تلك أوراق يضمها نتنياهو إلى صدره حتى اللحظة الأخيرة. عشية زيارة الرئيس بوتين إلى البلاد ثمة شخصان في إسرائيل يعرفان ما سيتم الاتفاق عليه مع موسكو حول إطلاق سراح الفتاة نعمة يسسخار المسجونة في روسيا، وهما: رئيس الحكومة بنيامين نتنياهو، ومستشار الأمن القومي مئير بن شبات الذي ناقش تفاصيل الصفقة مع روسيا. يظهر نتنياهو التفاؤل الحذر ويبث علامات حول إطلاق سراحها القريب. ويتحدث الجهاز السياسي والأمني عن تنازلات متوقعة من إسرائيل مقابل بادرة حسن النية التي يبلورها بوتين. ولكن لم يقل أي شيء حتى الآن بشكل مؤكد.
شخّص نتنياهو في مرحلة سابقة قضية يسسخار كمتاهة بحاجة إلى تدخله الشخصي، وستؤثر على الطريقة التي سينظر فيها الجمهور إلى منصبه. هذا بعد تفاخر رئيس الحكومة بعلاقته الحميمية مع زعماء العالم، خاصة العلاقات الشخصية والاستراتيجية التي طورها مع بوتين. وفي صالحه يُقال بأنه يبذل جهوداً كبيرة لإطلاق سراحها.
يسسخار هي ابنة الجار المقابل التي يعني مصيرها كثيرين في أوساط الجمهور الإسرائيلي، وهي مجندة سابقة تورطت في مخالفة غبية، تبدو صغيرة، وحملت معها كمية صغيرة من المخدرات الخفيفة، وتم اعتقالها في طريق عودتها من الهند في رحلة طيران مباشرة عبر موسكو. والمعاملة الروسية الفظة أثناء المحاكمة ثم إصدار حكم قاس، 7.5 سنة سجن، كان ينبعث منها رائحة زعرنة متعمدة. وبعد ذلك تبين كما يبدو أن قرار روسيا يتعلق باعتقال القرصان الروسي في إسرائيل، الذي تم تسليمه في هذه الأثناء للولايات المتحدة بناء على طلبها.
في هذه الأثناء تم القيام بحملة كثيفة وشاملة لإطلاق سراح يسسخار، في البلاد والعالم. عائلة ابرا منغيستو، وهو الإسرائيلي المحتجز منذ خمس سنوات لدى حماس، ستغار من تلك اللافتات التي تم تعليقها على الجسور فوق شوارع رئيسية كثيرة في إسرائيل وتدعو إلى “تحرير نعمة”. أبناء عائلة يسسخار، التي تحمل الجنسية الأمريكية، يكثرون من إجراء المقابلات بالإنجليزية والعبرية لإطلاق سراحها. ونتنياهو في ظهوره العلني وفي الأفلام القصيرة التي صورها في موضوع يسسخار ونشرها مكتبه في الشبكات الاجتماعية، يتحدث بنغمة شخصية مليئة بالمشاعر بشكل استثنائي. “سأعيد نعمة إلى البيت”؛ “لقد عانقت والدتها باسمكم جميعاً”؛ “آمل مثلكم بقدوم بشرى جيدة”. وقد مر زمن طويل كما يبدو منذ أظهر رئيس الحكومة تفهماً متعاطفاً مع أشخاص آخرين.
بوتين مستعد كما يبدو للتعاون، وقد ذهب بعيداً في السير نحو نتنياهو بتقديمه خطوة إنسانية في الربيع الماضي عندما رتب إعادة رفاة جثة الجندي زخاريا باومل التي عثر عليها في دمشق منذ 37 سنة بعد سقوطه في حرب لبنان الأولى. ذلك اللقاء مع نتنياهو وبادرة حسن النية المؤثرة جرت قبل أسبوع من الحملة الانتخابية الأولى للكنيست من بين الجولات الثلاث – حتى الآن. وعلى فرض أن تحرير يسسخار سيتحقق قريباً، فما الذي ستدفعه إسرائيل مقابل بادرة حسن النية هذه المرة؟ مصادر أمنية قالت بأن المقابل لن يكون عسكرياً. فالدولتان راضيتان جداً عن الطريقة التي تم الحفاظ فيها على بروتوكول نظام منع الاحتكاك في سماء سوريا، الذي بلوره الرئيسان بشكل متسرع في أيلول 2015 فور إرسال بوتين سربين من الطائرات القتالية لمساعدة نظام الأسد. ويبدو أن إسرائيل ضبطت نفسها بشأن الخرق الفاضح للتعهد الروسي، حيث لم تف بتعهدها من أيلول 2018 لإبعاد قوات حزب الله ورجال حرس الثورة في سوريا إلى مسافة 7 كيلومترات عن الحدود مع إسرائيل في هضبة الجولان.
المقابل الإسرائيلي، حسب التفاصيل الأولى التي تتسرب لوسائل الإعلام، يمكن أن يشمل على الأقل خطوتين: تحرير أملاك الكنيسة الروسية في القدس، التي تحتجزها إسرائيل، ومنها ساحة ألكسندر (مبنى المسكوبية)، ثم دعم -ولو بصورة تلميحية- أقوال بوتين التي سيلقيها في الغد في الاحتفال بذكرى تحرير أوشفيتس الـ 75. الطلب الروسي الأول تم طرحه منذ عقد، وحتى الآن بقيت الموافقة عليه كورقة مساومة مستقبلية. عضوان كبيران في الليكود والمهاجرين السابقين من الاتحاد السوفييتي سابقاً، يولي ادلشتاين والوزير زئيف الكن، عارضا في السابق نقل الساحة إلى روسيا. ويحق للحكومة تغيير موقفها، لكن بادرة حسن النية هذه إذا تم تنفيذها، ستدل على المسافة التي يستعد نتنياهو لقطعها في هذه المرة، وتحديداً عندما تكون الانتخابات على الأبواب، من أجل إطلاق سراح يسسخار.
الموضوع الثاني أكثر حساسية، فروسيا وبولندا وإسرائيل وألمانيا غارقة في السنوات الأخيرة في حرب تاريخية مهمة جداً حول أحداث الحرب العالمية الثانية وذكرى الكارثة. ومؤخراً، شدد بوتين التصريحات العلنية ضد بولندا في محاولة لتثبيت رواية تاريخية تقول بأنه لم يكن للاتحاد السوفييتي أي دور في كارثة بولندا بشأن قيام النازيين والسوفييت بتقسيمها إلى قسمين فيما بينهم في خريف العام 1939. هذا الموضوع حساس جداً إلى درجة أن رئيس بولندا اندزيه دودا، ألغى قدومه إلى البلاد بعد أن تبين بأنه لن يسمح له بإلقاء خطاب في الاحتفال في “يد واسم”.
هذا حقل ألغام حساس، لكن يبدو أن إسرائيل تقفز فيه بتحمس. رئيس الحكومة تعثر في السابق هنا قبل عام عندما أظهر، استناداً إلى علاقته الوطيدة مع بولندا، الدعم المباشر لمحاولة بولندا إعادة كتابة التاريخ والتملص من المساعدة التي قدمها كثير من مواطنيها لآلة الإبادة النازية. في الوقت الحالي، يمكن لهذا أن يحدث مرة أخرى ولكن بشكل معاكس، فعلى خلفية الخطاب المخطط له لبوتين، بدلاً من إبقاء الماضي للمؤرخين، فإن الزعماء يغرقون في الحرب على الرواية.
لم يناقش أي شيء من ذلك بشكل علني، فالمفاوضات يجريها نتنياهو وبن شبات فقط. وإدارة “يد واسم” تصمت. ووزارة الخارجية غائبة. والسياسيون الإسرائيليون يدسون أنوفهم في المناديل ولا يوجد لديهم شيء لقوله حول هذه المحادثات خوفاً من تخريب الاحتفال بعودة نعمة. بشكل عام، يبدو وكأن عودتها القريبة تغطي -حسب التغطية الإعلامية- على أهمية الاحتفال الذي يجري لإحياء الذكرى الـ 75 على تحرير معسكر الإبادة أوشفيتس – بركناو، بمشاركة أكثر من 40 رئيس دولة، الذين جاءوا البلاد بدعوة من رئيس الدولة رؤوبين ريفلين الذي بلور هذا الاحتفال وقاده.
متملقو رئيس الحكومة ينشغلون في أن يوضحوا لنا إلى أي درجة يدل مجيء الزعماء على مكانته العالية بين الأمم. ورفع ذكرى الكارثة، كما يبدو، هو زينة مساعدة لإنجاز نتنياهو الكبير، الذي خلصنا من رعب العزلة السياسية. وحتى بمفاهيم إسرائيلية في الفترة الأخيرة، ثمة مظاهرة وحشية بصورة استثنائية تجري هنا. وليس غريباً في هذه الظروف أن رئيس بلدية القدس يمكنه دعوة المراسلين الذين سيغطّون المؤتمر الذي سيعقد بعد الاحتفال، حتى لو تم إلغاء الاحتفال الموسيقي في هذا الحدث عندما أصبح الأمر معروفاً لوسائل الإعلام.
بقلم: عاموس هرئيل
هآرتس 22/1/2020