مصر: خطيئة التمديد جعلت التعديلات هي والعدم سواء

هذا الضجيج والصخب المتصاعد في بلاد العرب؟ ويهدف في جانب منه إلى إغراق أهلها وإلهائهم عن المصائب التي يتعرضون لها، وتقع على رؤوسهم كالرزايا؛ بتآمر وتشجيع الفاشية الصهيو أمريكية، ورمزها الأشهر في هذه الحقبة هو دونالد ترامب، الذي صار له حواريون من العرب والمسلمين؛ بما لديهم من قدرة فائقة على إشاعة الفوضى، وممارسة الزيف والعنف والانتقام، وهم تقريبا على دين ترامب؛ يتبعونه في كسب الخصوم والأعداء، والصدام مع الأشقاء والحلفاء، وارتكاب خطايا مذهبية وطائفية وانعزالية؛ أبعدتهم عن مبادئ الحق والعدل والمنطق، وحين نَقل ترامب سفارة بلاده إلى «القدس» المحتلة صمت أولئك الحواريون «والصمت علامة رضا»؛ فثَنِّي ترامب بمصيبة أخرى، وأعلن سيادة الدولة الصهيونية على هضبة الجولان المحتلة، هذا فضلا عن مصائب أخرى تحيط بـ«القارة العربية» من كل جانب.
وعن خطايا مصر الرسمية حدث ولا حرج.. وهي من نوع خاص؛ ظاهره رحمه وباطنه عذاب؛ آخرها خطيئة الاستفتاء على تعديل الدستور، وتم التشويش عليها؛ بتحويل مصر؛ البلد العريق إلى سيرك كبير، ومسرح عبث، وحفلات للبلاهة. والسؤال هو كيف حدث هذا؟ والجواب يكون بالبحث عن الفراغ والخواء المنتشر بتأثير أهل الحكم، فغاب الشعب، وحُجِبت قواه الاجتماعية والسياسية، وعُزِلت عن المجال العام.. واستمرت قوانين الطوارئ المانعة للاجتماعات والمؤتمرات، والمُحاصِرة لأصحاب الرأي، وحُظِر ظهورهم وكتاباتهم في الصحافة، ومشاركتهم في البرامج المرئية والمسموعة.
وأوكلت الأعمال السياسية والتنفيذية والتشريعية للشرطة المدنية والعسكرية، وجهاز الأمن الوطني، والأجهزة الأخرى؛ خاصة أجهزة الرئاسة؛ المسؤولة عن كل شيء؛ التمهيد والإعداد والتنفيذ والمتابعة والمراقبة، فاختلطت الأوراق، وتُركت لها انتخابات مجلس النواب فنقلت إليه أمراضها، وجعلت منه قابلا بالإذعان وحالت دون استقلاله، واستراحت لتبعيته للسلطة التنفيذية، والإلحاق على رئيس الدولة، ومن المعروف أن المجلس صُمم في الأصل ليكون على مقاس «المشير» وبوزنه، وظهرت سريعا أعراض التمديد لـ«المشير»، وبوادر توريث الأبناء والأقارب، ونسوا إن «عميدهم»؛ كان عضوا بالمجلس العسكري، الذي انتقلت إليه السلطة أثناء ثورة يناير 2011، ويعلم تفاصيل أسباب تأييد القوات المسلحة للثورة، وقد وجدت فيها فرصة لرفض التوريث ومنع التمديد.
وأسس بطلان الاستفتاء؛ من وجهة نظري هي:
الأساس الأول هو ما بدا من نية مبيتة للتزوير، وإحياء تقاليد سارت عليها حكومات متعاقبة في تغيير نتائج الاستفتاءات والانتخابات، وكان كثيرون قد تصوروا أنهم تخلصوا من هذا العبث من 2011، ولما «عادت ريما لعادتها القديمة»، تم حظر كل أنواع الرقابة، بما فيها الرقابة الدولية على الاستفتاء، وفتح علِيها أهل الحكم نيران الحملات الضارية، وكأنهم ملائكة ورسل معصومون، وقد كانت الرقابة بنوعيها ضرورية على الأقل لدرء الشبهات.. وغيابها تدنى بمصداقية الاستفتاء إلى مستوى الصفر، وغيابها فتح مجال المواجهة القانونية والدستورية أمام دوائر القضاء الوطني والدولي، ومن المتوقع ازدحام دوائر النقض، والقضاء الإداري، والمحكمة الدستورية العليا بالطعون والشكاوى ضد التجاوزات والبطلان الذي أفقد الاستفتاء شرعيته.
والأساس الثاني.. حرص غير مبرر على إجراء الاستفتاء في ظل قانون الطوارئ وتغييب القانون، وإهانة العدالة، ومصادرة الحريات، واستبدال السياسة بالأمن.. ونشطت «فرق التلفيق السريع»؛ تنفذ «مهامها السوداء»؛ يقوم بها محامون ورجال قانون؛ يقدمون بلاغات مُرسلة، وشكاوى ملفقة، ضد من أبدى رأيا على غير هوى «المشير» وعائلته وجماعته، وهذا ينزع الشرعية عن قرارات وإجراءات متخذة في السنوات الخمس الماضية، وآخرها الاستفتاء على التعديلات الدستورية!
والأساس الثالث.. غياب الفرص المتكافئة، وبدا «المشهد الاستفتائي»، بإقصاء من أبدى رأيا أو أشار لمخاطر العبث بالدستور، أو نبه لآثار القبض على من أثاروا ذلك، ومن طلبوا إذنا قانونيا بالخروج في مظاهرة سلمية، أو رفع لافتة، فعومل بخشونة زائدة، وصلت حد الحبس الانفرادي؛ بينما تم السمِاح لمرشدي الشرطة وللمُهَندَسين أمنيا ورئاسيا، باحتلال كثير من مقاعد مجلس النواب، وتشكيل «حزب مستقبل وطن»، وأولئك الغوغائيون عبأوا الرأي العام ضد القوى الوطنية والثورية كـ«أعداء الوطن»، وحرضوا ضدهم واعتدوا عليهم، ومن المتوقع أن يتشكل مجلس الشيوخ، المنصوص عليه في التعديلات، من أقارب ومحاسيب، ورجال أمن وجنرالات سابقين، وأمراء حرب متقاعدين، وأباطرة مال وأعمال وسماسرة!.

خطايا مصر الرسمية من نوع خاص؛ ظاهره رحمه وباطنه عذاب؛ آخرها خطيئة الاستفتاء على تعديل الدستور، وتم التشويش عليها؛ بتحويل مصر؛ البلد العريق إلى سيرك كبير، ومسرح عبث، وحفلات للبلاهة

والأساس الرابع.. شراء الأصوات، واعتماد الرشاوى الانتخابية، على رؤوس الأشهاد، وأمام الأعين؛ وتولى «جهاز الأمن الوطني»، وساعده «حزب مستقبل وطن» عقد صفقات الشراء؛ ببطاقة (كوبون)، تعطى للناخب، وبموجبها يحصل على «كرتونة» بها كيس مكرونة وكيلو سكر و400 غرام زيت؛ في مشهد هو الأسوأ على الإطلاق في حق الفقراء والعاطلين. وإهدار كرامتهم، وهذا سلوك معيب وغير إنساني؛ ينفي عن الاستفتاء شرعيته.
الأساس الخامس اختراق الجامعات ودور العلم.. ولعلعت في الآفاق فضيحة جامعة القاهرة، أعرق جامعات مصر؛ حيث وعد رئيس الجامعة الطلاب بالإعفاء من المصروفات المتأخرة؛ إذا ما شاركوا في الاستفتاء، وأهداهم 5 في المائة من الدرجات؛ منحة تضاف لمجموع الراسبين في مادة أو مادتين فينجحون، وهذا من أهم الطعون في مصداقية الاستفتاء.
والأساس السادس.. أنيط برجال الشرطة وضباط الأمن الوطني، وكانوا يوقفون الحافلات الصغيرة (الميكروباص)، ويجمعون بطاقة الرقم القومي من الركاب، (وهي في مصر بطاقة هوية)؛ ومصادرتها لإرغام السائقين على استعادتها بعد التصويت. وأُجْبِر ملاك ومستأجرو المحلات والمطاعم والورش ومعارض السيارات، وأصحاب أكشاك السجاير وبيع الحلويات والمرطبات؛ جمعوا منهم مبالغ مقطوعة لتغطية تكلفة لافتات التأييد للتمديد والتعديلات. وهُدِّد الفلاحون، وعمال اليومية بإلغاء بطاقاتهم التموينية، والحرمان من الحصص التموينية المدعومة، إذا لم تنفذ التعليمات. وهذا الإجبار ينزع الشرعية عن الاستفتاء.
ونأتي إلى مربط الفرس.. وهو موقف الدستور من رئيس الجمهورية؛ فدستور 2014 يمنعه من الحكم لأكثر من مدتين رئاسيتين، كل منهما أربع سنوات، ولما أصبح «المشير» تواقا للاستمرار أطول فترة ممكنة، حنث بقسمه، ولم يلتزم لا بقانون أو دستور، وخالف وعده، ونسي زهده في الحكم، وظهر أنه زهد من قبيل اللغو، واعتمد على إطلاق آلة السباب والدعاية الشيطانية، فضربت عرض الحائط بالمادة 140 التي تنص على: يُنتخب رئيس الجمهورية لمدة أربع سنوات ميلادية، تبدأ من اليوم التالي لانتهاء مدة سلفه، ولا يجوز إعادة انتخابه إلا لمرة واحدة، وتجاوزت نص المادة المتعلقة بإعادة انتخاب الرئيس رقم 226، وجاء فيها: وفى جميع الأحوال، لا يجوز تعديل النصوص المتعلقة بإعادة انتخاب رئيس الجمهورية، أو بمبادئ الحرية، أو المساواة، ما لم يكن التعديل متعلقًا بالمزيد من الضمانات. وهو يشترط عند إجراء الاستفتاء على أكثر من مسألة أن يتم التصويت على كل مسألة على حدة (مادة 157). وهذه التعديلات تعد باطلة استنادا لهذا النص، وغير دستورية لأنها غيرت المدة الرئاسية إلى 6 سنوات بدلا من 4 سنوات، وسمحت للسيسي بالترشح مرة أخرى بعد مدتين رئاسيتين، كما أنها أجرت الاستفتاء على عدة مسائل في تصويت واحد. وهما مخالفتان صريحتان لنصوص الدستور تنزعان الشرعية عن الاستفتاء والتعديلات مما يجعلها، قانونيا، «هي والعدم سواء».

٭ كاتب من مصر

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول علي:

    خطايا الانقلاب العسكري الدموي يتحمل مسئوليتها بالدرجة الأولى من استدعوا العساكر للانقلاب على الشرعية، وإهدار إرادةالشعب.

  2. يقول محمود يوسف محمد علي-مصر المحروسه:

    هكذا حكم العسكر في كل البلاد وهكذا هو في بلادنا منذ أن أغتصبوا الحكم في بلادنا مطلع الخمسينات.فشل في حماية البلاد وسرقة مقدراتها وثرواتها وقوت الشعوب وإذلال هذه الشعوب والخضوع للنفوذ الأجنبي..

  3. يقول الصعيدي المصري:

    الديمقراطية .. وقيم الحرية والعدالة في افواه البعض هي اصنام من عجوى .. جاهزة للاكل عند اقرب موقف يشعرون معه ان الأمور ليست في صالحهم .. الموضوع لا يتعلق فقط بالقيم السياسية التي بالاساس لا تنفصل عن القيم الاجتماعية والثقافية والحياتية .. بل امتدت لمواقف اخلاقية .. ساند فيها هؤلاء وصفقوا لمجازر ومحارق وهولوكوست ضد مخالفيهم في الراي والأفكار .. لا ادري بأي وجه يأتي هؤلاء الان ليعيدوا على مسامعنا نفس المحاضرات .. عن تلك القيم السياسية التي كانوا هم أول من تخلى عنها .. اذا كان للانقلاب العسكري الدموي الذي حدث في مصر من فائدة واحدة .. فهو أنه عرى وكشف وفضح حقيقة هؤلاء .. انتهى عصر ذاكرة السمك .. انتهي العصر الذي تجبر فيه الجماهير الا على سماع الصوت الواحد .. عبدالناصر واحمد سعيد وهيكل وصوت العرب .. انتهوا لغير رجعة .. والآن يستطيع اي مبتديء في السياسة والتاريخ ان يقرأ الأخبار من اكثر من مصدر وأن يعيد تقييم ما يروج له السحرة على اعتبار انه مسلمات وحقائق ..

  4. يقول العربي الحر:

    الشعوب الواعية تختار القيادات التي تخرجها من ذُل الفقر ومناهج التخلف والرجعية فالعجب أن تري شعباً يهلل ويؤيد عسكري أحمق أطبق علي الشعب بالفقر والجهل والتخلف والذل والتهديد
    وهذا ما خلفه المخلوع مبارك خلع الله رقابهم وفضحهم بين شعوبهم

إشترك في قائمتنا البريدية