توجه مظاهرات الحريديين على نحو عام الى الخارج: اعتراضا على المحكمة العليا وعلى الحكومة وعلى البلدية وعلى العلمانيين الذين يتجرأون على السفر في يوم السبت في شارع متدينين. وكانت المظاهرة أمس موجهة كلها الى الداخل: الى داخل الوسط الحريدي. إن انجاز المظاهرة هو أنها وحدت جميع الفصائل، والبلاطات والحاخامين والطوائف حول نضال واحد، فقد اصبح اليهود الغربيون مع الشرقيين واللتوانيون مع الحسيديين وغفني مع لتسمان وانصار شتاينمان مع الاويعربخيين: فالكراهيات الداخلية التي كانت تُضعف جدا قوة هذا الوسط في السنوات الاخيرة نُحيت جانبا ولو يوما واحدا. لكن ضعفها هو في عدم قدرتها على البقاء فكل من كان أمس في باحة مباني الأمة في القدس يعلم أن القانون في اطاره الحالي قد أُجيز في واقع الامر فقد اصبح البكاء على حليب سُكب. لم يوجد أمس نصف مليون انسان في نطاق المظاهرة. وقد اقامت الشرطة تقديرها على عدد الهواتف المحمولة الذي بلغ الى 350 ألفا. ونسي قادة الشرطة أن كل حريدي تقريبا يضع في جيب حلته هاتفين عاملين أحدهما حلال لاجل الحاخامين، وآخر ذكي لاجل الانترنت. وقد جاء الى جنازة الحاخام عوفاديا يوسف قبل بضعة اشهر اكثر منهم لا من الحريديين فقط بل من اصحاب القبعات المنسوجة ومن المحافظين والعلمانيين الذين تألموا على موته. بل إنني مستعد لأن أخاطر فأقول إن عدد المشاركين في مظاهرة الحريديين على المحكمة العليا في شباط 1999 لم يقل كثيرا عن عددهم أمس. وحظيت المظاهرة تلك باسم ‘مظاهرة نصف المليون’، برغم أنه كان فيها نصف هذا العدد، وحظيت مظاهرة أمس باسم ‘مظاهرة المليون’ برغم أنه كان فيها ربع مليون. ليست المبالغة في الاعداد اختراع الحريديين فهذا هو المعيار الذي أقره اليسار في مظاهراته وقلده اليمين وتبناه الآخرون جميعا؛ فيبدو أنه لا رجعة عنه. وبرغم ذلك أثر العدد أمس في النفوس وكذلك ايضا الانضباط وكظم الغيظ والنظام. فقد كانت المظاهرة من جهة التنظيم نجاحا كبيرا. وليس من الفضول أن نثني في هذا الموضوع على الشرطة التي اصبحت يكال النقد اليها مؤخرا. فقد تعلمت شرطة منطقة القدس درسا من جنازة الحاخام عوفاديا التي أقيمت في القلب المزدحم من المنطقة الحريدية ولم تنته الى كارثة بأعجوبة فقط. إن استقرار الرأي على اقامة المظاهرة في الشوارع الواسعة المفتوحة عند مدخل المدينة مكّن المتظاهرين من أن يتنفسوا. حصل كل متظاهر على قرطاس مطوي اشتمل على النصوص التي تُليت في المظاهرة. فقد كانت هناك فصول من سفر المزامير، وتوسلات وصلوات ولم توجد كلمة واحدة عن قانون التجنيد أو عن لبيد أو عن نتنياهو. وسُمع بمكبرات الصوت الضخمة بكاء الحاخامين والجمهور الذي كان في اكثره من الرجال الشباب وهم يهتزون الى الامام والخلف والى اليسار واليمين، وردوا بقولهم آمين. ‘إن الاشكنازيين يُصلون بصيغة صلاة الشرقيين، الى هذا الحد’، قال لي مسؤول حريدي كبير في تأثر. إن الشعارات التي تم اعدادها قبل ذلك تحدثت عن حكم ابادة وعن شعار لا يمر إلا على جثتي، وبكلام عظيم يرى النهاية، لكن الجو على الشارع كان على نحو عام مصالحا وكان المزاج طيبا. إن كل شيء سيصبح على ما يرام آخر الامر لأنه لا يمكن غير ذلك واذا لم يكن ذلك بفضل السياسة فبنعمة من السماء. قال لي الياهو من نتيفوت إن نتنياهو يريد عقد اتفاق مع العرب فالامريكيون سيرغمونه. وسيأتي البيت اليهودي إلينا ليقول اعضاؤه يجب النضال عن القدس وسنقول حسن جدا. لم تستدعونا حينما جلستم في الحكومة مع لبيد. وحينها سيطرد بيبي بينيت ويدعونا ويدعو حزب العمل ويُلغى القانون. فقال آخر: لا. هذه هي نهاية الحلف التاريخي بين الحريديين واليمين. وفي خلال المظاهرة بدأت مجموعات من الشباب ترقص. وبكت مكبرات الصوت وأنشدوا ورقصوا رقص الحسيديين والرقص بصورة دائرية والرقص أزواجا بفرح وقوة وحماسة مندفعة، وهذه ايضا طريقة للاحتجاج على حكم التجنيد. وتقدم إلي شمشون وهو لتواني مقدسي أحمر اللحية ازرق العينين. وهو على يقين من أن القانون سينشيء ردا مضادا. إن الشباب الحريديين سيحجمون عن التوجه الى الدراسة في المعاهد، ولن يتجه من تم الزامهم بالتجنيد الى الأطر التي يقترحها الجيش عليهم أو الى الخدمة المدنية فالجميع سيعودون الى البيت، الى داخل الاسوار. ‘هذه هي نهاية كريات أونو (حرم الحريديين في المعهد)’، يقول، ‘رأيت اللافتات المعترضة على طلاب الجامعات’. وينضم الى هذا الهوى كثيرون. فقد قال لي صحفي حريدي: ‘إن لبيد سيحرز عكس ما يدعي احرازه’. ‘فخرنا في وحدتنا’، قال يوسي دايتش نائب رئيس بلدية القدس الذي ركز تنظيم المظاهرة. وقد التقيته في غرفة العمل الشرطية. وكان ساسة حريديون يعانقون هناك ضباط شرطة. تحدث دايتش عن ان النقاش الاول المتعلق بالمظاهرة تم في يوم الثلاثاء الماضي. وفي غضون اربعة ايام تم تنظيم كل شيء هذا مع وجود يوم السبت في منتصف ذلك. وقال: ‘لم توجد في هذه المرة مشكلة حب الذات. فلم يتجادلوا فيمن يجلس بقرب من ومن يوقع أولا ومن ينفخ في البوق أولا’. وسألته: ما الذي أردتم التعبير عنه. فاستنشق الهواء ثم قال: ‘جئنا كي نقول لبيبي إنك تستطيع أن تقرر أي عقوبة شئت، لكننا لن نسمع سوى لحاخامينا. إننا نقول لحكومة اسرائيل اليوم: لا’. قلت: إن الحاخامين يعيشون في عالم لهم وليست لهم صلة بالواقع. قال دايتش في فخر: ‘حاخامونا اعمارهم بين الثمانين الى المئة وواحد. فليت قادتكم يكونون متصلين بشعبهم كما يتصل حاخامونا بشعبهم، هذا مع أن قادتكم أصغر سناً’. واليكم أحد الاسئلة الكبيرة التي تخلفها المظاهرة وراءها وهو: ما هو هوى شباب الوسط الحريدي، هل هم متحدون على مقاومتهم الخروج من أسوار الغيتو؟ وهل يسيرون مثل عميان خلف حاخاميهم؟ لا شك في أنهم جاءوا الى المظاهرة طوعا وأنهم ذوو انتماء الى الوسط الحريدي ويشاركون في نضالاته. لكن يصعب على كثيرين منهم أن يُسلموا باسلوب العيش الذي فرض عليهم مع التمايز والفقر وثقافة الكذب التي تتحدث عن مجتمع متعلم لكنها توجد بالفعل مجتمعا عاطلا. فكرت في ذوي المواهب منهم، وفي المرشحين للفوز بجائزة نوبل الذين لن يصلوا الى ستوكهولم أبدا، وفي عباقرة الهاي تيك الذين لن يخترعوا أي تطبيق وفي عظام النفوس الذين سيُفنون حياتهم في ترتيل آيات من الكتاب المقدس. يوجد الكثير جدا من الطاقة الكامنة والقليل جدا من النعمة على أنفسهم وعلى المجتمع.