مطاردة المبدعين

يبدو العالم المتحضر وكأنه قد انتهى من مطاردة الإبداع والمبدعين، لكننا في عالمنا العربي لا نزال نعاني من ذلك، الفهم الساذج السائد عن الإبداع، إنه يجب أن يقدم الواقع في صورته الحلوة. بينما الفن والأدب لا يقدمان الواقع كما هو، بل يقيمان واقعا موازيا له أخياره وأشراره، ويتحرك الجميع فيه بدون قوانين اجتماعية. فقط هو الصدق الفني أساس التصوير للشخصيات الأدبية صالحة أو شريرة، وهو الجمال في اللوحات التشكيلية حتى لو كانت تصور ثورة أو حربا أو دمارا.
الإبداع الأدبي أو الفني ليس كله من عقل الكاتب، فالكاتب وهو يكتب رواية أو قصة تستحوذ عليه شخصياتها، وتتحدث بلغتها، فالعاهر أو العاهرة تختلف لغتهما عن القاضي والمدرس وغيرهما، والعربجي غير الطبيب، والكاتب مهمته أن يصل بالصدق الفني إلى نهايته، فيترك نفسه إلى لغة هذه الشخصيات، بل يعيدها إلى حقيقتها إذا خرجت عن الصدق. فالعاهرة لا يمكن أن تقول «عمت مساء يا رفيقي» لكن يمكن أن تقول كلمات من نوع «مساء الفل ياروح أمك». وإذا وجد شخص ملحد في الرواية، فأزمته تكون أمام الآخرين غير الملحدين، لكن هناك من لايزال يقف عند هذه الشخصيات، ولا يتوقف عند الشخصيات الأخرى من غير الملحدين، أو من غير الضائعين، ويعطي الكاتب مكافأة على ذلك. المتربصون بالإبداع لا يقرأون العمل الأدبي كاملا، بل ينتقون منه ما يناسب أمزجتهم ورغبتهم في التشويش على الكتاب، وبعضهم يجري إلى النيابة للتقدم ببلاغ، ويتحول الأمر إلى قضية في المحكمة.
تاريخ محاكمة الكتاب والأدباء والفنانين قديم، ولا أحد يحاول أن يفهم معنى الصدق الفني في تجسيد الشخصيات الأدبية، ولا البحث عن الجمال في اللوحات التشكيلة، ولا أن الأفكار لا تتوقف عند المفكرين، فالعالم يمضي إلى الأمام والأفكار تتغير فتتغير معها الحياة والمجتمعات. منذ سقراط حتى اليوم لا تتوقف المسألة، وإن توقفت في العالم المتحضر فهي لا تتوقف في عالمنا العربي، الذي استحوذت فيه النظم القمعية على الفضيلة ومعناها، أو النظم الدينية فلا فرق. لا أحد يتذكر محاكمة غوستاف فلوبير في القرن التاسع عشر، بعد روايته «مدام بوفاري»، ولا الهجوم على ديفيد هربرت لورانس بعد روايته «عشيق الليدي تشاترلي» عام 1928. ولماذا نتحدث عن حالات فردية؟ لا أحد يتذكر ما جرى في برلين عام 1933، حين أحرقت الدولة النازية عشرين ألف كتاب، وقام التلاميذ النازيون في مدن أخرى بحرق كثير جدا من الكتب، حتى هجر ألمانيا كتاب مثل إريك ماريا ريمارك وتوماس مان وبرتولد بريخت وغيرهم. وحظرت ألمانيا تداول كتب من تبقى من الكتاب مادامت تراه غير متسق مع الفكر النازي. الأمر نفسه حدث في الاتحاد السوفييتي، فما أكثر المحاكمات التي أديرت لكتاب أثناء الفترة الشيوعية، أو الذين تمت محاصرة أعمالهم مثل إسحق بابل وأندريه بلاتونوف وميخائيل بولجاكوف وباسترناك والشاعرة أنا إخماتوفا والشاعرة مارينا تسفيتايفا وغيرهم عشرات، وبعضهم بقي وبعضهم هاجر وبعضهم انتحر، وتستطيع أن تمد الخيط إلى إيطاليا الفاشية والصين الشيوعية وأمريكا اللاتينية الديكتاتورية، ولا أحد يسأل نفسه كيف انتهت هذه النظم القمعية وبقيت الكتب.

هناك قضايا مرفوعة ضد نوال السعداوي بسبب معارضتها لختان المرأة، وكيف ترى ذلك خارجا على الدين، ومعارضتها لتعدد الزوجات وغير ذلك من صور ذكورية المجتمع وكتبها العظيمة عن ذلك، بينما المجتمعات تتقدم وسوف تتجاوز ذلك

وفي الوقت الذي يبدو فيه هذا قد انتهى أو انحسر من العالم، لا نزال هنا ننظر إلى الإبداع باعتباره عملا سياسيا، أو عملا دينيا، يجب أن يحض على الفضيلة، بينما هو أصلا لا يحض على الرذيلة، حتى لو امتلأت الرواية أو الفيلم بالعاهرات، فمتعة قراءة ورؤية شخصيات حية هي متعة الأدب، وليس الفكر المباشر، والأدب عموما لا يُعنى بالأسوياء فهم عاديون مألوفون، أو هكذا يجب أن يكون الناس، وتساهم الأسرة والتعليم في ذلك، لكن الأدب يعنى بالمُهمشين وغير المتوافقين مع المجتمع، ولكن من يفهم ذلك؟
على الكاتب أن يقدم شخصيات طيبة بينما هذا هو العادي في حياة الناس، إذا انتقلنا إلى الفن فاللوحات العارية مسبة، ولا ينظر أحد إلى الجمال فيها، لكن النظرة الجنسية هي التي تحرك المعارض لهذا الإبداع. وفي النهاية لا يدرك أحد أن الأدب والفن سلعة ما لا يعجبك فيها لا تقرأه ولا تذهب إلى رؤيته، ولن يستطيع أحد أن يجبرك على القراءة أو الذهاب إلى معرض فني. الأمر نفسه في السينما فمشاهد الحب يجب أن تكون من بعيد، بينما لا يأخذك أحد إلى السينما بالقوة، وفي التلفزيون تستطيع أن تغلق القناة، لكن الحديث عن الفضيلة هو راية مهاجمي الفنون والآداب والفكر أيضا، بينما بسبب القهر يعد العالم العربي من أكثر المتابعين للمواقع الجنسية على الإنترنت. هل يصدق أحد أن السعودية تتصدر المشهد في ذلك تليها مصر؟ في مصر تاريخ المحاكمات قديم أشهره محاكمة طه حسين، بسبب كتابه في الشعر الجاهلي، حتى نصر حامد أبوزيد، أما محاكمة الأدباء فعلى رأسها نجيب محفوظ، الذي حوكم غيابيا من قبل الجماعات الإسلامية، وحكم عليه بالقتل فتم طعنه، لكن كما قال مبتسما لمن زاروه في المستشفى «الجبلاوي نجاني» وتمت يوما محاكمة كاتب هو علاء حامد على رواية بعنوان «مسافة في عقل رجل» وحكم عليه هو وناشره بالسجن، وموزع الرواية الحاج مدبولي، رحمه الله، وتم وقف الحكم من قبل الرئيس حسني مبارك حين طالبه بعض المثقفين بذلك في معرض الكتاب. وآخر المحاكمات كانت محاكمة الكاتب أحمد ناجي.
كما أن هناك قضايا مرفوعة ضد نوال السعداوي بسبب معارضتها لختان المرأة، وكيف ترى ذلك خارجا على الدين، ومعارضتها لتعدد الزوجات وغير ذلك من صور ذكورية المجتمع وكتبها العظيمة عن ذلك، بينما المجتمعات تتقدم وسوف تتجاوز ذلك، وطبعا أحمد فؤاد نجم نال ستة عشر عاما من السجن انقسمت ثماني سنوات في عهد عبد الناصر وثماني سنوات في عهد السادات، ويالها من قسمة! الأمثلة كثيرة من العالم العربي أيضا قد تأخذ المقال كله في العراق وسوريا والسعودية والجزائر والمغرب وغيرها، ووصلت إلى محاكمة أشخاص بسبب تغريدة أو أكثر على الفيسبوك أو تويتر، بينما العالم يمضي إلى الأمام . ومن عجب أن من يتقدمون بالشكوى إلى المحاكم يدافعون عن نظم سياسية قوية ومستقرة، أو مؤسسات دينية قوية ومستقرة، ولا يفهم أحد أن اهتزاز النظم أو الثورات لا تأتي من قصيدة أو رواية أو لوحة تشكيلية أو فيلم، رغم ما يشدو به الثوار من أشعار أثناء الثورات، فالثورات تحدث لأسباب اقتصادية واجتماعية وسياسية أكثر مما تحدث بسبب قصيدة، وإن كانت القصيدة تؤثر في روح سامعها، لكنه ينتظر الفرصة التي ينفجر فيها المجتمع للأسباب السابقة. الأمر طبعا لم يقف عند المحاكمات فما أكثر الكتاب والمبدعين الذين هاجروا أوهجروا أوطانهم خوفا أو خشية من ظلم المحاكمات التي انتهى منها العالم المتحضر تقريبا. نظم سياسية وهيئات دينية تملك كل شيء وتضع لك حدود الفهم والإبداع، ولا تسمح لك أن تتحدث عن أفكارها وأعمالها، بينما تستبيح أفكارك وإبداعك الأدبي والفني بفهمها المغلوط للأدب والفن الباحثان فقط عن الجمال الفني في الصورة والمشهد، وهو ما لا يوجد في هذا العالم القاتل.

٭ روائي من مصر

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول علي:

    صديقي إبراهيم: كنت أتمنى أن تتناول إحراق كتب سيد قطب وحسن البنا وآخرين في إحدى مدارس الجيزة بحضور وكيلة وزارة التعليم وكبارمساعديها،كما كنت أتمنى أن تتناول مطاردة ما يسمى كتب الإخوان في وزارة الحظيرة

  2. يقول علي:

    2- عزيزي إبراهيم: الفن موهبة وحرفة كما كان يقول العم يحيى حقي. نجيب محفوظ مثلا تناول كل القضايا بما فيها الجنس والإلحاد واللواط بفن ودون أن يجرح نظام المجتمع (السكريةعلى سبيل المثال)، ومحمود سعيد رسم البيئة الشعبية في مباذلها دون أن يجرح شعورا، بل قدم الجمال الفني لأنه يملك أدواته.أما إخواننا الذي لم يتواضعوا وسمحوا لأنفسهم أن يتسموا بالمبدعين- وهم ليسوا كذلك أبدا- فقد جعلوا الفن بورنو مقززا، وإلحاداغبيا يؤذي عقائد الناس، وبالطبع لم يقتربوا من السياسة والاستبداد،لأن من يملكون الحظيرة قادرون على طردهم فورا لو اقتربوا من هنا. الفنان الموهوب الحرفي قادر على التعبير عما يريد وتقديم الجمال أيضا،ولكن أنصاف الموهوبين وأصحاب المواهب الضحلةلا يملكون إبداعا ولا جمالا.

  3. يقول علي:

    استدراك:
    هل الختان أو تعدد الزوجات أو كتابة المرأة اسمها منسوبا إلى أمها بدلا من أبيها، أهم من نكبة الاستبداد وحرية المجتمع برجاله ونسائه؟ ماذا عن المرأة السجينة أو المعتقلة بسبب رأيها أو انتمائها، وتعذب في السجون وتتعرض للتحرش والاغتصاب كما يحدث في سجون بلحة والمنشار وبشار وغيرهم؟ أين ما كتبه السادة المبدعون (!) عن هذا النوع من النساء؟ هل الإبداع هو الإلحاد؟ هل الإبداع هو الولاء للغرب المتوحش الذي أذلنا ونهبنا وعين وكلاءه لجلدنا وقهرنا؟

إشترك في قائمتنا البريدية