفسدت على أمريكا وشركائها طبخةً شديدة الدسامة.
من ناحيةٍ أخرى، فإن الكثيرين في فورة غضبهم المبررة والمفهومة على الجماعة وفي رغبتهم الحارقة الملأى بفراغ الصبر في التخلص من القرف ووقف الحال والعطلة التي يتسبب فيها الاعتصام الإخواني، يتناسون أن الجماعة، وإن تآكل أعداد مناصريها، فإنها مازالت في حد ذاتها تشكل فصيلاً مهماً ذا تاريخٍ طويل (بغض النظر عن آرائنا فيه)، وأن فض اعتصامٍ بهذا الحجم من قبل أناسٍ ثبت استعداد العديدين منهم للموت قد يكون مكلفاً بصورةٍ يصعب على أي سلطةٍ أو جهةٍ تحمل مسؤوليتها الثقيلة.. فأي عاقلٍ يعلم أن الدماء تفتح الباب لمزيدٍ من الدماء، وليس بالمستبعد أن يكون شبح ‘العشرية السوداء’ في الجزائر حاضراً في أذهان القيادات الأمنية، وشخص كالدكتور البرادعي الذي أكاد أجزم أنه يدرك بخبرته الطويلة في القضايا الدولية أن الحل الأمني قد يؤدي إلى كارثة واحتراب دامٍ موحلٍ لا يعلم إلا الله آخرته، ويريد أن يمنح كل الفرص الممكنة لمحاولة إيجاد حلٍ أو تسوية سياسية تحقن الدماء في مقابل بعض التنازلات.
على كلٍ، لقد فشلت حتى الآن كل جهود الوساطة بسبب تعنت الجماعة، وإن كنت لمتهم في ما مضى على خفض مطالب الثورة، فإنني الآن لا أملك سوى أن أحملهم تبعية فتح المجال أمام المزايدين الذي يستعدون الدولة على استخدام أدواتها من جيشٍ وشرطة لفض اعتصامهم، مما قد يدخلنا في نفقٍ مظلم لا يعلم إلا الله آخرته… لا أستطيع (وأزعم أن أحداً غيري لا يقدر ايضاً) أن أتنبأ بما سيحدث بدقة، إلا أن كل الشواهد تدل على أن مصر مقبلة على فترةٍ عصيبة، وربما تطول…
‘ كاتب مصري