«معتقلون ومغيبون»: توثيق الذاكرة الإبداعية للثورة السورية

حجم الخط
0

كان للسجن الدور الأكبر في حياة السوري، الخوف منه، وإن لم يزج فيه، حتى حوّر قول شاع: «لكل مواطن دوره في المعركة» وأصبح «لكل مواطن دوره في السجن». تجسدت البؤرة التي شكلت معاناة أجيال من السوريين، بشكلها الأقسى عقب الحركة التصحيحية 1970، وما زالت مستمرة حتى الآن 2024، كجزء من الحياة اليومية. وكان حضوره فاعلا، بتحول سوريا إلى سجن بحجم الوطن، مسيطرا عليه من الأجهزة الأمنية تمارس فيه العسف والقمع، إضافة إلى معاناة الضغوط المعيشية، وأي معارضة، أو مخالفة، أو زلة، أو تحرك مشبوه، تقود المواطن السوري من السجن الكبير إلى السجن الصغير الرهيب، سواء كان في سجن تدمر من قبل، أو في سجن صيدنايا، لا يصل المعتقل إليه إلا بعد ضروب من التحقيقات يرافقها مختلف أنواع التعذيب، تأخذ طابعا عنيفا ووحشيا، وقد يحصل الموت تحت التعذيب، وهو ما أصاب ما يزيد عن خمسة عشر ألفا خلال الثورة والحرب.
يتعرض كتاب «معتقلون ومغيبون» الصادر حديثا عن دار رياض الريس إلى الاعتقال والتغييب كثيمات أساسية في النظام السوري، ما أنتج قضية المعتقلين والمغيبين، امتدت بشكل أكثر همجية ودموية منذ اذار/مارس 2011 وحتى تموز/يوليو 2024 ولا يعني انها ستتوقف بعد هذا التاريخ. بلغت حصيلة الاعتقال التعسفي بين هذين التاريخين ما لا يقل عن 156757 شخصا. فيما بلغت حصيلة الضحايا بسبب التعذيب ما لا يقل أيضا عن 15393 شخصا. أما حصيلة الاختفاء القسري حتى تاريخ 30 آب/أغسطس 2023 فبلغت ما لا يقل عن 112713 شخصا، بموجب اتهامات فضفاضة: النيل من هيبة الدولة، التسبب في وهن نفسية الأمة، الحض على التمرد والفوضى، المساس بالوحدة الوطنية السورية، إشاعة أنباء كاذبة.. بحيث يمكن إحالة أي فعل كالتظاهر أو حتى الكلام، وربما الصمت، للتفسير على أنه يشمله اتهام ما. رصد الكتاب مسألة الاعتقال والتغييب حتى نهاية 2020 بشكل خاص في مجالي الفن والثقافة، سواء الاعتقال او الخطف، أو القتل بحجة معارضة للنظام، ما انعكس كتعبير مؤلم على الأعمال الفنية والثقافية.
انصب عمل مشروع «الذاكرة الإبداعية» للثورة السورية، على توثيق جهود الفنانين والمثقفين خشية الضياع، في مختلف الفعاليات، فن الأغنية، الفن التشكيلي، النحت، التصوير الفوتوغرافي، الكاريكاتير، المسرح والسينما، وانتشارها على صفحات وسائل التواصل، وراءها مجموعات من الشباب، كصفحة «كوميك من أجل سوريا» وصفحة «الشعب عارف طريقه» وغيرها.
واكبت الفنون تاريخ الثورة السورية منذ البداية مع أطفال درعا والكتابة على الجدران «أجاك الدور يا دكتور» وتطورات المظاهرات السلمية، وتفاقم عنف النظام، ما أدى إلى حمل السلاح وانشقاقات الضباط والجنود، وممارسة النظام للاعتقالات والمداهمات والمجازر، وتشكل الجيش الحر، كذلك التحركات الدبلوماسية العربية والدولية وعدم جدواها، وما تلاها من تراجعات في الثورة.
رصدت « الذاكرة الإبداعية» المبدعين من فنانين ومثقفين اعتقلوا، مثل الفنان جلال الطويل، والمخرج السينمائي غسان عبدالله والفنان التشكيلي خضر عبد الكريم، والفنانة بهراء حجازي، والحقوقي مازن درويش ورفاقه، والسيناريست عدنان الزراعي، الكاتب والمفكر سلامة كيلة، فنان الرسوم المتحركة نزار جاسم الحمد، النحات وائل قسطون، الناشط رامي هناوي، المخرج المسرحي زكي كورديللو وابنه مهيار، المنتج السينمائي عروة نيربية، الممثل والكاتب محمد عمر أوسو، الكاتب محمد رشيد الرويلي، المناضل والطبيب عبد العزيز الخير، المحامي خليل معتوق، فنان الكاريكاتير أكرم رسلان، الكاتب محمد نمر المدني، الكاتب ضاهر العيطة، الطبيب أيهم غزول، المخرج المسرحي مأمون نوفل، الاقتصادي عمر عزيز، الفنانة رؤى جعفر وعرائس الحرية، المونتير محمد حجازي، الفنانة التشكيلية عبير فرهود، الكاتب علي الشهابي، الطالبة والشاعرة الفلسطينية سلمى عبد الرزاق وغيرهم. تراوح الاعتقال بين أشهر وسنوات دون الإفراج عنهم، كذلك المغيبين قسريا الذين لا يعرف عنهم شيئا، عن أماكن اعتقالهم، وإن كانوا أحياء، كذلك الذين ماتوا تحت التعذيب وأبلغ أهاليهم بموتهم، أو رأوا صورهم ضمن ملف الصور التي التقطها «قيصر».
كما لا يمكن إغفال ظاهرة الخطف التي اتبعها النظام سياسة ممنهجة من خلال اقتحام المدن وتمشيطها، وانتشار الحواجز الأمنية، والمجموعات المسلحة من الشبيحة وغيرهم، جرى استغلالها كوسيلة لأخذ الفدية، ومصدرا للتمويل، او لإجراء صفقات المبادلة… كان من اشهرها حوادث خطف، جرى تداولها، ما زالت معلقة حتى الآن: مطارنة حلب -الاب باولو دالوليو – الناشط وائل إبراهيم – المصور الفوتوغرافي محمد نور مطر – الناشطان سمر صالح ومحمد العمر – الإعلامي محمد ويس مسلم – الناشط عبد الإله الحسين – الدكتور إسماعيل الحامض – المغني والإعلامي عبد الوهاب الملا – راهبات دير مار تقلا في معلولا (جرى الافراج عنهم) – مختطفو دوما الأربعة (رزان زيتونة وسميرة الخليل ووائل حمادة وناظم حمادي) – الفنان التشكيلي فادي عبدالله مراد (قتل تحت التعذيب) – الموسيقي عبيد اليوسف (إخفاء قسري) – الطبيبة رانيا العباسي وعائلتها، (زوجها واطفالهما الستة) – الفنان التشكيلي طارق عبد الحي – الكاتب والمخرج المسرحي عمر الجباعي – المطرب الشعبي عبد الرحمن رستم – السيناريست فؤاد حميرة وسامر رضوان – الفنان التشكيلي يوسف عبدلكي – الكاتب والصحافي جهاد أسعد محمد – الطبيب والموسيقي وسيم المقداد – الكاتب والمخرج المسرحي حسان حسان – الطبيب والموسيقي وسيم المقداد – المعارض السياسي فائق المير – المصور الفوتغرافي زياد حمصي – الفنانة سمر كوكش – الفنانة ليلى عوض – الناشط غبرئيل موشي كورية… لم يقتصر الخطف على أجهزة النظام، بل ومن قوى المعارضة والفصائل الإسلامية، كذلك داعش والنصرة. أغلبهم لم يعرف مصيرهم.
كان الرد على عمليات الاعتقالات والخطف والإخفاء القسري، بتعدد النشاطات التي قام بها الكثيرون للمطالبة بهم، من خلال حملات إعلام، ووقفات تضامنية، وتوثيق الانتهاكات والاعتصامات والإضرابات في السجون، شملت التحركات الاحتجاج على جرائم تنظيم الدولة والتجاوزات الخطيرة لحركة أحرار الشام، وغيرها من الحركات الإسلامية. ولا شك أنه كان من أبرز الأعمال، ما قام به بشكل فردي المصور الفوتغرافي قيصر، الذي أطلع العالم والمجتمع الدولي على آلاف الصور لمعتقلين ماتوا تحت التعذيب.
يتطرق الكتاب إلى سجن صيدنايا الذي يوصف بالمسلخ البشري، حيث تعقد محاكمات لا تأخذ غير بضع دقائق، تجري خارج نطاق القضاء، وتصدر الأحكام غالبا بالشنق حتى الموت. وحسب تقدير منظمة العفو الدولية تراوحت عمليات الإعدام ما بين 5 آلاف و 13 ألفا، خلال الفترة الواقعة بين أيلول/سبتمبر 2011 وكانون الأول/ديسمبر 2015 طبعا الإعدامات ما زالت سارية بعد هذا التاريخ وحتى الآن.
يضم الكتاب مجموعة كبيرة من الأعمال الفنية من رسم تشكيلي وكاريكاتير وبوسترات وأغلفة كتب، وهي مجرد نماذج فنية وثقافية، توثق للحركة الإبداعية مستلهمة الثورة، بالاعتماد على أرشيف هائل من المصادر تشمل الجرائد والمواقع الإلكترونية وصفحات مجموعات الناشطين والإعلام بأنواعه… استمدت منه وقائع انتهاك حقوق الإنسان، ومسيرة الثورة وتجليات نشاطات المعارضين من المثقفين والفنانين. هذا الكتاب وأمثاله، يضعنا نحن السوريين خاصة والغرب، أمام حقائق وعذابات وآلام ومآسٍ، لن يستطيع العالم بعدها الزعم بأنه لا يعرف، فالتوثيق يهدف إلى ألا ننسى، خاصة أن الآلاف ما زالوا معتقلين ومغيبين قسريا، ومجهولي المصير.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية