إذا كانت السلطوية الجديدة في مصر لا تكترث كثيرا بتوثيق المدافعين عن حقوق الإنسان والحريات لسجلها الدامي خلال السنوات الماضية وإذا كان الحكم عبر مؤسساته الأمنية والاستخباراتية يعمد إلى الضغط المستمر على الأصوات الديمقراطية تارة مهددا بالقمع وأخرى مترجما القمع إلى إجراءات عقابية وملاحقات قضائية تتناقض تفاصيلها بالكامل مع ضمانات العدالة، فإن تهافت السلطوية لن يتسنى إنكاره طويلا. إذا كان الحكم ومؤسساته والنخب الاقتصادية والمالية المتحالفة معه والمعتاشة على الثنائية الفاسدة «التأييد والصمت نظير الحماية» والعوائد يصيبون شيئا من النجاح لجهة تزييف وعي الناس وتزيين تجاهل انتهاكات حقوق الإنسان ووقائع الفساد، فإن تهافت السلطوية لن يتسنى إنكاره طويلا.
يقايض الحكم في مصر الناس مدعيا أن ثمن الأمن والاستقرار هو نسيان الحقوق والحريات وقبول تغول السلطة التنفيذية والمؤسسات العسكرية والأمنية على الدولة والاقتصاد والفضاء العام، مثلما يقايضهم زاعما أن ثمن التقدم والتنمية المستدامة وتحسين الظروف المعيشية هو تركيز كافة الصلاحيات السياسية والاقتصادية في يد رأس السلطة التنفيذية والمؤسسات العسكرية والأمنية وتمكينهم من صناعة القرار العام إن بشأن مشروعات كبرى أو فيما خص تحديث الأجهزة الإدارية دون تدخلات مواطنين محدودي الوعي. يقايض الحكم الناس على ذلك، متعاطيا باستعلاء بالغ مع حتمية مراقبة ومساءلة ومحاسبة الحكام عبر آليات مستقلة وضرورة تطبيق قواعد الشفافية لكيلا يعم الفساد ويتواصل إهدار الموارد والطاقات القليلة المتاحة.
في الجوهر، هذه هي الحرب على حرية تداول المعلومات وحرية التعبير عن الرأي وحرية العمل الأهلي والسياسي السلميين التي تشنها السلطوية والتي تتناقض جذريا مع الحق الأصيل للمواطنين والمجتمع في مواجهة ليس فقط الفساد والإهمال، بل أيضا في التخلص من الإرهاب والعنف.
واجبنا هو ألا نستسيغ استخفاف الحكم وأصحاب السلطة والثروة والنفوذ لانتهاكات الحقوق والحريات، واجبنا هو ألا نقبل الإنكار المستمر لوقائع الفساد والإهمال وأن نطالب بتفعيل إجراءات المراقبة والمساءلة والمحاسبة
فالفساد، بكونه جريمة حصول من لا يستحق على ما لا يستحق، يستدعي للقضاء عليه حرية تخصيص الموارد العامة والخاصة للمستحقين وفقا لمعايير عادلة مثلما يتطلب الرقابة المؤسسية والشعبية الحرة على أعمال السلطة التنفيذية التي تضطلع بتخصيص الموارد. والإهمال بكونه الإهدار الممنهج للموارد العامة والخاصة يحتاج للتغلب عليه، وبجانب تنزيل قيم الشفافية والمساءلة والمحاسبة على أرض الواقع، تمتع المواطنون بحرية النقاش العام القادر على تتبع مظاهر الإهمال وتوثيقها والكشف عنها دون خوف من منظومة حكم أو أصحاب سلطة أو مؤسسات متنفذة. والإرهاب، بكونه انتهاكا إجراميا للحق في الحياة ونفي مطلق للحرية، لا يتخلص الناس من شروره إلا بالمزج بين رفع المظالم وإيقاف الانتهاكات والالتزام بصون حقوق وحريات المواطنين وبين توظيف الأدوات العسكرية والأمنية في إطار سيادة القانون. والعنف، بكونه نتاج تطرف كاره للإنسانية ينتشر في بيئات تأتي قابليتها له من تراكم الفساد وغياب التنمية المستدامة والعدالة الاجتماعية، لا سبيل إلى تجاوزه إلا بممارسة حرية الفكر وحرية التعبير عن الرأي وحرية العمل الأهلي والسياسي.
في الجوهر أيضا، يتمثل الواجب الأسمى للمواطنين في مصر في المواجهة السلمية للحرب على الحريات التي تشنها السلطوية الجديدة. واجبنا هو ألا نتورط في التعامل بمعايير مزدوجة مع حقوق الناس وحرياتهم، واجبنا هو ألا نستسيغ استخفاف الحكم وأصحاب السلطة والثروة والنفوذ لانتهاكات الحقوق والحريات، واجبنا هو ألا نقبل الإنكار المستمر لوقائع الفساد والإهمال وأن نطالب بتفعيل إجراءات المراقبة والمساءلة والمحاسبة. فالخبرات القريبة منا والبعيدة عنا والتي تتشابه مع حالتنا المصرية والكثير من تفاصيلها الراهنة تقطع بعلاقة الارتباط الإيجابي بين الاعتراف بالانتهاكات كبيرها وصغيرها والاعتذار عنها والمساءلة والمحاسبة عليها وبين إنتاج لحظة ممتدة من التوحد الشعبي الواعي إزاء وحشية ودموية التنظيمات والعصابات الإرهابية وجنونها الذي يتهددنا جميعا، مثلما تقطع بكون تفعيل سيادة القانون وأدواته الضامنة للشفافية ولحريات المواطنين وحريات العمل الأهلي والسياسي يظل خطوة أساسية أولى للتخلص من الفساد والإهمال. واجبنا هو ألا نتورط في الصمت على أخطار سيطرة الحكم على الإعلام وحصاره المستمر لمنظمات العمل الأهلي والسياسي. فالإعلام الحر هو الفاعل المجتمعي الوحيد القادر على الكشف عن الفساد والإهمال وتوثيق وقائعه، ومنظمات المجتمع المدني والأحزاب السياسية غير الخاضعة للتعقب الأمني الممنهج تمثل أفضل أدوات المجتمع لمواجهة الفكر المتطرف وثقافة العنف وكراهية القيم الإنسانية التي تعتاش عليها عصابات الإرهاب.
في الجوهر أخيرا، هذه هي لحظة اختيار حقيقية لنا في مصر. هي لحظة اختيار، فإما المزيد من تجاهل الحرب على الحريات التي تشنها السلطوية الجديدة ومن ثم معاناة تطول من الظلم والقمع والفساد وإما تغيير الدفة باتجاه الانتصار السلمي للحرية بالدفاع عن حقوق الإنسان وسيادة القانون وقيم الشفافية والمراقبة والمساءلة والمحاسبة فيما خص أعمال السلطة التنفيذية ومن ثم النجاة من الاستبداد وشروره.
كاتب من مصر
لا يوجد بمصر غير سيادة المشير!! ولا حول ولا قوة الا بالله