يمثل التقرير الأخير للبنك الدولي عن التنمية في العالم علامة مميزة من علامات تطور نظرة البنك إلى العالم، ورؤيته لمقومات وعناصر التنمية في مرحلة مضطربة من مراحل التطور الاقتصادي. وقد اعتاد بعض الاقتصاديين وصناع السياسة الاقتصادية في الدول النامية على تقييم سياسات وتقارير البنك الدولي من وجهة نظر سياسية – أيديولوجية مسبقة، تعتبره أداة من أدوات الإمبريالية الأمريكية في الهيمنة. ومع أن وجهة النظر هذه كانت وستظل صحيحة بشكل عام، فإن ذلك لا يلغي حقيقة أن البنك، يحاول من آن لآخر أن يقدم وجهة نظر راديكالية تخالف الفكر الاقتصادي الرسمي للولايات المتحدة وصندوق النقد الدولي، وهو فكر يتخذ من «إجماع واشنطن» أساسا له، من حيث الإفراط في الاعتمادات على السياسات النقدية والخصخصة وتحرير التجارة. وفي هذا السياق فإن التقرير الأخير يمثل افتراقا مع إجماع واشنطن، من حيث التأكيد على ضرورة تنمية جانب العرض، باستثمارات يمكن أن تلعب الدولة فيها دورا رئيسيا. وبينما يرى الصندوق أزمة التنمية في الدول النامية من منظور نقدي بالدرجة الأولى، فإن تقرير البنك يعيد التأكيد على أهمية الاقتصاد العيني، ودور الدولة والقطاع الخاص في تنمية رأس المال البشري والتجديد التكنولوجي. ويؤسس تقرير البنك قواعد مربع جديد لتحقيق التنمية يضم الدولة والقطاع الخاص والمؤسسات العلمية التكنولوجية ومنظمات المجتمع المدني بما فيها النقابات واتحادات الصناعات.
وفي إمكاننا أن نضم هذا التقرير إلى العلامات البارزة الأخرى في تاريخ سياسات البنك، مثل تقرير «التشاركية في الازدهار» عام 2011 الذي أعاد فيه البنك تعريف الفقر، متجاوزا حدود الدخل إلى كافة مكونات الفقر الاجتماعي وليس الفقر النقدي فقط. وقد نشأ على أساس هذا التقرير جدول جديد لقياس الفقر في الدول النامية. وكان هناك أيضا التقرير الرئيسي المعنون «دور الدولة في عالم متغير» الصادر عام 1997 أي قبل وقوع الأزمة المالية العالمية عام 2008 بعشر سنوات، وفيه استخلص البنك استنتاجا كبيرا يفيد بأهمية دور الدولة في التنمية، وهو ما تأكد في سياسة الخروج من الأزمة. وقبل ذلك كانت هناك ورقة عمل مرورية في تقييم استراتيجيات إحلال الواردات عام 1986 حدد فيها خبراء البنك اسباب فشل نموذج النمو عن طريق اشباع الطلب الكلي بواسطة الإنتاج المحلي، من خلال صناعات إحلال الواردات. إن هذه التقارير وغيرها، إضافة إلى تقارير تصدرها مؤسسات أخرى مثل تقرير التنمية البشرية الذي يصدره الصندوق الإنمائي للأمم المتحدة، تمثل أدوات مهمة يستعين بها صناع السياسة الاقتصادية في الدول النامية. لكن الفترة السوداء في تاريخ البنك الدولي التي تولى فيها رئاسته روبرت مكنمارا وزير الدفاع الأمريكي حتى ترك منصبه في عهد الرئيس جونسون، ما تزال ظلالها تخيم على النظرة السلبية إلى البنك ودوره في إفساد سياسات التنمية في العالم.
مصيدة الدخل المتوسط
يمكن تلخيص المعضلة الرئيسية داخل مصيدة الدخل المتوسط في أن النمو الاقتصادي في البلدان المتوسطة الدخل لا يتسارع. بل إنه يتباطأ مع زيادة الدخول، ويزداد تباطؤاً مع كل عقد من الزمان. وعلاوة على ذلك، فإن البلد المتوسط الدخل لا يلحق بمستويات الدخل في الاقتصادات المتقدمة، مع أن معدل نموه يكون أكبر. وطبقا للدراسات الواردة في التقرير، فقد ظل متوسط الدخل الفردي في الدول ذات الدخل المتوسط، منذ سبعينات القرن الماضي، أقل من عُشر مثيله في الولايات المتحدة. أما الآن فإن زيادة حدة التوترات الجيوسياسية، والتقلبات البيئية، والديموغرافية ستؤدي إلى جعل التنمية أكثر صعوبة عن ذي قبل. وحتى تستطيع الدول النامية تحقيق التنمية بالقدر الكافي حتى تنتقل إلى مصاف الدول المتقدمة فإنها ستحتاج إلى معجزات. ويبلغ عدد الدول المتوسطة الدخل في العالم، حاليا حسب تقدير البنك 108 دولة. وهي تلك التي تمكنت من اجتثاث الفقر المطلق تماما ويتراوح متوسط الدخل الفردي فيها بين 1136 دولارا إلى 13845 دولارا سنويا للفرد، يعيش فيها حوالي 6 مليارات نسمة. وخلال الفترة منذ بداية العقد الأخير من القرن العشرين حتى الآن تمكنت 34 دولة من الانتقال إلى فئة الدول ذات الدخل المرتفع. لكن الوزن السكاني لهذه الدول لا يتجاوز 250 مليون نسمة، أي ما يقل عن عدد سكان باكستان. ومع ذلك فإن آفاق خروج الدول التي ما تزال مصنفة متوسطة الدخل ساءت كثيرا في العقد الحالي. وأهم العوامل التي أسهمت في ذلك تتمثل في ارتفاع نسبة كبار السن، نمو النزعة الحمائية في الدول الصناعية الغربية، إضافة إلى زيادة الضغوط من أجل التحول الأخضر بسرعة، وهو ما يمثل عبئا إضافيا بسبب تكلفة التخلي عن الوقود التقليدي. هذا يعني أن محاولات الدول النامية المتوسطة الدخل، الانطلاق إلى دائرة الدخل المرتفع تجري داخل نطاق ضيق جدا، بسبب عوامل داخلية وخارجية في وقت واحد. ولهذا فإن التقرير يعتبر أن فرص نجاح هذه المحاولات في تحقيق الهدف المنشود خلال جيل أو جيلين لم تكن أبدا أسوأ مما هي عليه الآن.
وتأسيسا على تجارب التنمية منذ خمسينات القرن الماضي حتى الآن، واستخدام منهج التحليل الاقتصادي الشومبيتري (نسبة الى جوزيف شومبيتر) فإن تقرير البنك الدولي عن التنمية في العالم 2024 يحدد طريقا يمكن للدول النامية الصاعدة أن تسلكه لتجنب الوقوع فيما يعرف الآن بـ «مصيدة الدخل المتوسط». ويحدد التقرير حاجة الدول النامية المتوسطة الدخل، الساعية لتجنب الوقوع في هذه المصيدة إلى عبور مرحلتين من مراحل الانتقال، وليس مرحلة واحدة. المرحلة الأولى هي الانتقال من عملية تسريع معدل الاستثمار، إلى المرحلة الثانية التي تركز على الاستمرار في تسريع الاستثمارات، والبدء في توطين التكنولوجيا من الخارج، عن طريق استقدام تكنولوجيا غير موجودة وضخها من خلال قنوات الاستثمار في الداخل. في هذه الحالة فإن حكومات الدول النامية المتوسطة الدخل يقع على عاتقها أن تضيف إلى استراتيجيات النمو عن طريق زيادة الاستثمار، إجراءات جديدة لضخ تكنولوجيات حديثة، وأساليب إدارة أعمال ناجحة تستعين بها من كل أنحاء العالم إلى اقتصادها القومي. وهذا يتطلب إعادة تشكيل قطاعات واسعة من الصناعات المحلية، حتى تصبح جزءا من سلاسل الإمدادات العالمية في السلع والخدمات.
وبعد تحقيق الأهداف المطلوبة تأتي المرحلة الثانية، التي تتمثل في الانتقال من مرحلة حقن أو توطين تكنولوجيا مستوردة من الخارج إلى مرحلة ابتكار تكنولوجيا جديدة أكثر تقدما من التكنولوجيا السائدة في الأسواق العالمية. وهي مرحلة لا تنفصل عن مرحلة تسريع معدل الاستثمار، ومرحلة توطين التكنولوجيا، وإنما تمثل ذروة لهما معا، عن طريق ابتكار تكنولوجيا محلية – عالمية تتكامل مع احتياجات عملية تطوير علاقات الصناعات المحلية بسلاسل القيمة العالمية (امدادات السلع والخدمات). إن الدول المتوسطة الدخل عندما تصل إلى هذا المستوى، فإنها تكف عمليا عن مجرد شراء حقوق الملكية الفكرية، ويتغير دورها في سوق براءات الاختراع والتصميمات الصناعية من مجرد مشتر إلى منتج. وهي في هذه الحالة لا تتوقف عند مجرد إنتاج تكنولوجيا مشابهة، بل إنها تبدأ في العمل على كسر حدود أو قيود التجديد التكنولوجي، وتفتح أبوابا إلى عالم من المنتجات الجديدة أو أساليب الإنتاج الجديدة، وهو ما ينطوي أيضا على تحقيق تقدم سريع في مجالات الانتقال من عصر الطاقة التقليدية إلى عصر الطاقة الخضراء، وتغيير علاقة الإنتاج بالبيئة من علاقة تنافس وصراع إلى علاقة تعاون. وهذا يتطلب بالتأكيد إعادة هيكلة العمليات الإنتاجية، وعلاقة السوق بالمجتمع، في اتجاه المزيد من الحرية الاقتصادية والشفافية، وكذلك إعادة هيكلة سوق العمل، وإزالة كافة القيود على حرية الحراك الاجتماعي، وإطلاق كافة القدرات التنافسية ثقافيا واجتماعيا واقتصاديا.
شروط الإدارة الناجحة
إن التحولات عبر استراتيجيات النمو في المراحل المذكورة لا يحدث تلقائيا، بل انه يعتمد على مدى نجاح المجتمعات في التعامل بذكاء مع البيئة الاقتصادية، أو إدارة العلاقات بين قوى الإبداع، والمحافظة على الأمر الواقع، والتدمير، بالطريقة التي تضمن تحقيق التقدم الى الأمام بأقل تكلفة وأقصى عائد. وتستطيع المجتمعات أن تحقق ذلك من خلال مساءلة القائمين على السلطة وإعادة هيكلة مؤسساتها، ومكافأة أصحاب الكفاءات والمهارات، والاستفادة من الأزمات، بمعنى التعامل معها على أنها فرص تلوح دائما في الأفق عندما تكون هناك حاجة إلى إدخال تغييرات عميقة وسريعة. ومع أن قوى الحكم ومراكز اتخاذ القرارات، والمؤسسات الكبرى، والشركات المملوكة للدولة، والشخصيات العامة ذات النفوذ، يمكن أن تضيف قيمة كبيرة خلال مراحل وعمليات النمو والتحول، إلا أنها بالقدر نفسه يمكن أن تكون عائقا. ومن ثم فإنه من الضروري أن تقيم الحكومات نظاما واضحا ونافذا للمساءلة، وأن تقبل بوجوده وتفعيله، من خلال أنظمة للمنافسة السياسية والإدارية والاقتصادية، تشجع دخول كفاءات جديدة دون عراقيل أو صعوبات أمام المشاريع الصغيرة والمتوسطة، ومن دون التحيز ضد المؤسسات الكبرى وتشويه سمعتها. الواقع أن الدول النامية المتوسطة الدخل لديها مخزونات محدودة من المواهب والكفاءات مقارنة بالدول المتقدمة، كما أنها أقل كفاءة منها في القدرة على الاستفادة من الكفاءات المتوفرة فعلا لديها. لذا يتعين عليها أن تصبح أفضل في تعبئة وتخصيص الموارد البشرية ذات المهارات النادرة.
أما بالنسبة لمصادر الطاقة، فإننا نعرف أنها كانت رخيصة في الماضي، حيث تم الاعتماد على الفحم ثم على النفط والغاز، وهو ما ساعد على تحقيق التنمية الاقتصادية السريعة بتكلفة منخفضة، من دون أي قيود أو اعتبارات بيئية. لكن الوضع تغير الآن، حيث أن تحقيق التنمية أصبح يرتبط في الوقت نفسه بضرورة المحافظة على الكوكب الذي نسكنه صالحا للعيش، وهو ما يتطلب قدرا كبيرا من الاهتمام بكفاءة استخدام الطاقة وتقليل الانبعاثات السامة، بواسطة الدول النامية والمتقدمة على السواء، هذا يتطلب الانتقال إلى عصر الوقود النظيف الأخضر.
نماذج ناجحة
ولكي تتمكن الدول ذات الاقتصادات المتوسطة الدخل، من استيراد أحدث التقنيات، والمعرفة بامكانات السوق، وتطبيق أساليب ممارسات الأعمال المستخدمة في الخارج، فضلاً عن تسريع انتشارها في الداخل، فإنها يجب أن تعمل بقوة وذكاء على تغيير مسارها. وفي هذا السياق، يتعين على صناع السياسات في هذه الدول أن يدعموا الشركات المستعدة والقادرة على دمج التقنيات العالمية في الإنتاج. ولكي تتمكن تلك الشركات من تحقيق أقصى استفادة من التقنيات الجديدة، فإنها تحتاج إلى أعداد كبيرة من العمال المهرة من الناحية الفنية، فضلاً عن إمدادات كافية من المهندسين والعلماء والمديرين وغيرهم من المهنيين ذوي المهارات العالية.
وتميل البلدان المنفتحة نسبياً على الأفكار الاقتصادية من الخارج والتي أنشأت برامج قوية للتعليم الثانوي والتدريب المهني في الداخل إلى تحقيق أداء أفضل من تلك التي لم تفعل ذلك. وتؤكد تجارب ثلاثة اقتصادات نمت بسرعة من اقتصادات ذات دخل متوسط منخفض إلى اقتصادات ذات دخل متوسط مرتفع، أن هذه البلدان قادرة على تحقيق نمو اقتصادي أفضل من غيرها، إلى مستويات الدخل المرتفعة. من أفضل الأمثلة على ذلك في العقود الأخيرة، تبرز تجارب تشيلي، جمهورية كوريا وبولندا. وقد يكون نجاح كوريا أفضل دعم للحجة القائلة بأن استدامة النمو المرتفع يتطلب إضافة ضخ تكنولوجي لتسريع الاستثمار، ثم التقدم من ذلك إلى مرحلة أعلى باستخدام سياسات إطلاق الاختراع والابتكار. لقد كانت كوريا من بين أقل البلدان نمواً على مستوى العالم في أوائل الستينيات، حيث بلغ نصيب الفرد من الناتج أقل من 1200 دولار أمريكي في عام 1960. وبحلول عام 2023 أي بعد خمسة عقود، ارتفع نصيب الفرد من الدخل في كوريا إلى حوالي 33000 دولار أمريكي. هذا النجاح الذي حققته كوريا بواسطة ما يمكن أن نطلق عليه استراتيجية الاستثمار الثلاثية لكسر مصيدة الدخل المتوسط، يثبت أنه يمكن فعلا كسر مصيدة الدخل المتوسط، والصعود إلى مصاف الدول الغنية خلال جيلين فقط. وهذا هو التحدي الذي يجب أن تنتصر فيه الدول المتوسطة الدخل في الوقت الحاضر.