معتزلات الكتابة أو الإقامة الكتابية والتي تتراوح عادة بين أيام قليلة وأشهر ممتدة، في مكان بعيد وغني بالإيحاءات الموجبة، والتي تقام لبعض متعاطي الكتابة الإبداعية من كتاب وشعراء ومسرحيين، ليست تقليدا جديدا، وتبدو لي شديدة القدم، وقد درج بعض كتاب الغرب، على الإقامة في الفنادق، أو في أكواخ بعيدة عن مدنهم وبيوتهم لفترة، ينجزون فيها نصوصهم وهناك من يسافر إلى بلدة في أفريقيا أو آسيا، أو بعض البلاد العربية الجميلة مثل المغرب، لينقطع فيها فترة من أجل الإبداع.
ولأن الكتابة الإبداعية في الغرب في العادة مهنة مثلها مثل كل المهن الأخرى، تعود براتب مجز، وحياة جيدة للكاتب فلا ضرر من التحرك من مكان لمكان، ولا خسارة من السفر من بلد لآخر من أجل الكتابة وإنجاز النصوص، والتقيت مرة في أوروبا بكاتب إيطالي نجح كثيرا من روايته الأولى، واكتسب اسما محاطا باللغط، ترك عمله كمصرفي في بنك رائج، وتفرغ ليكتب والآن لديه كوخ في بلد أفريقي يذهب لينجز فيه.
وكان كاتب القصص البوليسية السويدي الراحل هينينج ماندل، من الذين يعتزلون بعيدا عن بلاده المرفهة، ليكتب قصصه في بلد أفريقي لا أذكر أسمه، ولعله غانا أو غينيا، ومؤكد كلنا نقرأ مثل تلك القصص بالرغم من أننا نشير دائما إلى أن كتابتها لا تحتاج لسرد مبهر، أو لغة عظيمة، فقط الحكاية المعقدة فقط.
أيضا قرأت في كتاب «ألوان أخرى» لأورهان باموق، وهو عبارة عن سيرة للكتابة، مع بعض المذكرات الشخصية، أنه كان يقيم في شقة صغيرة استأجرها للكتابة، ولا يعرفها أحد غيره، وقد أنجز فيها معظم ما كتبه. يقول باموق إنه يحس في تلك العزلة القريبة من عالمه وبعيدة عنه أيضا، بالأمان الكتابي وأنه يستطيع البوح بحرية، ويمكن أن يفكر بصوت مسموع من دون أن يقاطعه أحد.
وكذا كثير من النماذج التي نقرأها في كتب المؤلفين الغربيين، عن عاداتهم وطقوسهم وأهمها الانعزال عن الآخرين، حتى لو في مكتب صغير داخل البيت نفسه، حيث تقيم أسرته، التي تعرف تماما طقوسه، ولا تقاطعه في شيء.
بالنسبة للوطن العربي تبدو فكرة اختراع أو اتخاذ معتزل للكتابة من أجل العمل بعيدا عن المشاغل الأخرى، فكرة غير موفقة، أو بالأحرى غير مجدية ذلك أن الكتابة العربية كما نعرف جميعا قد تكون رغبة ملحة عند من يكتب، وقد تكون إدمانا وقد تكون مشروعا هاما عند صاحبه، لكن كل ذلك لا يجعلها مهنة للارتزاق والذين يجنون ثمار جهدهم فيها، قليلون جدا إذا ما قورن الأمر بالكم الهائل بمن يكتب. أكثر من ذلك يعد الأمر مربحا جدا ومبهجا أيضا إذا استطاع أحد أن ينشر من دون أن يطالبه الناشر بدفع التكلفة، وقد شعرت بأسى كبير عندما كتب واحد تجاوز السبعين في تويتر، يشكر دار نشر عربية نشرت له من دون أن تطالبه بدفع شيء لأول مرة، بينما كل ما نشره من قبل إما على نفقته أو ساهم بشيء فيه من ماله الخاص.
أي معتزلات هنا؟ وأي نسبة أمل يبشر بها المرء حين يكتشف أنه أصبح كاتبا، وعليه أن يتخذ الكتابة صنعة له.
والغريب في الأمر أن هناك بالفعل أشخاصا مؤمنون بتميزهم الإبداعي الذي لا يمنح شيئا، ويظلون مشتتين في المقاهي والمحافل الثقافية رافضين أي وظيفة تعرض عليهم ليعيشوا. وحين بدأت في مصر وأنا طالب في الجامعة، زاملت كثيرين، لم يقتنعوا أبدا بالعمل موظفين، وفضلوا الغرور الإبداعي الفقير، على وظيفة ستأتي ببعض ضرورات الحياة، ومنها السجائر الذي يدخنه هؤلاء ولا يملكون سعره.
كنت أتداخل في تلك المواقف، أحاول إقناع من يهمني أمره، بأن الموظف لا يعني مواطنا غبيا، وأن المبدع يمكنه أن يتوظف ويكتب في الوقت نفسه من دون أي مشاكل، لكن تظل الفكرة الأساسية مرابطة في أذهان من يؤمنون بها حتى يرحلوا.
بالنسبة لي فقد اخترعت لي معتزلا خاصا حين أود أن أكتب، معتزلا غير مكلف أبدا ولا يبعد عن بيتي، ومشاغلي اليومية سوى مسافة شارعين، قد أقطعها مشيا، في هذا الركن المعتزل يمكن أن أرتب أفكاري، وأكتب، أربع أو خمس ساعات بعيدة عن حياتي المعتادة وضجيج الأسرة، ومطالبها التي لا تنتهي، وبالرغم من غليان الحياة من حولي وأنا في الركن، إلا أنني لا أتفاعل معها، إنها عزلة نفسية أكثر منها فعلية كما يبدو.
وفي النهاية كل ما أنتجه في هذا الركن المفتقر للترف، يدخل في سياق النشر العربي الذي لا يسمن ولا يغني من جوع.
هناك أيضا ما يسمى بورش الكتابة وتلك ليست معتزلا طبعا حتى لو أقيمت في مكان بعيد، ذلك أنها مجرد حصص تدريبية لشباب محبين للكتابة أو كتاب مبتدئين وليست معاناة صرفة مع الذات لإنتاج نصوص.
الآن ظهرت المعتزلات بصورة جيدة وأصبح كتاب كثيرون يستطيعون الاحتماء بها، وإنتاج نصوصهم إضافة للتواجد في أماكن تاريخية ملهمة وقلاع ذات تراث مجيد وربما قريبا من بحر أو نهر أو غابة ذات جمال وخضرة.
وأذكر في هذا الصدد ما تقدمه هيئة الأدب والترجمة والنشر في السعودية، من تطوير مستمر لهذه المعتزلات، وإكسابها مواصفات ساحرة، من أجل الإبداع والمبدعين.
هذه المعتزلات، نجحت فعلا وتدعوا باستمرار، مبدعين عربا يستحقون أن يتواجدوا فيها.
هنا ليس على المبدع سوى أن يحمل حقيبته وأفكاره ويذهب يحتك بزملائه، وبما يجده من تراث وحضارة ويعمل باطمئنان.
الفكرة عظيمة فعلا وربما نسمع بها قريبا، في أماكن أخرى لديها إمكانيات صناعة مطابخ جيدة للكتابة الإبداعية.
*كاتب من السودان