معايير مزدوجة

حجم الخط
0

معايير مزدوجة

أمجد ناصر معايير مزدوجةشاع تعبير المعايير المزدوجة في الخطاب السياسي العربي مذ أدرك الناس البسطاء، قبل العاملين في الحقل السياسي، أن القضية الواحدة لا تكال في ميزان السياسة الغربية، عموماً، والامريكية، خصوصاً، في نفس المكيال.فهي هنا حقوهناك باطل.هنا تجوزوهناك لا تجوز.والأمثلة علي هذه المعايير المزدوجة، التي حصد العالمين العربي والاسلامي، والعالم الثالث استطراداً، ثمارها الدامية، أكثر من أن تحصي.طبعاً، هناك في العالمين العربي والاسلامي من يعتقد أن وراء هذه المعايير المزدوجة التي لم يروا منها سوي وجهها الغاشم، مؤامرة قائمة لا تحول ولا تزول.وتأتي أحداث كبري لتؤكد لأصحاب هذا الظن ان ظنهم هو الحقيقة ولا شيء غيرها، ويمكن لهؤلاء أن يسردوا عليك قائمة طويلة عريضة من القرارات الدولية التي صدرت بحق اسرائيل ولم يتم وضع واحد منها تحت الفصل السابع من ميثاق الأمم المتحدة، فيما راحت هذه القرارات التي وضعت تحت البند نفسه، بحق طرف عربي، تعمل بكل قواها المدمرة.كما يمكن لهؤلاء أن يسردوا لك ألف تصريح أمريكي وأوروبي ضد الاعلام العربي (وصولاً إلي خطة قصف مقر قناة الجزيرة ) الذي مارس شيئاً من حقه في تقصي حقيقة ما يجري في العراق وفلسطين.فكيف يمكن لصاحب النظرة العقلانية في السياسة أن يقنع هؤلاء الذين يرون الساسة الغربيين يتخذون شكل الحَمل عندما يتعلق الأمر باسرائيل (.. أو بتعبير أدق.. عندما يتعلق بمصالحهم) ويرتدون ثياب الميدان عندما يتعلق الأمر بالعرب، وكيف يحق للاعلام الغربي (او بعضه) تصوير العرب والمسلمين وفق التنميط الاستشراقي ولا يحق للاعلام العربي ان يسمي دم الضحايا الذين يسقطون تحت ستار مظلم من التعتيم.لا سبيل، منطقياً، إلي اقناعهم.بل قد يصاب صاحب النظرة العقلانية ، لفرط تكرار الأمثلة، علي المعايير المزدوجة في تدبير شؤون العالم، بـ لوثة المؤامرة ذاتها التي حصّن نفسه ضدها متسلحاً بالعقل وبترسانة كبيرة من النظريات السياسية.واليوم.. إذ تتدحرج كرة النار التي اشعلت شرارتها الرسوم المسيئة، ليس إلي النبي العربي فقط، بل إلي فكرة الحرية المسؤولة عن مصائر لحظتها التاريخية، في طول العالم وعرضه، تترسخ في ذهن العربي، والمسلم، فكرة المؤامرة الغربية، الصليبية الجذور، علي أرضه ودينه وميراثه، كما لم تترسخ من قبل.فحدث كهذا، يعيد عند كثيرين، تواريخ الصدام بين الشرق و الغرب ويبعث كل الاحقاد التي ينبغي ان تكون قد طوتها القرون.ففي ظل هذه النيران المشتعلة والزبد الذي يتطاير من الأفواه والقبضات التي تخضُّ الهواء لا سبيل إلي سماع صوت العقل (الذي لم يسمع، أصلاً، كما يجب) ولا سبيل، كذلك، إلي التداعي للحوار وإقامة الجسور علي طرفي هذا الانقسام الكبير.ويزيد الأمر سوءا، علي أناس مثلنا طالما رفضوا فكرة تقسيم العالم إلي معسكرات وثقافات متنابذة، أن الصحيفة التي مارست اساءة، لا مبرر لها لمليار مسلم، لم ترجع عن غيّها، ولا قامت حكومة بلادها، التي تتذرع باستقلال الصحافة وحريتها، بما يطفيء هذه النيران المشتعلة.كاتب هذه السطور، مثل ملايين غيره، لا يعرف شيئاً عن الميول السياسية والايديولوجية للصحيفة الدنماركية، ولكن العارفين بأمرها لم يفاجئهم قيامها بنشر الرسوم.. في وقت بلغ فيه الانقسام بين الشرق و الغرب أقصاه.فهي صحيفة يمينية، مقربة من التحالف اليميني الذي يحكم مملكة الدنمارك، المقرب بدوره من ادارة جورج بوش.. وهذا، بحد ذاته، يكفي لمعرفة أين تقف هذه الصحيفة، بل وحكومة الدنمارك، من الصراعات الدائرة علي مصائر الشرق الأوسط.. الدامية.آخر أخبار هذه الصحيفة البائسة هو الذي تناقلته وكالات الانباء قبل يومين حول رفضها نشر رسوم للرسام الكاريكاتيري الدنماركي كريستوفر زيلر تصور السيد المسيح باعتبارها، حسب قول رئيس التحرير، مسيئة بدرجة لا تسمح بنشرها .بطبيعة الحال لا أحد من المسلمين يريد رؤية رسوم تمس المسيح لأن قدسية المسيح في الاسلام لا تقل عن قدسية محمد، فكلاهما، في المنظور الاسلامي، من أصحاب الرسالات، وهنا، يطل، مرة أخري، ازدواج المعايير.حيث ترفض الصحيفة نفسها نشر رسوم للمسيح بحجة انها مسيئة، بينما تقوم بنشر رسوم، مسيئة لمحمد، عملاً بحرية التعبير!قد يبدو هدف الصحيفة، من الوضعيات التي اتخذها محمد في الرسوم الدنماركية، هو محاربة التطرف الديني، والأحزمة الناسفة.. لكن ما صارت تعلمه هذه الصحيفة اليوم (وربما كانت تعلمه من قبل) أن من شأن نشر رسوم كهذه تغذية التطرف الديني في العالمين العربي والاسلامي.فلا أظن أن هناك هدية يمكن تقديمها لأسامة بن لادن واتباعه أفضل من هذه الهدية.بل انها الهدية المنتظرة.فهم قالوا منذ زمن بانقسام العالم إلي فسطاطين : فسطاط الايمان (الاسلام) وفسطاط الكفر (غير المسلمين)، وجاء كلامهم هذا حفراً وتنزيلاً (علي حد تعبير السوريين) علي كلام جورج بوش الابن الذي يري هو، ايضاً، العالم مقسوماً إلي معسكرين: معسكر الخير ومعسكر الشر.هذه الرؤي التبسيطية للعالم هي سلاح الأصوليات كلها، شرقا وغربا، وخطابها الذي لامكان فيه للتوريات والاستعارات.. أو الغمغمات.فالايمان واضح والكفر واضح، كما هو الخير واضح والشر واضح، ولا توسط بينهم، بينما التوسط هو ثلاثة أرباع العالم، إن لم يكن أكثر. يولاندس بوستين حفرت خندقاً، بعمق الخندق الذي حفره جورج بوش الابن، بين عالمين لا يراد لهما أن يلتقيا علي هذه الأرض الشقية.. الا كأعداء ابديين.السييء في الأمر أن فعلة جريدة واحدة ومغمورة اساءت، بالعمق، إلي العلاقات العربية الدنماركية التي لم تعرف، من قبل، صداماً ولا مواجهة.والأسوأ أن كثيرين من العرب والمسلمين سيأخذون الدنماركيين (والنرويجيين أيضاً) بفعلة سفهائهم، لا بما قام به إولئك الذين ناضلوا معنا طويلاً ضد الظلم والغطرسة الغربيين.. وستتحول يولاندس بوستين ، عندهم، الي دنمارك والدنمارك الي يولاندس بوستين .. وهذا تعميم ساذج وخطير.0

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية