اختلف العلماء على أصل اسم مدينة معرة النعمان، تلك المدينة السورية التي عاصرت نهوض حقب تاريخية وأفول أخرى، إلا أن الاختلاف حول أصل الاسم، لم يكن كذلك، إذا ما حضر الحديث عن أهلها، الذين اشتهروا منذ قرون خلت بالمقاومة والسياسة والآداب والعلوم، وكذلك التجارة، ومعاناتهم مع الحملات العسكرية التي استهدفت معلما أثريا على مر التاريخ، لتبقى معرة النعمان صامدة رغم الجراح التي أصابتها، ورحيل كل من هاجمها.
فمنهم من قال: إن مسمى “معرة النعمان” محرف من اللغة السريانية “مغرتا” وهي كلمة كانت تطلق في السريانية على الكهف أو المغارة، فيما قال آخرون: أصل التسمية يعود إلى كلمة “كوكب أو الدية أو الجناية” وفي العهد الروماني، أطلق عليها اسم “أرّا” أي المدينة القديمة، وفي العهد البيزنطي سميت “مارّ” ودعيت في العصر العباسي “العواصم” حيث ذكرها أبو العلاء المعري في شعره بقوله:
متى سألت بغداد عني وأهلها فإني عن أهل العواصم سآل.
تقع معرة النعمان التاريخية وفق المخطط الجغرافي لسوريا في الريف الجنوب من محافظة إدلب، على الطريق الدولي الرابط بين محافظتي حلب-دمشق، وقد شهدت المدينة مؤخرا حربا ضروس، انتهت بسيطرة الجيش الروسي وحزب الله اللبناني والنظام السوري عليها، بعد تهجير عشرات الآلاف من سكانها، الذين كان يبلغ تعدادهم قبيل انطلاق الثورة السورية عام 2011 حوالي 100 ألف ونيف. وبعد الاحتجاجات السورية، شارف إجمالي من قطنها على نصف مليون، غالبيتهم تركها عندما توجه الجيش الروسي ومن يدعمه نحوها في أوائل العام الحالي 2020.
المعرة، كما تقال اختصارا تبعد 80 كيلو مترا ونيف عن عاصمة سوريا الاقتصادية حلب، كما تعتبر ثاني أكبر مدن مدينة إدلب في الشمال السوري، وتفصلها مسافة 300 كيلو متر عن العاصمة دمشق، و60 كيلو مترا عن حماة وسط سوريا.
أما حدودها الأثرية التاريخية، فهي تقع بين مملكتي أفاميا في الجنوب الغربي، وقنسرين في الشمال، وكذلك مجاورتها لمملكة إبلا الشهيرة، وهي معالم تفسر أسباب توجه الإنسان القديم والاستقرار فيها، وخصوبتها ووفرتها ساهمتا في نهضتها، وفي الوقت ذاته هناك دوافع لجعلها قبلة المحتلين في غالبية الحقب التاريخية حتى يومنا هذا.
إن أكثر الروايات شهرة لنسب المدينة، هي تلك العائدة إلى النعمان بن بشير الأنصاري، وهو صحابي، ووالي حمص وسط سوريا، حيث توفي ولده عندما كان يعبر مدينة المعرة فأقام فيها حزناً عليه لعدة أيام فنسبت له، ويقال نسبةً إلى النعمان بن المنذر.
قلعة المعرة
تحتوي معرة النعمان على مبان أثرية من حقب تاريخية مختلفة، لتعد المدينة كشاهد على العصور المطوية والحالية، ومن أشهر تلك المعالم قلعة المعرة، والمدرسة النورية، وخان مراد باشا الذي يعرف أيضا باسم متحف المعرة، الذي يضم داخله آثارا من حقب مختلفة من الحضارة الرومانية إلى الإسلامية وانتهاء بالخلافة العثمانية، إضافة إلى جملة من المساجد الأثرية كالمسجد الكبير ومسجد النبي يوشع وغيره.
وفي العودة إلى القلعة، التي يعود تاريخها إلى ما قبل العهد الروماني، لتشكل على مدى حقب تاريخية متعددة حصنا منيعا، ليتم ترميمها في العهد الأيوبي بعد تعرضها للدمار الكبير على يد الحملات الصليبية.
وتعتبر القلعة، من أهم المعالم العسكرية التاريخية الباقية إلى عصرنا الحالي، وهي شيدت على قاعدة من الكلس الطبيعي المرتفع، ويحوفها خندق عظيم البناء يصل عمقه إلى 10 أمتار وعرضه إلى 13 مترا، في حين أن مساحة القلعة الكلية تمتد حتى 2500 متر مربع، ويلتف حولها من ثلاث جهات نهر الهرماس.
المتحف
وهو الاسم المصطلح لـ “خان مراد الباشا” المشيد في عهد الخلافة العثمانية، بعد دخولهم إلى سوريا في عام1595 ميلادي، ويقع في الشطر الشرقي من المدينة، ويجاوره تمثال نصفي للشاعر العباسي الشهير أبو العلاء المعري.
الخان يتكون من أربعة أجنحة تعلو أسطحه أبراج، وفي المقدمة أقواس مدببة وقناطر عالية الارتفاع بسقوف معقودة، حيث يبلغ طول المتحف حوالي 70 مترا وارتفاعه يقدر بـ 7 أمتار.
بقي المتحف في حالة نشاط حتى أوائل القرن العشرين، حيث بعثرت أوقاف هذا الخان وضعفت وارداته فضم إلى أوقاف الجامع الكبير في المعرة بناء على وصية الواقف المحفوظة في متحف المعرة والتي يعود تاريخها إلى عام 1321هـ وبدأ بتأجيره كأقسام لغايات مختلفة، الأمر الذي أضر بالمبنى وأضعف عناصره الإنشائية.
المبنى بمجموعه محكم الصنع ومتقن للغاية حتى ليحسبه الرائي من حجر واحد وكأن بانيه قد فرغ من بنائه لتوّه، كما يتميز هذا المبنى بالشموخ والعمق التاريخي لمدينة المعرة.
بناها مراد جلبي، أمين الخزائن السلطانية، وذلك بُعيد دخول العثمانيين إلى سوريا وكانت الغاية من المبنى أن تكون محطة استراحة وفندقا وتكية إطعام للمسافرين وأبناء السبيل وغيرهم.
في حين أن ضريح الشاعر والفيلسوف واللغوي والأديب أبو العلاء المعري، قد بني في الأربعينيات من القرن الماضي على مساحة قدرها 500 متر مربع، ويعتبر ضريح المعري، من الأبنية الأثرية الهامة والجليلة في مدينة المعرة، لما يمتاز به هذا المبنى من طراز معماري فريد غني بزخارفه البديعة.
والمعري، من الذين عاصروا الدولة العباسية، حيث ولد وتوفي في معرة النعمان في محافظة إدلب وإليها يُنسب.
موطن عشائر بدوية
شكلت معرة النعمان تاريخيا موقعا مهما، وفق ما ذكرته إدارة موقع التاريخ السوري المعاصر لـ “القدس العربي” لذلك سيطر الفرنجة خلال الحملات الصليبية على المدينة، وذلك في عام 1099 وظلت تحت سيطرتهم حتى استرجعها صلاح الدين الأيوبي عام 1187.
وعندما توجه الصليبيون نحو بيت المقدس، سيطروا على أنطاكية، وكانوا يتجهون إلى القدس، وفي الطريق إليها كانت المعرة عقبة أمامهم، فحاصروها، إلا أن أهلها قاوموا الصليبيين، ولكن بعد نفاد المؤونة اضطر أهلها إلى تسليم المدينة، وبسبب هذا جرت فيها عمليات قتل لأبنائها وهذا قبيل احتلالها.
وقبيل عام 1875 كانت معرة النعمان تتبع إلى لواء حماة، الذي يتبع ولاية سوريا الشام، وبعد عام 1875 صارت تتبع ولاية حلب، وهذا دليل آخر على أهمية هذه المدينة، وكانت المعرة عبارة عن قضاء في العهد العثماني، وكانت تتبع ولاية حلب.
وفي العشرينيات، كان للمعرة دور سياسي، حيث كان لها ممثل في المؤتمر السوري العام، وهو حكمت الحراكي.
كما كانت هذه المدينة التاريخية، موطنا للعديد من العشائر البدوية مثل زيدان التي ينتسب إليها ظاهر العمر، الذي تمرد على الدولة العثمانية وأسس حكما خاصا به لفترة في منطقة طبريا.
كذلك شارك أهالي المعرة بشكل دائم في الحملات الخاصة بدعم القضية الفلسطينية والمجاهدين في فلسطين، وفي عام 1936 قدموا مساعدات مالية وعينية إلى الدكتور عبد الرحمن كيالي رئيس لجنة الإعانات في حلب.
واهتمت قوات الانتداب الفرنسي بمعرة النعمان وفي 9 كانون الأول/ديسمبر 1939م، زار المسيو بونور مستشار المعارف في الحكومة السورية معرة النعمان، وبدأ حينها بتأسيس مكتبة في معرة العمان، وهي تقريبا مكتبة ومتحف وبسبب ظروف الحرب العالمية الثانية لم تنفذ الفكرة سريعا، حسب ما قالته إدارة التاريخ السوري المعاصر.
المعرة والثورة
تعود أهمية معرة النعمان في الثورة السورية إلى عدد من العوامل، فقد شهدت هذه المدينة فعاليّات الثورة السلميّة بمختلف أشكالها بدءًا من المظاهرات، مرورًا بإضراب الكرامة وانتهاء بانشقاق أبنائها عن النظام وانخراطهم في العمل المسلّح منذ بدايته، كما واجهت الفصائل المتطرفة بكافة فصائلها.
شاركت معرة النعمان، وفق ما قاله الباحث عرابي عرابي لـ “القدس العربي” في الحراك الثوري في وقت مبكّر من انطلاق الثورة، وانطلقت أول مظاهرة فيها في تاريخ 25/ 3/ 2011 كما شهدت أول اقتحام لها بالدبابات في تاريخ 20/ 5/ 2011. وذلك بهدف منع أبنائها من التظاهر وقد شهد ذلك اليوم مقتل أعداد كبيرة من السوريين، كما تلا ذلك بأسابيع استخدام الطيران المروحي رشاشاته الثقيلة بهدف تفريق إحدى مظاهراتها مما أدى لمقتل عدد من أبنائها في أول تسجيل لاستخدام الطائرات ضد المتظاهرين وذلك في يوم جمعة العشائر. عاود جيش النظام اقتحام المدينة عدة مرات كان أبرزها بتاريخ 7/ 8/ 2011 إلا أن المظاهرات ما لبثت أن عادت إليها وقتل إثرها عدد من أطفالها في المظاهرات المتكررة.
وحتى بعد سيطرة الفصائل عليها بتاريخ 10/ 10/ 2012 إلا أن المظاهرات لم تتوقف فيها، كما كانت مظاهراتها ضد النظام وضد انتهاكات التنظيمات الجهاديّة مثل جبهة النصرة أمرًا مشهورًا عنها.
قدمت المدينة مئات الشهداء من أبنائها سواء كانوا من المدنيين جراء قصف قوات النظام العنيف لها، أو لاشتراكهم في الأعمال العسكريّة ضد قوات النظام على مسار تاريخ الثورة.
كما يعدّ مجلس المعرة المحلي أحد أبرز إنجازات المعرة المدنيّة السلميّة، نظرًا لنشاطاته الخيرية، والتنظيميّة ومشاريعه الخدمية، بجهود ذاتيّة في أغلبها.
هذه الأمور كلها، من وجهة نظر الباحث عرابي، جعلت للمدينة وجدانًا خاصًّا ورمزيّة كبيرةً لدى السوريين يعلي من قيمتها ويحترم أبناءها لحرصهم على المشاركة في الثورة والتضحية في سبيلها وتقديم نموذج حضاريّ عن قدرة السوريين على إدارة أنفسهم بشكل مدني وديمقراطيّ ومواجهة تنظيمات التطرف والاستبداد في الثورة السورية.
شكل سقوط مدينة معرة النعمان، كبرى مدن ريف إدلب الجنوبي شمالي سوريا، في يد النظام السوري وروسيا نكسة جديدة للمعارضة السورية على الصعيدين العسكري والسياسي.
السقوط العسكري
بما أن المعرّة كانت أحد أبرز معاقل الثورة السورية منذ بدايتها، إلا أن سقوطها كان كارثة عسكريّة انعكست آثارها بانهيار المناطق أمام حملة النظام وتسهيل سيطرته على كامل الطريق الدولي M5 إضافة لوصوله لمشارف منطقة جبل الزاوية الاستراتيجية التي توصل إلى جسر الشغور غربًا، أي أن المدينة بموقعها العسكري كانت عمقًا استراتيجيًّا وعقدة ربط بين محافظة إدلب وحلب واللاذقية.
لقد فتحت السيطرة على المدينة المجال أمام النظام للسيطرة على مدن كبرى أخرى كسراقب وخان السبل، كما أنّ سقوطها سبّب أزمة نزوح كبرى منها، حيث باتت خاوية لا أحد فيها من أهلها، أي أن قرابة 150 ألف إنسان قد نزح منها يعيش أغلبهم أزمة إنسانية كبيرة.
خامس الخلفاء
يوصف ثامن الخلفاء في العهد الأموي عمر بن عبد العزيز بـ “خامس الخلفاء الراشدين”. ويقع ضريح الخليفة المكنى أيضا بـ “العادل” في مدينة معرة النعمان، إلا أن قوات النظام السوري وحزب الله اللبناني الذين دخلوا المدينة في 28 كانون الثاني/يناير أقدموا على حرق الضريح وتدميره بشكل أثار غضب السوريين.
ويشير المطلعون إلى إن الحرائق لم تقف عند ضريح الخليفة العادل، وإنما طالت الأعمال العبثية التخريبية قبر زوجته فاطمة بنت عبد الملك بن مروان، وقبر خادم الضريح الشيخ أبو زكريا بن يحيى المنصور.
آثار على قيد الحياة
أفصح النظام السوري بعد سيطرته على مدينة معرة النعمان في مطلع العالم الحالي، عن عثوره على أكثر من ألفي قطعة أثرية في المدينة، وقال مدير متاحف النظام نظير عوض: القطع كانت مخبأة في ممرات تحت الأرض وأنه لم تتضرر منها سوى قطعتين اثنتين فقط من الفسيفساء.
وتشمل، وفق ما قاله لوكالة “رويترز” لوحات متعددة من الفسيفساء يعود تاريخها للعصرين الروماني والبيزنطي. وأضاف، “المجتمع المحلي والنخبة المحلية أسهمت في حماية الآثار، وأسهمت في حماية المتحف وفي حماية القطع، وكان لها دور إيجابي كبير في حماية هذا المتحف، حقيقة يجب أن يُذكر هذا الشيء للنخبة في مدينة المعرة، ولذلك وصلنا إلى نتيجة إيجابية”.