في بر مصر، أدت معدلات الزيادة السكانية المرتفعة إلى تصاعدٍ غير مسبوقٍ في الطلب على المياه وضغوط هائلة على الموارد المائية المحدودة. فقد نما عدد سكان مصر بسرعة فائقة بلغ متوسطها حوالي 2 في المئة سنويا. وعلى الرغم من أن الحكومات المتعاقبة حاولت منذ خواتيم القرن العشرين السيطرة على معدلات الإنجاب، إلا إن إجمالي عدد المصريات والمصريين من المتوقع أن يرتفع من 104 مليون نسمة في عام 2021 إلى 160 مليون نسمة في عام 2050. وبعيدا عن التهديدات الوجودية التي أوجدها التعنت الإثيوبي في إدارة ملف سد النهضة وتداعياته المحتملة على نصيب مصر من مياه النيل التي لا بقاء لنا بدونها، ستضع الزيادة السكانية البلاد تحت ضغوط مضاعفة لتوفير احتياجاتها من المياه.
في بر مصر، أدت معدلات الزيادة السكانية المرتفعة إلى تصاعدٍ غير مسبوقٍ في الطلب على المياه وضغوط هائلة على الموارد المائية المحدودة
ليست معضلة الموارد المائية المحدودة بجديدة على مصر التي تواجه منذ عقود تداعيات الانفجار السكاني الذي تسبب في انخفاض نصيب الفرد من الموارد المائية وتدنيه منذ التسعينيات إلى ما دون مؤشرات الإجهاد المائي العالمية واقترابه تدريجيا من عتبة الندرة المائية المطلقة. ومع ذلك فإن الزيادة السكانية ليست هي السبب الوحيد لمعضلة المياه. فالاستهلاك المنزلي والمحلي لا يمثل سوى نسبة ضئيلة لا تزيد عن 14 في المئة من إجمالي استهلاك المياه العذبة سنوياً في البلاد، كما أن الاستهلاك الصناعي والذي تطور خلال العقود الماضية لا يحتاج سوى إلى نسبة ضئيلة لا تزيد عن 7 في المئة. أما نصيب الأسد من المياه فيذهب إلى القطاع الزراعي الذي يستهلك ما يقارب من 79 في المئة من الموارد المائية على الرغم من الصغر النسبي لمساحة الأراضي الزراعية لإجمالي مساحة مصر.
ثم يضاف إلى ذلك ما لتغير المناخ من تداعيات محتملة في الحاضر والمستقبل القريب، وليس البعيد، على الموارد المائية. فالمتوقع هو أن تهدد درجات الحرارة المرتفعة ومعدلات هطول الأمطار غير المنتظمة ونوبات الجفاف المتكررة الموارد المائية المصرية على نحو إضافي، وهو ما سيؤثر سلبا على الإنتاج الغذائي في مصر وسيعرض أرزاق المزارعين المصريين للخطر.
فما العمل؟ على مدار العقود الماضية، سعت الحكومات المتعاقبة إلى سد الفجوة بين الموارد المائية المحدودة وبين معدلات الاستهلاك والطلب المتصاعدة من خلال استراتيجيتين رئيسيتين؛ واردات المياه الافتراضية والتوظيف المتزايد للمياه الجوفية.
فقد تحولت مصر منذ السبعينيات إلى واردات المياه الافتراضية باستيراد السلع الزراعية التي تحتاج لإنتاجها الكثير من المياه، وهي الاستراتيجية التي راجت في عموم منطقة الشرق الأوسط وشمال إفريقيا حيث تستورد بلداننا ما لا يقل عن 50 مليون طن من الحبوب سنويا منذ عام 2000 وهو ما يوفر علينا حوالي 50 مليار متر مكعب من المياه العذبة التي كان سيتحتم استهلاكها في ري محاصيل كالقمح، والشعير، والأرز، والذرة. وعلى الرغم من أن استراتيجية واردات المياه الافتراضية قد تبدو للوهلة الأولى أسلوبا ذكيا لتوفير الموارد المائية المحدودة، إلا أنها تستنزف الإمكانات المصرية في وقت تعصف فيه الأزمات الاقتصادية بالبلاد كما أنها تضعها تحت رحمة قوانين العرض والطلب الدولية وتداعيات الأزمات العالمية عليها (الارتفاعات الهائلة في أسعار الحبوب في بدايات الغزو الروسي لأوكرانيا) وتعرض أمن المجتمع الغذائي وسيادة الدولة للخطر.
أما الاستراتيجية الأخرى التي تتبعها مصر لسد العجز في الموارد المائية فهي الاستخدام المتزايد للمياه الجوفية التي راحت طبقاتها، وفقا لعديد الدراسات العلمية، تجف تدريجيا وترفع من مؤشرات الإجهاد المائي (من حوالي 104 في المائة في عام 2000 إلى 141 في المائة في عام 2021)، وثبت من ثم عدم استدامتها.
ومع أن مصر توسعت خلال السنوات الماضية في عمليات تحلية وتدوير وإعادة استخدام المياه على نحو قلص من الفجوة بين المعروض والمطلوب مائيا، إلا أن البديل الوحيد للتغلب على التحديات الراهنة والمستقبلية المرتبطة بالنمو السكاني المتسارع وآثار تغير المناخ، ومع الأمل في الوصول عما قريب إلى حل توافقي بشأن سد النهضة الإثيوبي، يظل هو الإدارة المتكاملة للموارد المائية على نحو يسمح باستيعاب مدى تداخل وترابط العلاقة بين الأمن المائي والأمن الغذائي والتنمية الاقتصادية المستدامة. على سبيل المثال، يمكن للإدارة المتكاملة للموارد أن تعلل التكاليف المائية التي يحتاجها استصلاح الصحراء وتحويلها لأراضٍ زراعية لضمان الأمن الغذائي وكذلك التكاليف المائية للتوسع في إنتاج الطاقة المتجددة كالطاقة الشمسية التي تستهلك ألواحها الكثير من المياه. غير أن النهج المترابط في التعامل مع الموارد سيلزم في الحالتين باستخدام مياه تم استخدامها من قبل عبر عمليات التحلية والتدوير حماية للموارد المحدودة من المياه العذبة.
لا توجد إجابات سهلة فيما خص معضلة المياه في مصر. ومع ذلك، يظل في اتباع نهج متكامل لإدارة الموارد المائية السبيل الأمثل لتجهيز الحكومة والمجتمع المدني بشكل أفضل لطرح الأسئلة الصحيحة وابتكار الاستراتيجيات والحلول الأكثر استدامة.