مصر بين وزارة السعادة ومطالب تجويع الشعب

حجم الخط
4

في الثامن من يوليو/تموز الجاري أعلن وزير التموين المصري علي المصيلحي، أمام لجنة الشؤون الاقتصادية في البرلمان أن هناك توجيهات واضحة من الرئيس بالاستمرار في حذف غير المستحقين من منظومة الدعم، وأكد في رده على طلبات الإحاطة المقدمة من النواب لتأجيل الحذف لحين الفصل في التظلمات، إن هناك ضرورة في حذف غير المستحقين من منظومة دعم الخبز، لأن الموازنة العامة للدولة لا تتحمل دعم 71 مليون مستفيد من المنظومة.
وبعيدا عن تفاصيل الاعتراف بعدم دقة المعايير المستخدمة، وعدم جودة قواعد البيانات، تظل النقطة الأساسية التي يتم الدفع بها إلى الواجهة عادة هي تلك الخاصة بحق الفقراء، والتأكد من عدم وجود «مواطن واحد غير مستحق للدعم موجود في قاعدة بيانات المستفيدين من التموين». الغريب أنه وسط الخطابات المكررة عن مراعاة الفقراء، والحديث عن قلة تأثير الدعم العيني وأهمية التحول إلى الدعم النقدي، كما تؤكد السلطة عبر سنوات، تظهر بالمقابل تصريحات وتحركات رسمية أخرى تؤكد على الاستمرار في السياسات القائمة، التي تتمثل في إنشاء المزيد من المدن والمطارات الجديدة، والمباني المرتفعة السعر، التي تستهدف عددا محدودا من الأغنياء داخل مصر وخارجها.
واقع يثير تساؤلات لا تتوقف عن تخصيص الموارد وأولويات الإنفاق، وكيف أن الموارد غير كافية لدعم رغيف الخبز، بما يمثله من أمان غذائي وضرورة حياتية لعدد غير قليل وسط المعاناة الاقتصادية القائمة، وحقيقة أن 60% من السكان إما فقراء أو أكثر احتياجا، وفقا لتقرير البنك الدولي الصادر في مايو/أيار 2019، ولكن الموارد متوافرة من أجل العاصمة الجديدة، وسلسلة المدن والمباني ذات الألقاب التنافسية مع العالم، التي لا تتوقف عن التوالد بوصفها مشروعات قومية، تبرر الديون التي يدفعها في النهاية عامة الشعب، في اللحظة والمستقبل، رغم المعاناة وتقليص الدعم الذي تستفيد منه الأغلبية.
وسط تلك الأجواء وبشكل مفاجئ احتلت تصريحات نسبت إلى الدكتور أحمد عكاشة المستشار الطبي للرئيس ورئيس الجمعية المصرية للطب النفسي، مواقع الأخبار بين إعادة النشر والتعليق، واستمر التعاطي معها رغم النفي الذي أعلنه عكاشة للتصريحات «الكاذبة» التي نشرت للمرة الأولى في عام 2015، وتم نفيها في هذا التوقيت أيضا. ورغم أن خبر الرجل الذي يعض الكلب من شأنه عادة أن يجذب الانتباه، وأن النفي قد لا يحتل المساحة والاهتمام نفسيهما، إلا أن حقيقة أن الخبر»مفبرك» وإعادة نشره رغم هذا وبعد سنوات تثير تساؤلات عن أسباب عودته للحياة، وتوقيت تلك العودة، وكيف يتم استخدامه، في وقت يشهد العالم اهتماما متزايدا بالأخبار الكاذبة، وكيف يتم توظيفها في خدمة السياسة، كما حدث في انتخابات الرئاسة الأمريكية في عام 2016، التي فاز فيها الرئيس دونالد ترامب.
جاء الخبر مثيرا للغضب وهو يؤكد على تصريح عكاشة خلال ندوة في أحد فنادق القاهرة، بأنه طالب الرئيس خلال أحد اجتماعاته بالمجلس الاستشاري بضرورة «تجويع الشعب للنهوض بالبلاد»، وهو الطلب الذي يبرر في النص المنشور بأن «الشعب المصري عاش منذ قديم الأزل مدللا ومرفها»، بالإضافة إلى تأكيد الخبر على أنه طالب بقصر التعليم الجامعي على نسبة 20% من خريجي الثانوية العامة، وأن يتحول الباقي إلى التعليم الفني. ورغم أن الخبر تم نفيه، لكن هناك عدة أمور تؤكد على أهمية التعامل معه، ليس بوصفه تصريحات لشخص محدد، ولكن بوصفه رسالة تقدم بطرق مختلفة للشعب حول المعاناة والتحمل من جانب، والمطلوب منه أو المسموح له من جانب آخر، وفي المنتصف مساحة تؤكد على أن هناك رفاهية وإمكانية لشد الحزام مرات أخرى، بما يبرر القبول بالمعاناة القائمة، خوفا من معاناة أكبر على طريقة إنجاز الغياب، وبشكل يجعل لنشر الخبر واختيار الشخصية التي يرتبط بها وخلفيتها عاملا مهما في تحقيق استقرار الأوضاع والقبول بالمعاناة بما يبرر التعامل مع الأفكار التي يحملها.
بالطبع يمكن أن تبدأ، وبدون معرفة أن الخبر مفبرك ومكرر عبر السنوات، بالمقارنة الواضحة بين المطالب المعلنة والأجواء التي يفترض أنه أعلن عنه فيها، وهي ندوة لا يغيب عنها الطعام والشراب الذي يفترض وفقا لنص النصيحة أنها أعداء البناء، ويكون من حق التعليقات الساخرة أن تبدأ بالتذكير بتلك المفارقة، وأن تطالب الحضور بتوفير الإنفاق الضخم في تلك المؤتمرات التي تنتهي إلى مطالبة الشعب بالجوع، ولكن بعد أن تدرك أن الخبر مفبرك يظل التناقض قائما بين مؤتمرات أخرى ضخمة تتحدث عن معاناة الملايين، بدون أن تبدأ بتوفير النفقات عبر تقليل تلك الاحتفالات، أو إعلان دراسة جدوى حقيقية لها، غير تأكيد حالة الفقر رغم الثراء الواضح في التفاصيل. تظل المفارقة قائمة بين مباني تُضاف لها مجموعة من الصفات التفضيلية على المستوى الإقليمي والدولي مثل الأعلى والأكبر، وواقع يفتقد فيه المواطن العادي القدرة على توفير السكن الكريم، وتأمين خدمات تعليم وصحة حقيقية، ورغيف عيش لا يشعر أنه مهدد دوما بفقده ومستهدف بسببه.

من يسقط في فخ التعليق المباشر، وينتقد سيتم اتهامه بأنه يتصيد، ويقع ضمن أعداء الوطن وجمهور نشر التشاؤم

من جانب آخر، فإن تلك المقارنات المنطقية لن تكون حقيقية في مواجهة خبر هو بطبعه غير حقيقي، ومن يسقط في فخ التعليق المباشر، وينتقد الشخص سوف يتم اتهامه سريعا بأنه يتصيد، ويقع ضمن أعداء الوطن وجمهور نشر التشاؤم، أو كما قال عكاشة في نفيه إنهم من «خونة الوطن»، بما يسمح باستهداف مصداقية البعض وترويج فكرة الإشاعات، ونشر التشاؤم من قبل أهل الشر. ولكن سوف يظل الجوهر حاضرا وسط خطابات أخرى تتحدث عن ثراء الجماهير وأهمية المعاناة، وعدم كفاية القدر المتحمل منها، لأن الدولة تتحمل الكثير ولا تستطيع الاستمرار في دعم رغيف العيش، رغم المدن الجديدة وحملة تشجير سطوح المنازل في القاهرة، وكأنها مجرد إضافة لتجميل الصور من الخارج، حيث يمكن أن تتحسن من المرتفعات والطائرات والأبراج المرتفعة، مثل البرج الذي دشنته في شهر يوليو الجاري شركة عقارية مملوكة بنسبة 60% لهيئة المجتمعات العمرانية الجديدة في وزارة الإسكان في مدينة العلمين الجديدة، بوصفه البرج الأعلى في الساحل الشمالي والثاني على مستوى البحر المتوسط، في وقت تظل المعاناة كامنة في العمق.
جاء نشر التصريح المفبرك، موجها في إطار واضح وهو أن الشعب مرفه لدرجة تعيق التنمية، وأن الحديث عن رفع أسعار المحروقات وإلغاء الدعم عن العيش مبررا من أجل المدن الجديدة والمشاريع التي يسهل تنفيذها وكتابتها في دفتر الإنجازات، مقارنة بمشاريع تنمية المواطن وتحسين مستوى الحياة التي تشبه معركة مستمرة للنمو والتطوير. أما من يرغب في الحديث عن تلك المعاناة، وأن يقارن المؤتمرات الضخمة والمناسبات والفعاليات والسفريات المتكررة، بما ينفق عليها وما يتحقق منها، وحجم الديون التي يفترض أن يتحملها الوطن والمواطن، فعليه أن يتذكر إنجاز الغياب وأن المعاناة يمكن أن تكون أشد، وتخفيض الدعم يمكن أن يكون أكبر، والمنع يمكن أن يتسع للمزيد من السلع والخدمات، ولسان الحال إن كان التجويع سياسة مطلوبة من البعض فإننا لم نصل لها بعد، وهو ما يؤكد على وجود إنجاز ضخم وهو غياب سياسة التجويع، وغياب المنع من دخول الجامعات – رغم دفاع البعض عن سياسات مشابهة- واستمرار الحصول على بعض الدعم والوعد بدعم ما عندما يتم إلغاء الدعم القائم.
كان الخبر المفبرك يتحدث عن رفاهية مفترضة، وجوع مطلوب والأخبار تتردد عن التفكير في إنشاء وزارة سعادة بعد تصريحات مدير منظومة الشكاوى الحكومية الموحدة، ونفي رسمي على خلفية انتقادات وتعليقات ساخرة، ولكن في العمق يظل المعنى واضحا المعاناة طبيعية، ومظاهر الثراء والنمو والسعادة سهلة عبر وزارة ومدينة وبرج جديد يعيد للواجهة أكبر مسجد، وقناة السويس الجديدة، بوصفها ترس الممانعة وزيادة أسعار المحروقات بوصفها إنجازا.
ما بين خبر مفبرك يعاد ترويجه وخبر يتم نفيه يظل الجوهر واضحا بصور متعددة، والأحداث المتشابكة في المشهد بين ما هو حقيقي، وما هو كاذب تصب في الوصول إلى الهدف النهائي وهو ترسيخ الوضع القائم بكل مكوناته، وفي العمق تبرز مقولة الشاعر والروائي الأمريكي تشارلز بوكوفسكي «هم لا يدفعون أبدا للعبيد ما يكفي كي يتحرروا، فقط ما يكفي للبقاء أحياء والعودة إلى العمل»، فالمتاح هو فرصة للحياة وفرصة لشد الحزام والحصول على تقدير بحجم الصبر وتصفيق بحجم الطلب.
كاتبة مصرية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول موناليزا:

    قالت شبكة بلومبرج الأمريكية، إن مصر بدأت تحصد ثمار الإجراءات الاقتصادية التى بدأتها فى نوفمبر 2016، وهو ما برز فى تراجع معدل التضخم، الأسبوع الماضى، لأول مرة منذ قرار التعويم.
    هذا تقرير بلومبرغ وليس موناليزا ولا عبير

    1. يقول علي:

      الحصاد هو ارتفاع الديون الخارجيةإلى مائة مليار دولار، والداخلي إلى أربعةتريليون جنيه وحتة، وارتفاع الأسعار بشكل همجي آخرها ثمن شهادات الميلاد والوفاة والزواج والطلاق،والبطاقة الشخصيةالعاجلة ( لتصدر في ثلاثة أيام) إلى 170 جنيها.! اقتصاد يعتمد على الضرائب أو الجباية اقتصاد منهار!
      العساكر القتلة الفشلة لا يصلحون لبناء جيش أو اقتصاد أو مجتمع. انظر بعيدا عن بلومبيرج إلى ترتيب مصر حيث تشرف ذيل العالم في كل المجالات، ماعد الإجرام الإرهابي في القمع وبناء السجون وإغلاق المواقع وملاحقة الشرفاء وإعدامهم وسجنهم، وتأمين الأوغاد والفاسدين وتكريم النخانيخ. وتحيا مصر ثلاث مرات قبل الأكل وبعده!

  2. يقول موناليزا:

    أصدر البنك الدولى اليوم، تقريرا عن الاقتصاد المصرى، تحت عنوان “من التعويم إلى الازدهار: نقل صادرات مصر إلى مستويات جديدة”، يبحث هذا التقرير فى جانب مهم من القدرة التنافسية للاقتصاد: أداء الصادرات والاندماج فى الأسواق العالمية.
    هذا أيضاً بحق الله تقرير البنك الدولي وليس موناليزا ولا عبير

    1. يقول علي:

      البنك الدولي مراب يتعامل بالربا الفاحش،وهو يضحك على ضحيته الفاشل الفاسد البائس بشوية كلام،ولكنه يتجاهل أنه خرب البلاد والعباد بنصائحه وتوجيهاته وقبل ذلك بشروطه لتغرق بمن فيها. ردوا على الناس: لماذا ارتفعت الديون إلى هذا الحد الفاضح، وفي طريقها للمزيدمن الارتفاع؟ ومن الذي سيسددها ويدفع ثمن الخراب ايتها البيادة الغشوم القاتلة؟

إشترك في قائمتنا البريدية