يسير التعاون الثلاثي بين الاتحاد الأوروبي ومصر وإسرائيل لتنمية موارد الغاز في شرق المتوسط بخطوات سريعة إلى الأمام، ليقدم صورة إيجابية للعلاقات بين الأطراف الثلاثة، على العكس من الصراعات الدائرة حول الغاز في المنطقة، والتي تكاد تشعل حربا بين لبنان وإسرائيل، ويمكن أن تلتهب بين قبرص وتركيا، بينما جرت محاولات لاحتواء النزاع بشأن ترسيم الحدود البحرية بين مصر وتركيا، وبين إسرائيل وقبرص. صيغة التعاون الثلاثي التي طورها الاتحاد الأوروبي خلال الأشهر الثلاثة الأخيرة، من خلال اتصالات مباشرة مع كل من مصر وإسرائيل، تأخذ في اعتبارها القيود البيئية، حتى لا تتعارض مع هدف تحقيق «الحياد الكربوني» قبل منتصف القرن الحالي، كما لا تقتصر على الجوانب التجارية فقط، وإنما تتسع للجوانب التكنولوجية والمالية، داخل إطار طويل الأجل في حدود 10 سنوات قابلة للتجديد. كما أن مشروع الاتفاق لا يتوقف على الغاز المسال، وإنما يمتد إلى الغاز الطبيعي والكهرباء ومصادر الطاقة المتجددة.
خلال الأشهر الخمسة الأولى من العام الحالي زادت صادرات الغاز الطبيعي من مصر إلى العالم بنسبة 42 في المئة، لتصل إلى ما يقرب من 3 ملايين طن، بعد أن كانت قد تجاوزت 5 ملايين طن في عام 2021. وقد اتجهت معظم الصادرات إلى الأسواق الآسيوية، بينما كان نصيب دول الاتحاد الأوروبي قليلا نسبيا. السبب في ذلك، رغم قرب محطات الغاز المسال المصرية من أوروبا، يتمثل في ضعف البنية الأساسية الأوروبية اللازمة لاستقبال الغاز المسال، نظرا لأن دول الاتحاد ظلت تعتمد لعقود طويلة على النفط والغاز الروسي، الذي يصل إليها عبر خطوط الأنابيب. ولذلك فإن زيادة نصيب أوروبا من الغاز المسال المنتج في مصر يرتبط ببناء موانئ أو أرصفة بحرية مؤهلة لاستقبال وتفريغ ناقلات الغاز المبردة، وإعادة الغاز المسال إلى حالته الطبيعية مرة أخرى، ثم ضخه في شبكة الغاز الأوروبية الموحدة.
وفي حال استطاعت أوروبا تجهيز البنية الأساسية اللازمة فإن دول حوض شرق المتوسط إضافة إلى قطر يمكنها تزويد أوروبا بما يقرب من ثلث وارداتها من الغاز الذي تحصل عليه من روسيا الذي يبلغ حوالي 155 مليار متر مكعب سنويا. قطر تستطيع توفير ما يتراوح بين 20 إلى 30 مليار متر مكعب، ومصر تستطيع توفير ما يصل إلى 10 مليارات متر مكعب بالتعاون مع إسرائيل وقبرص، ويمكن أن تتضاعف هذه الكمية إلى أكثر من 20 مليار متر مكعب سنويا، بينما تستطيع الجزائر إمداد أوروبا بنحو 15 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي، من الممكن أيضا أن تتضاعف بعد الاتفاقات التي تم توقيعها بين «إيني» و«سوناطراك».
هذا يعني ان الموردين العرب يمكنهم تزويد أوروبا بنحو 55 مليار متر مكعب من الغاز في الوقت الحاضر. وتلعب شركات النفط والغاز العالمية الرئيسية دورا قويا في تكثيف جهود البحث والتنقيب والاستخراج والتجارة. وعلى الرغم من اختلاف جنسيات هذه الشركات فإنها متفقة على ضرورة تحييد النزعات السياسية بين الدول، ومحاولة اقناعها بمكاسب التعاون بدلا من الصراع. وتلعب «إيني» الإيطالية و«توتال» الفرنسية و«شل» الهولندية- البريطانية، و«اكسون موبيل» و«شيفرون» الأمريكيتان، و«روسنفط» الروسية، و«قطر للغاز» دورا جوهريا في عقد اتفاقيات سريعة لزيادة الإمدادات من مصر والجزائر وإسرائيل وقبرص، وتوسيع نطاق الاستثمارات والصادرات.
تعاون مصري-إسرائيلي
نظرا لحاجة مصر إلى ضمان استمرار صادراتها من الغاز المسال عند مستوى الطلب المتزايد، فقد اتفقت مع إسرائيل على زيادة الواردات من الغاز الطبيعي الإسرائيلي اعتبارا من شهر اذار/مارس الماضي بنسبة 50 في المئة حتى بداية عام 2023 على الأقل، ويمكن تجديدها بشرط موافقة الطرفين. ويتضمن الاتفاق أن تستخدم إسرائيل خط الغاز العربي عبر الأردن في إمداد مصر بالكميات الإضافية، وهو ما يتيح للأردن الحصول على رسوم عبور للغاز تسهم في زيادة موارد الميزانية، وتعزز استخدام تجارة الطاقة كمجال لبناء شبكة مصالح متبادلة على المستوى الإقليمي. وتتوقع شركتا «شيفرون» الأمريكية و «نيوميد» الإسرائيلية (ديليك للحفر سابقا) صاحبتا امتياز تشغيل حقلي «ليفياثان» و«تمار» أن تزيد صادرات إسرائيل من الغاز الطبيعي إلى مصر عن طريق خط الغاز العربي بما يتراوح بين 2 إلى 2.5 مليار متر مكعب. وقالت وزيرة الطاقة الإسرائيلية أن هذه الكمية يمكن أن تصل إلى 4 مليارات متر مكعب في السنوات التالية. وجدير بالذكر ان اتفاقية تصدير الغاز الإسرائيلي إلى مصر تنص على إمدادات تبلغ 85.3 مليار متر مكعب على مدى 15 عاما بواقع 5.68 مليار متر مكعب سنويا. وكانت مصر تستقبل حتى كانون الثاني/يناير الماضي حوالي 5 مليارات متر مكعب سنويا من إسرائيل، عن طريق خط عسقلان- العريش، وقالت وزيرة الطاقة الإسرائيلية أنها تعمل على زيادة طاقة الخط إلى 6.5 مليار متر مكعب في العام المقبل. وتستفيد مصر من تلك الصفقة مع إسرائيل في تشغيل محطات الإسالة بطاقتها القصوى (حوالي 12.2 مليار متر مكعب) والحصول على حصة متزايدة من سوق الغاز المسال العالمي، وتعظيم ايراداتها من تصدير الغاز، في حال سددت لإسرائيل قيمة الواردات بسعر «الغاز الطبيعي» لتبيعه في السوق بسعر «الغاز المسال» الذي يتراوح حاليا بين ثلاثة إلى خمسة أمثال سعر الغاز الطبيعي.
اتصالات ألمانية-إسرائيلية
خلال زيارته لإسرائيل في الأسبوع الماضي، بحث روبرت هابيك، نائب المستشار الألماني وزير الاقتصاد والبيئة، مع رئيس الوزراء الإسرائيلي نفتالي بينيت ووزير الخارجية يائير لابيد فرص حصول ألمانيا على الغاز من إسرائيل لمساعدتها على تجاوز أزمة الطاقة الحالية، وتجنب الضغوط الأمريكية الشديدة على أوروبا للتخلي عن استيراد النفط والغاز من روسيا. وذكرت تقارير متابعة اللقاءات بين الطرفين أن ألمانيا، أكبر اقتصاد في أوروبا، تدرس توسيع الاستثمارات في الحقول الإسرائيلية ومنها حقل ليفياثان، والحصول على الغاز الإسرائيلي بعد معالجته وتحويله إلى غاز مسال في مصر، أو عن طريق خط الغاز الطبيعي المقترح لدول شرق المتوسط، الذي يمتد في قاع البحر من الحقول الإسرائيلية إلى قبرص واليونان ومنها إلى شبكة الغاز الأوروبية المشتركة. لكن قدرة إسرائيل على التصدير تعتبر مستنفذة تقريبا في الوقت الحاضر بصادراتها إلى كل من مصر (4.2 مليار متر مكعب سنويا قبل الزيادة المقترحة) والأردن (3 مليارات متر مكعب سنويا).
إن زيادة حاجة أوروبا للغاز، وخصوصا ألمانيا، كانت المحرك الرئيسي للإسراع بترتيبات استغلال حقل «كاريش» في المياه الدولية المتنازع عليها بين إسرائيل ولبنان، وادخاله إلى مرحلة الاستغلال الفعلي. وكانت شركة «إنيرجيان» اليونانية قد حصلت على امتياز للتنقيب عن الغاز واستغلاله في منطقة تشمل تلك المتنازع عليها بين لبنان وإسرائيل التي يقع فيها الحقل. وقد أسرعت الشركة اليونانية بإحضار سفينة من سنغافورة، مجهزة كمنصة لاستخراج وتخزين وتحميل الغاز، استعدادا للبدء في استخراج الغاز.
الاحتياطي المؤكد من الغاز في حقل «كارش» أو «القرش» (باللغة العبرية) يبلغ 1.4 تريليون قدم مكعب. لكن أهمية المنطقة التي يقع فيها تنبع من أنها قد تحتوي على احتياطي أكبر في حال توسيع نطاق التنقيب. كذلك فإن إسرائيل قررت فتح مساحات جديدة للتنقيب داخل المنطقة الاقتصادية الخالصة المقابلة لشواطئها على البحر المتوسط، وطرح امتيازات البحث عن الغاز واستخراجه على شركات النفط العالمية من أجل تعظيم فرص الاستفادة من حاجة أوروبا إلى الغاز. وقالت وزيرة الطاقة الإسرائيلية كارين الحرار، في الشهر الماضي أنها قررت إطلاق مناقصة جديدة للتنقيب عن الغاز استعدادا للتصدير إلى أوروبا، على ضوء زيادة الطلب عقب حرب روسيا وأوكرانيا. وذكرت في السياق نفسه أنها بصدد التوقيع على مذكرة تفاهم ثلاثية مع مصر والاتحاد الأوروبي، لتصدير الغاز الإسرائيلي عبر محطات إسالة الغاز المصرية. وطبقا لخطة التصدير فإن الغاز سيتدفق عبر أنابيب من إسرائيل إلى مصر، حيث تجري عمليات المعالجة والإسالة، ثم تحميله ونقله إلى أوروبا.
ونبهت الوزيرة إلى أن «هذا الإجراء ممول من قبل المصدرين». وهو ما يعني أن إسرائيل ومصر لن تكونا في حاجة إلى تأمين التمويل الكافي لزيادة طاقة النقل بواسطة خطوط الأنابيب الحالية، وتشغيل محطات الإسالة في إدكو ودمياط عند حدود التشغيل القصوى.
أهمية استقرار ليبيا
في حال استقرار الأوضاع في ليبيا فإنها يمكن أن تصبح لاعبا مهما في سوق الغاز الأوروبية. فهي تملك بالفعل خط أنابيب بحري لنقل الغاز إلى إيطاليا، هو خط «جرين ستريم» كما أن لديها ثروة ضخمة غير مستغلة، ولم يتم الكشف عنها بعد، بسبب النزاعات والحرب الأهلية. وتوفر ليبيا ما يصل إلى 15 في المئة من إمدادات الغاز الطبيعي إلى إيطاليا. ويتم تصدير الغاز عن طريق خط أنابيب «غرين ستريم». الكمية التي يتم تصديرها حاليا يمكن مضاعفتها بسهولة. على سبيل المثال فإن الغاز المستخرج من حقل «الجرف القارّي» الذي يتم تشغيله بالمشاركة بين «إيني» والمؤسسة الليبية للنفط، يتم هدر نسبة كبيرة منه في عمليات التشغيل والحرق. وتبلغ الطاقة التصديرية للحقل في الوقت الراهن حوالي 160 مليون قدم مكعب يوميا. لكن التدفق الفعلي للغاز غير مستقر.
وتقدر مؤسسة النفط الليبية أن الطاقة التصديرية للخط يمكن أن تتضاعف إلى حوالي 4 مليارات قدم مكعب يوميا، باستخدام وسائل تكنولوجية وإدارية لتقليل الهدر في الإنتاج، حيث أن 24 في المئة فقط من الإنتاج يخصص للتصدير، بينما تهدر نسبة تصل إلى 27 في المئة في التشغيل، أو حرق كميات غير مستخدمة، ويتبقى نحو 49 في المئة فقط للاستهلاك المحلي.