مظاهرات العراق تشعل النزاع القديم بين الصدريين والقوى الشيعية التقليدية

حجم الخط
3

لم يكن انضمام مقتدى الصدر في المظاهرات الأخيرة بالنجف، مفاجئا، فهو الذي قاد كل المظاهرات السابقة المعارضة للحكومة على مدى السنوات السابقة، ورغم أن مطالب المظاهرات تحظى بإجماع من قبل كل العراقيين، إلا أن معاقل التيار الصدري في بغداد، كالشعلة ومدينة الصدر، هي الاكثر حماسة لها، وكان لهذه المناطق النصيب الاكبر من عدد الجرحى والقتلى في حملة القمع الشرسة التي طالت المتظاهرين.
في فيديو نشر مؤخرا، يظهر عدد من الشبان المتظاهرين، ينتشرون بين السيارات فوق أحد الجسور، ويقول أحدهم اننا لن نقلد الإمام السيستاني بعد اليوم، فيسأله أحد الركاب فمن نقلد إذن؟ فيجيبه (السيد مقتدى، نحن مع السيد مقتدى)، رغم أن مقتدى الصدر ليس مرجعا دينيا، بل مقلدا للمرجع الحائري في قم. طبعا لا يعني هذا، أن المظاهرات صدرية بالكامل، حتى أن المناطق الموالية للصدريين لم تنطلق في التظاهر بناء على تعليمات حزبية من قيادتها، وهو يعتبر ركنا من اركان الحكم، وشريكا في تشكيل الحكومة، وكانت هذه المناطق الشعبية الفقيرة، على الدوام خزان التيار الصدري ولليوم، وإن لم تكن موالية له تماما، إلا أنها الأقرب له من بين الطبقة السياسية الشيعية.
وحتى الشعارات المناوئة لمرجعية السيد السيستاني، الذي يحظى بالمكانة الأكبر بين شيعة العراق، ليست حصرا على التيارات المدنية، كما يعتقد كثيرون، بل إن الصدريين كانوا أول من أطلق شعارات معارضة للمرجع الشيعي السيستاني، في معركة النجف عام 2004، وكانوا خلال تلك الأحداث، يهتفون بها في الشوارع المحيطة بضريح الإمام علي، في أوج التوتر بين التيار الصدري وتيارات الأحزاب الشيعية التقليدية القريبة من إيران، وهذا ما يفسر أيضا الشعارات المعادية لايران، فأنصار الصدريين يطلقونها أحيانا، تعبيرا عن كراهيتهم لخصومهم من الأحزاب الشيعية المقربة من إيران، أكثر من إيران نفسها.
قد يتفاجأ كثيرون، أن اول من رفع شعارات مناوئة لايران هو قيس الخزعلي، قائد اكبر ميلشيا موالية لايران اليوم، ففي عام 2004، وعندما كنا نلتقيه في براني النجف، كان يتحدث بذلك صراحة، في مجلسه، عندما كان جزءا من قيادة التيار الصدري، وكان الصدريون حينها يخوضون نزاعا مع الأحزاب القريبة من إيران، لذلك فالدافع الحقيقي لهم هو خصومات وتنافس على الزعامة الشيعية مع القوى الحزبية الأقرب لإيران، وامتد هذا الأمر لعامة الناس الذين يربطون بين ولاء الأحزاب الحاكمة لايران وأداء الحكومة الفاسد والمتعثر، فيحملون طهران المسؤولية عن فشل الاحزاب الشيعية العراقية في إدارة دفة الحكم.
في جلسة عقدها وفد حكومي في الناصرية، مع ممثلي التظاهرات، نشرت قبل ايام مقاطع مصورة منها، يتحدث أحد قادة المظاهرات بالناصرية (أبو اكثم) غاضبا، عن النزاع القديم المتجدد، بين شيعة الداخل الفقراء الأقل حظا (الذين تحملوا الذل تحت حكم صدام كما يقول)، وشيعة النخب الحزبية (شيعة لندن كما يسميهم)الذين استأثروا بالسلطة ومزايا «الخدمة الجهادية» حسب تعبيره، هذا النزاع المتواصل من 2003، وعلى مراحل، لعله المحرك الأول لما يشهده العراق من مظاهرات اليوم وفي السنوات السابقة.
في عام 2008، وقع أحد أكبر المواجهات، عندما شن المالكي عملية «صولة الفرسان» ضد من اعتبرهم المالكي «أخطر من القاعدة»، وكانت أكبر هجوم عسكري ضد جيش المهدي، المشكل من شباب الأحياء الشيعية الفقيرة في بغداد والجنوب، ورغم أن قادة التيار الصدري انخرطوا بالسلطة وميليشياتها، مثل قيس الخزعلي والكعبي وغيرهم، الا أن قاعدتهم الشعبية ظلت ثائرة تقود الاحتجاجات ضد القوى الحزبية الشيعية التقليدية .كان قادة التيار الصدري مثل الكعبي والخزعلي، ناقمين على أحزاب الدعوة وبدر، القريبة من إيران لانها حظيت بالمغانم بعد سقوط عدوهم المشترك صدام حسين، ولأن هذه الاحزاب، متهمة من قبل الصدريين بقتل زعيمهم السيد محمد محمد صادق الصدر، والد مقتدى، فاغلب من التقيتهم من قادة الصدريين عام 2003

رغم اتفاق جميع العراقيين تقريبا، على المطالب المشروعة للمظاهرات، فإنها تحوي قوى مختلفة وغير منسجمة بمشروع محدد المعالم

و2004، يتهمون أحزاب الشيعة القريبة من ايران، بقتل زعيمهم الصدر، وتلك الاحزاب كانت تتهم الخزعلي أيضا بـ»البعثي»، ‏لذلك النزاع بين الصدريين ومناطقهم الفقيرة الثائرة، والأحزاب التي هيمنت على السلطة، تنافس محموم مركب، سياسي وطبقي.
في جامعتنا ببغداد الجادرية مثلا، نشأ نزاع بين كوادر حزب الدعوة والصدريين، مباشرة بعد 2003 مثلا، كان عدد من الأكاديميين قبل الاحتلال مقربون من حزب الدعوة سرا، وكانوا أكاديميين مرموقين،وبعد الاحتلال، تولوا مناصب رئاسية في الجامعة، كانوا مستائين من نشاط وعقلية الصدريين الشعبوية، في الجامعة وخصوصا الاتحادات الطلابية. ‏ومنذ ذلك الحين، ظلت الحزازات بين جمهور وانصار الطرفين تزداد، وعبّرت عن نفسها بمعارك النجف الاولى والثانية عام 2004، وبتشكيل جيش المهدي كمنافس للميليشيات التقليدية، إلى أن حصل التحول بانضمام قادة الصدريين للخيمة الايرانية، كالخزعلي، ودمجهم باحزاب السلطة، ليبقى جمهور المناطق الفقيرة بلا ممثل سياسي مباشر . لذلك فالمظاهرات، امتداد لهذا النزاع، وان كان الصدريون لا يقودونها الان، لكنها من معاقلهم وجمهورها هو الاقرب لهم. جمهور المناطق الشيعية الثائرة، كانوا بالماضي مادة جيش المهدي، واليوم نسبة كبيرة منهم كان بالحشد الشعبي، وأحد أسباب التظاهرات هو إلغاء عقود الحشد والدفاع (108 الاف عقد)، فالكثير من ابناء مدينتي الصدر والشعلة كانوا مقاتلين بالحشد، وأول شهيد بالمظاهرات، الشاب حسن الساعدي، من مدينة الصدر، شقيقه قتل بالحضر بمعركة الموصل من عامين. لذلك فالنزاع، يبقى داخليا بين فرقاء القوى الشيعية السياسية وتمثيلاتها الاجتماعية، وهو ليس جديدا بالعراق ولا حتى بالمنطقة، ‏ففي لبنان مثلا، اقتتلت حركة أمل وحزب الله لـ3 سنوات، وهم الان حلفاء !
النفوذ الإيراني في العراق واضح لا خلاف عليه، لكنه نفوذ ناعم، ديني وهوياتي، غير عسكري، فلا يوجد جندي إيراني واحد في العراق ولا توجد أي قوة نظامية أو حتى مليشياوية ايرانية في العراق، بل توجد طبقة شيعية عراقية موالية لإيران ومشروعها، فلا يمكن لإيران أن تهيمن على 15 مليون شيعي عراقي بدون وجود انتماء ذاتي من كتلة شيعية عراقية وازنة مؤيدة لهذا الارتباط، تنظر لإيران «دولة إسلامية» وهم جزء منها، كما ينظر الكثير من العراقيين الاسلاميين السنة لتركيا مثلا أو العثمانية، وكما توصف الأحزاب الشيعية بالإيرانية الان، كانت توصف كل فصائل المقاومة السنية المسلحة بانهم قادمون من خارج الحدود، وكذلك وصف الكثير من القوى السياسية السنية المشاركة بالحكومة، بانهم سعوديون واتراك، هي مجرد لعبة يستخدمها الطرفان، لاحتكار التحدث باسم «الوطن»، ولنبذ المخالف، بأنه من «خارج الوطن»، والطرفان عراقيان، ولكن تربطهما عرى ثقافية ودينية، بأمم حدودها أوسع من حدود الدولة الحديثة، ولعل الطرفين الاقوى في العراق اليوم وهما الشيعة والكرد، استمدا قدرا كبيرا من قوتهما داخل حدود العراق، استمداها من حدودهما الأكثر اتساعا من حدود الدولة الوطنية الطارئة الصياغة، حدود الشيعة كطائفة، وحدود الاكراد كقومية، بينما لم يتمكن العرب السنة من الاستقواء بحدودهم الأوسع، لا كطائفة سنية ولا كقومية عربية! ولذلك باتو الطرف الخاسر داخل حدود الوطن! ولعل التعويل المبالغ فيه، على المظاهرات، من بعض قواهم كالبعثيين وحتى بعض الاسلاميين منهم، تندرج في إطار منحى اتخذوه بعد القمع، الذي تعرضت له مظاهراتهم وقبلها فصائلهم المسلحة، أما بالذوبان بالقوى المنتصرة الشيعية أو الكردية، وإما بانتظار الحلول من اختلاف خصومهم، بدون أن يكون لديهم للان مشروع ذاتي قادر على مواجهة مستحقات المرحلة، وارتباط آليات تفكيرهم بمرحلة سابقة، كانوا فيها اصحاب السلطة في العراق، فهم لا يقبلون الشكل الحالي للعراق ذي الهيمنة الشيعية الكردية، وما زالوا متشبتين بصورة عراقهم الذي يشبههم، والذي لم يعد موجودا. وأزمة العرب السنة قبل أن تكون مع إيران، هي مع الشيعة والكرد العراقيين الذين اتحدوا ضدهم بعد سقوط صدام عام 2003، بحيث أصبحوا اكثرية العراق، باصوات الناخبين وكذلك بالقوة المسلحة. ورغم اتفاق جميع العراقيين تقريبا، على المطالب المشروعة للمظاهرات، فإنها تحتوي قوى مختلفة الدوافع، غير منسجمة بمشروع محدد المعالم، وقد اجتمعت الآن تحت خيمة مطالب عامة لا يختلف عليها أحد، لكنها مرشحة للتفرق في أقرب استحقاق انتخابي، خاصة عندما يتعلق الأمر باختيار احزاب الحكم وهوية الدولة، وهي قضايا غالبا ما تتأثر مجددا بالانقسامات الطائفية والعرقية في البلاد. وإذا كان من الصعب أن تتفق الجماهير مثلا على لجنة أو هيئة تمثلها، فكيف ستتمكن من مواجهة القوى الحزبية المتجذرة في المجتمع لعقود؟ فحتى جمهور كبير من مؤيدي النظام السابق يؤيد المظاهرات ويشارك فيها ببعض المناطق ببغداد، ومن المفارقات مثلا، أن بعض القوى السياسية القريبة من النظام السابق، واثناء تغطيتها الحماسية للمظاهرات، في وسائل إعلامها، بثت لقطات فيديو لأحد المتظاهرين في ساحة التحرير وهو يهاجم رئيس الوزراء عادل عبد المهدي، قبل أن يعلق أحدهم بان هذا الشاب هو ابن الشاعر سمير صبيح، المعادي بشدة للنظام السابق، والذي ألف قصيدة مليئة بالشتائم ضد صدام حسين، دعا فيها إلى إعدامه رميا بالأحذية !
بالنسبة لمآلات المظاهرات، فهي تبدو أنها لا تشكل خطرا على النظام في بغداد، وهي كذلك لا تملك آلية لتغيير النظام برمته، وأكثر ما يمكن الحصول عليه هو استقالة الحكومة التي ستعود لتشكل من جديد من القوى الحزبية المهيمنة نفسها، أما إسقاط الأحزاب الحاكمة، فلا يتم بالمظاهرات، بل بالانتخابات، لأن الأحزاب الحاكمة أخذت شرعيتها من عدة استحقاقات انتخابية، جرت منذ 2004، أما الحكم العسكري، كما يتحدث البعض ملمحا لسيناريو مشابه للضابط الساعدي، فغير ممكن، وسيقود لحرب اهلية شيعية شيعية .
كاتب فلسطيني من أسرة «القدس العربي»

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول الكروي داود النرويج:

    المظاهرات لغاية الآن بخير ما لم تتدخل بها العمائم! أهم بند يطالب به المتظاهرون هو بتغيير الدستور إلى نظام رئاسي ينهي سطوة الأحزاب!! ولا حول ولا قوة الا بالله

  2. يقول محمد شهاب أحمد:

    كثير مما في المقال صحيح ،
    من يستمع و يقرأ و يستوعب كلمات المتظاهرين و أعمالهم و الملايين التي إلتفت حولهم دعماً ، يرى أن العراقيين الفقراء و بمراحل تخلصوا من شراك الطائفية العمياء و إرتقوا الى سماء الوطن . بل أني أطلق على المرحلة الحاضرة أنها “النيرفانا” تجلى فيها سناء و بهاء الوطنية العراقية ، و عاد الوطن لأهله و قُبرت الطائفية الى الأبد ….و هذا لو تعلمون
    عني عودة الروح لأهل العراق جميعاً ، اللذين تجنى كثيرون على أولئك اللذين قاوموا الغزاة المحتلين منهم بأنهم أنما يفعلوا ذلك تحسراً على حكم ضاع ، أو أنهم يرجوا دعماً من بلدان مجاورة.

    الآن ، أقدام كل أبناء العراق بكل مكوناته و طوائفه ماسكة بثبات تربة الوطن الذي نشدوا له ” يا گاع ترابج كافوري”
    هذا هو فوزهم العظيم !

  3. يقول سامح//الاردن:

    *مع أن (العراق) من أغنى الدول العربية
    لكنه بسبب فساد ساسته تحول لبلد
    منكوب وشعب فقير ..
    حسبنا الله ونعم الوكيل في كل الفاسدين.

إشترك في قائمتنا البريدية