منذ اللحظة التي أفرزت فيها صناديق الانتخاب في تونس نتائجها، بدا واضحا حجم العداء والاحتقان الذي تحمله بعض الأطراف السياسية والحزبية للمسار الديمقراطي الناشئ، اثر نجاح الثورة في لحظتها الأولى في الإطاحة برأس نظام الاستبداد. ويمكن فرز هذه الفئات السياسية على النحو التالي : ـ الأطراف السياسية التي كانت في السلطة قبل الثورة والمتمثلة في أزلام النظام السابق، والتي كان من الطبيعي أن تناصب النظام الديمقراطي الناشئ العداء، وان تحاول إفشاله بكل السبل، وإن لم يكن هذا العداء قائما على قاعدة إيديولوجية محددة وإنما مرجعه المصلحة والنفوذ الذي فقدته أطراف كانت نافذة زمن حكم الدكتاتور، ومثل المسار السياسي الجديد في البلاد قطعا للطريق على طموحاتها السياسية في حكم البلاد والعيش من خيراتها . ـ والجهة الثانية أطراف يسارية تتشكل من قوى وأحزاب ومجموعات، وفيها من رفع طويلا شعارات الديمقراطية وتغنى بضرورة الاحتكام للصندوق والعودة للإرادة الشعبية، ولكن ما إن جاءت الانتخابات بخصومه الإيديولوجيين للسلطة حتى انقلب على عقبيه رافضا العملية الديمقراطية برمتها . وبعد أكثر من سنتين من انطلاق الحراك الثوري العربي من تونس بدأت محاولات إعادة إنتاج أنظمة الاستبداد تأخذ منحى أكثر خطورة وأشد وضوحا، عندما حصل ائتلاف بين الفئتين المذكورتين آنفا، فقد اجتمع فلول النظام السابق مع الأحزاب السياسية المؤدلجة ذات الخلفية المعادية للتيار الإسلامي، مع دعم وتمويل خارجي ضخم من دول معادية بطبعها ومن حيث تركيبتها لأي نفس ديمقراطي، من اجل الإطاحة بالعملية الديمقراطية برمتها والانقلاب عليها بكل الوسائل المتاحة، المهم ألا تكون الصناديق الانتخابية هي الحل لمشكل الاختلاف السياسي . وإذا لم يكن من المستغرب أن تسعى فلول الأنظمة المنهارة إلى تدمير المسار الديمقراطي وإفشاله، فإننا قد نحتاج إلى فهم بنية تفكير بعض القوى السياسية التي تشدقت طويلا باسم الديمقراطية في خطابها السياسي، بل إن بعضها يحاول الاستئثار بهذه الصفة ونسبتها لنفسه وجعلها رمزا مميزا لتياره الحزبي، وهنا نجد قوى حزبية يسارية وقومية لا يجمع بينها سوى رفضها لنتائج المسار الانتخابي في البلاد، ففي نظر هؤلاء إن الديمقراطية التي توصل المكون السياسي الإسلامي إلى الحكم ليست ديمقراطية بالأساس، بل إن نظاما استبداديا يرفع شعارات حداثوية على طريقتهم الخاصة، ويمنحهم الفرصة لتصدر المنابر، أفضل عندهم من ديمقراطية يقودها إسلاميون مهما كانت درجة انفتاحهم أو استعدادهم للتعاون معهم. لقد فاجأت الثورة القوى السياسية المختلفة والعائلات الإيديولوجية المتنوعة، وربما كانت المجموعات اليسارية رغم شعاراتها الثورية الدائمة وصوت صراخها العالي، الأكثر ارتباكا في التعامل مع المشهد السياسي الناشئ اثر الثورة، فقد وجدت أن مجرى نهر الواقع لا يستقيم لمنطق الايديولوجيا، وأن الشعارات الرنانة قد لا تصمد أمام امتحان الممارسة الواقعية، ومن هنا وجدت هذه القوى نفسها تتخبط أمام وقائع جديدة لم تتحسب لها من قبل، فقد كشفت صناديق الاقتراع عن حجم ضئيل للحضور الشعبي لقوى اليسار التونسي بفصائله المختلفة، حيث عجز عن الخروج من الدائرة الصفرية، على الرغم من القانون الانتخابي الذي تم وضعه بالتفصيل لتمكين مثل هذه الأحزاب ضئيلة الحجم أن تجد لها موطئ قدم في المجلس التأسيسي. ولم يكن اليسار التونسي (ونعني باليسار هنا الفصائلي منه أو ما يمكن تسميته باليسار الثقافي) يؤمن يوما بالديمقراطية القائمة على الانتخابات والتداول السلمي على السلطة، ففكرة الديمقراطية ظلت غريبة عن أدبياته وعن ممارساته، وهو أمر اعترف به بعض رموز اليسار أنفسهم في إحدى لحظات التجلي، حيث يؤكد محمد الكيلاني، زعيم الحزب الاشتراكي، أن اليسار ‘مازال إيديولوجيا أكثر منه سياسيا.. وان الديمقراطية في منظومته الفكرية بصفة عامة وأساسية مازالت محدودة، بحيث أنه ميال إلى نفي الآخر وكل من يخالفه الرأي لذلك تتجلى هذه الميزة في العنف اللفظي والتشنج الذي تتعامل اغلب المكونات به مع بعضها البعض’. ويضيف انه ‘لا مخرج لليسار سوى التباين مع هاته العقلية ودخول مدرسة الديمقراطية من بابها العريض والتواضع والقبول بالعودة إلى المدارس الابتدائية لتلقي الدروس الأولى للعمل السياسي’. يعتقد اليسار أن خصومهم من التيار الإسلامي هم مجرد طارئين على الساحة السياسية وبالتالي لا يعترفون بحقهم في النشاط السياسي، فما بالك أن يتمكن هؤلاء من الوصول إلى السلطة، ومن المعروف تاريخيا أن الكثير من رموز ما يمكن تسميته باليسار الثقافي قد لعبوا دورا جوهريا في تبرير استبداد النظام السابق، خصوصا في ما يتعلق بسحقه للإسلاميين، وهو ما شاركت أيضا فصائل يسارية في إعطائه الغطاء السياسي، ويؤكد عبد الحميد الأرقش، احد الوجوه اليسارية المعروفة، هذا التوجه بقوله، ‘إن فئات واسعة من اليسار صمتت على ذلك القمع وكأنها قبلت أن تقوم الدولة القمعية بدور السد أمام تصاعد المد الإسلامي’. والحقيقة ان الأمر يتجاوز مجرد التواطؤ بالصمت إلى المشاركة بالتحريض والتبرير، وهو ما افقد بعض القوى اليسارية مصداقيتها أمام الرأي العام، ويعتبر احد أسباب تراجعها الجماهيري ويحمل فيصل الزمني (حزب اليسار الحديث) مسؤولية هذا التراجع في المقام الأول ‘لحزب الدستور بشقيه الاشتراكي الدستوري والتجمع (الحاكم سابقا) مسؤولية تخلف اليسار، إضافة إلى الانتهازيين اليساريين الذين دخلوا التجمع. أما السبب الثاني فهو أن اليسار نسي الفكر التحرري الحي ونظرياته العلمية وتفرغ لقتال الإسلاميين، فلعب بذلك دور العجلة الخامسة لحزب الدستور ( الحاكم)’. واليوم تحاول قوى اليسار استعادة دورها في المشهد السياسي عبر تبنيها لمنهج انقلابي يرفض الاحتكام للمنطق الديمقراطي ساخرا من الخطابات التي تدعو لاحترام ما تفرزه صناديق الاقتراع، ولعل هذا الأمر يجد جذوره في عامل سيكولوجي ثاو في بنية التفكير اليساري ذاته، فقد اعتاد يساريو تونس على ممارسة منطق الأستاذية على الشعب فهم الأكاديميون والمنظرون أصحاب الأفكار التقدمية الحداثية، الذين يعرفون مصالح هذا الشعب أكثر من الشعب ذاته، وهو ما يجعلهم يراكمون نوعا من العقد الاستعلائية التي تنفر من كل ممارسة يكون فيها الشعب حكما، بل يعتقدون أن حقهم في ممارسة الوصاية لا يمكن مراجعته أو التنازل عنه، ألم يكن حمة الهمامي مثلا من أوائل الذين نادوا بمجلس تأسيسي ودعا إلى تشكيل روابط حماية الثورة، لنجده لاحقا وبعد أن باحت الصناديق بأسرارها من المطالبين بحل هذا المجلس وحظر روابط حماية الثورة بمنطق سياسوي لا يخلو من تقلب في المواقف بصورة تفتقر لأدنى شروط الحكمة السياسية . ليس غريبا أن يتبنى اليسار التونسي كل هذا المنطق الانقلابي وان يرفض العملية الديمقراطية برمتها، وان يتحول إلى داعم لأي قوة استبدادية قد تفتك بالحكم شريطة أن تفتك بخصومه الإيديولوجيين وان تقصيهم من المشهد، تحت يافطات حداثية مزورة ورايات إيديولوجية مفعمة بروح الانتقام ومنطق الثأر الأسود، ألم يدفع اليسار الجزائري باهظا ثمن انحيازه للعسكر وتبريره للانقلاب على المسار الديمقراطي لينتهي به المطاف للتلاشي والاندثار؟ إن لعبة الكراسي التي تلعبها فئات من اليسار التونسي اليوم ورغبته المجنونة في الوصول إلى السلطة على حساب خيارات الشعب لن تفضي به في خاتمة الطريق إلا إلى نهاية دراماتيكية، فالأحزاب والتيارات والجماعات السياسية أيضا لها اجلها وإذا جاء أجلهم لا يستقدمون ساعة ولا يستأخرون .