كأن بوصلة الوقت هربت مني! تشابهت أيامي، حتى ما عدتُ أتعرف على وجوهها. بهدوء انفرطت مسبحة أصدقائي. صارت ساعات يومي تعبر، تلفوني مُستغرِق في غفلته. شيئاً فشيئاً تعوّدت الصمت، ونتف ذكريات تلمع أمامي وسرعان ما تنطفئ.
أعيش بقرب زوجتي سالمة وابنتي حنان. عدتُ لقراءة الجرائد، ومشاهدة قنوات التلفزيون الإخبارية، وعندما تزهق روحي، أترك صالة جلوسنا، وتأخذني خطواتي إلى حديقة بيتي الصغيرة، أجلس على المقعد الخشبي في ظل شجرة السدر المعرشة. يحتويني الهدوء، ويلذّني شمُّ رائحة العشب المقصوص. أسهو بشيء من مشاغبات العصافير. ويزعجني الهاجس: كبرت! ويحوم السؤال فوق رأسي: كيف ركضتْ سنيني؟!
ما زلتُ اجلس مُنتظراً مقابلته!
«بابا، ماما تقول إنك تعرف الدكتور نازل النازل؟».
سألتني ابنتي حنان ربما قبل أسبوعين.. استغربت كلمتها: الدكتور! وكما لو أني أكلّم نفسي سألت: «دكتور؟».
«نعم، الدكتور النازل، وكيل الوزارة!»
فهمتُ منها أن أمر تعيينها بيد نازل، الذي كان يعمل موظفاً كسولاً وكثير الكذب في مكتبي، يوم كنتُ وكيل الوزارة.. قلتُ لها: «حبيبتي، لا أحب طلب شيءٍ من أحد!». ولأنها ظلت تنظر إليَّ برجاء عينيها، أضفتُ: «مُذلٌّ الوقوف في طلب حاجة!». لكنها حنان ابنتي الوحيدة، ولا أريد كسر خاطرها.
لأيام ظلت الفكرة تخيّم أمامي حيثما جلست. سالمة قالت لي: «لا تكبّر الموضوع، زيارة قصيرة، مؤكد سيستقبلك الرجل بالترحاب، أنت رئيسه السابق، وسيوقع التعيين». دفعتُ نفسي مُرغَماً واتصلتُ بمكتب النازل. أخذتُ موعداً، وجئت قُبيل موعدي.
مُنذ حوالي الساعة استقبلتني مديرة مكتبه. أخبرتني أن الدكتور في اجتماع وسيراني حال ينتهي. ذكّرتها بوقت موعدي، فردّت: «سيُقابلك حال ينتهي».
بلعتُ ضيقي، وجلستُ ولم أزل في مكاني.
قبل قليل فكّرتُ أن أعود إلى بيتي، لكن خيال حنان…
أكثر من موظف سابق مرَّ، وسلّم عليَّ وأنا غاطس في مقعدي. دار ببالي أن أخبر السكرتيرة…
ظلت حاجة ابنتي تشدني للمقعد، وتمنعني من الهرب. مضى عليها أكثر من سنة ونصف السنة دون وظيفة.
فجأة دخل مقاولٌ يعرفني، فسلّم عليَّ: «السيد الوكيل!». انحنى يصافحني، وتسرع السكرتيرة نهضت ترحب به، فسألها: «صاحبنا موجود؟».
مُبتسمة خرجت من خلف مكتبها المزدحم، وقد تهلل وجهها، مرددة: «نعم، نعم، تفضل، تفضل».
فتحت الباب له، فسمعتُ صوت نازل الذي أحفظ. «أهلاً وسهلاً بالمقاولات..».
عادت السكرتيرة لمكانها، فانتزعتُ نفسي من مقعدي. وقفتُ وشيءٌ من دوّار في رأسي.. ربما اعتقدتْ هي أنني سأدخل على نازل، فخاطبتني: «حين يُنهي الدكتور..».
رمقتها بضيقي، فلاحت نظرة خوفٍ في عينيها، واستدرتُ أخرج أجرُّ خطواتي دون أن ألتفتُّ إليها.
ثقيلة قدماي، الهواء يهرب من أمامي. أجد صعوبة في التقاط أنفاسي. أشعر بدويٍّ في أذنيّ، بينما يختفي المصعد بعيداً في نهاية الممر الطويل.
روائي وقاص كويتي ِ
تنتمي القصة إلى ما يمكن أن ندعوه بتيار الواقعية الحديثة، حيث تهيمن الفكرة على نسيج القصة منذ البدء، ويحسب للكاتب، بالإضافة إلى صفاء اللغة ودقتها، انتقالاته السردية المحسوبة، فلا يوجد ما هو خارج النص، حتى الوصف اختفى من النص، ولا نجد ثمة غير الحوار والسرد. البلاغة الشاحبة هي إحدى سمات القصة الحديثة، وكأن القاصّ ينظر إلى الواقع من خلال عدسة مجهر، وينقل لنا ما يراه في الشريحة بلغة علمية لا تحتمل التزويق الفني، ذلك أن الوقت لا يسمح بذلك، وكذلك المزاج والظرف.
الأسلوب ممتع استمتع يقصصك رحلة شيقة