يتواصل في غاليري ضي Dai Gallery في القاهرة معرض الفنانة والناقدة التشكيلية المصرية أمل نصر، إلى غاية فاتح إبريل/ نيسان المقبل. يشتمل المعرض على مجموعة من الرسومات والأعمال التصويرية الصباغية التي أنجزتها خلال فترة الحجر الصحي، وقد أطلقت على هذه التجربة تعبير «سيرة بدائية». في الغاليري ذاته، يُقام أيضاً معرض مماثل للفنان محمد مندور بعنوان «فرح الطين» وهو من أبرز الخزَّافين في مصر، ممن أحيوا التراث المصري ومنحوه أبعاداً جمالية معاصرة. في ما يأتي مقاربة أولية للتجربة التشكيلية التي تقترحها أمل نصر في هذا المعرض:
الخوف مادة للتشكيل الجمالي
شكلت لوحات معرض «سيرة بدائية» متنفّساً جمالياً اعتمدته الفنانة للتغلب على حالات القلق والخوف التي انتابتها خلال فترة الحجر الصحي، بسبب جائحة كورونا. من ثمَّ بدت لوحاتها تشخيصية ورمزية، تحيل على عوالم أسطورية تشكلها مخلوقات غرائبية، وكائنات طوطمية ونباتات برِّية بدائية تحتشد بجانب تكوينات هندسية وأشكال عضوية موشاة بعلامات ورموز، مستوحاة من حضارات إنسانية قديمة. هناك تتعايش السلاحف والأسماك والسحالي، وغيرها من الكائنات التي كثيراً ما امتلكت قدرات خارقة وغير طبيعية، شكلت في تحوُّلاتها مفردات تشكيلية في لوحاتها، مفردات من الفن البدائي ومن العصور الغابرة، اندمجت تعبيرياً مع تجربتها التجريدية السابقة، مستعملة في ذلك مواد وخامات تلوينية على الورق والقماش، منها الصبغات المائية والأحبار والمساحيق والمستحضرات اللونية الطبيعية والمصنعة.
وتُبرز الفنانة أمل كون تجربة الرسم «أنقذتها من براثن اكتئاب مؤكد، كاد أن يعصف بها في ظلِّ عزلة إجبارية لم تعتدها». معللة ذلك في مقام آخر: «إنها رحلة ممتعة من الجدل البصري فجَّرته الجائحة وأعادت تأويله، وبدأت تجربتي الفنية تتأثر بذلك الرافد الجديد، واختلطت المفردات البدائية بتجاربي التجريدية في أوائل التسعينيات، واستخدمت مجموعة لونية ترابية مستلهمة من المزاج اللوني البدائي، واستمرت تلك العناصر مضمرة في بنية أعمالي التصويرية، تظهر بوضوح أحيانا وتغيب في تفاصيل التجريد أحيانا، حتى بدأت في إنجاز تجربتي الأحدث في التصوير».
وتُعيدنا الفنانة أمل نصر بهذه التجربة الصباغية الجديدة إلى ثيمة الخوف والألم الحاد في الرسم والأيقونات المروّعة القديمة، قبل وخلال عصر النهضة (الرونيسانس)، لاسيما منها ما صاحبتها نصوص أظهرت حقائق مخيفة في ذلك الوقت (المواجهات الحربية، الأوبئة الخطيرة..)، كالسِير الذاتية للفنانين والمراسلات، بغرض إعطاء اللوحة بُعداً تخمينيّاً قادراً على جذب المتلقي نحو التفكير في الفن في مواجهة النهايات البشرية 1).
وقد أدركت الفنانة أمل أنه بسبب هذه الظروف المرعبة التي عاشتها، أننا صرنا نشمُّ الموت كل لحظة في أجسادنا، التي لم تعد مِلْكاً لنا، هي مبرِّر وجودنا Raison d’être وعنوان تعريفنا، لأن «وجودنا هو جسدنا وهويتنا هي هذا الجسد ومماتنا أيضاً يحصل على مستوى هذا الجسد نفسه. وجودنا الجسدي الهش والمصطنع هو الذي يجعلنا نختار أنفسنا» كما تقول منى فيَّاض في «فخِّ الجسد». لذلك جسَّدت في لوحاتها «فوبيا» الإنسان ومخاوفه عبر التاريخ، التي أجَّجتها جائحة كورونا اللعينة، بعد أن ساد بين الناس رعب غير مسبوق في تاريخ البشر، وبَدَت ألوانها ترابية وبنية، يكتسحها السواد والرمادي والأحمر بين الحين والآخر، كشواهد وبراهين طيفية على قتامة المرحلة.
في لوحات الفنانة أمل صار التجريد تشخيصاً، وصارت النماذج اللامرئية مرئية، تتبادل المواقع والأدوار والحوارات البصرية، على إيقاع تراكيب وتوليفات لونية تخصيصية Spécifiques أكثر رمزية وتعبيرية. وقد سعت الفنانة من خلال ذلك إلى إعادة الاعتبار للأثر الإنساني المنسي، ومنح المتروكات البدائية أبعاداً جمالية وحضوراً متجدِّداً، عبر لغة الفن والتشكيل خلافاً لما نحا نحوه الغرب، الذي لجأ إلى «تدمير (البدائيين) ولم يبرزهم سوى كمِرآة وحيداً متفرِّداً»(2).
هي، بلا شك، إبداعات مُغايرة تنطق بأشياء كثيرة يُمكن إدراجها ضمن «إستتيقا الفزع» الملأى بتخطيطات سريعة التنفيذ مطبوعة بالسواد على شكل «غرافيزمات» تعبيرية عميقة الاتصال بالأساطير التي هي أساس الفكر الطوطمي. في هذه التجربة الصباغية المائزة، «أطلقت الفنانة أمل نصر فرائسها في فضاءات تتسع لأشكال نوعية تتجاوز مقدراتها تاريخياً وجماليا، لتبدأ من حيث يغدو شكل الأسماك والزواحف مُغرياً، ومن حيث يبدو في اجتزاء حيوانات الغابة لعبة تستجلب الثراء الشكلي، وهي بالفعل امتحان تخوضه الفنانة لاستخلاص لغة تشبه في خواصها وبنيتها لغة الهنود الحمر أو القبائل الافريقية، ولهذا تكمن شيفرات نصها البصري في مسارات لا تقبل بفك حروفها والاكتفاء بما يدور حول محيطها وداخلها من تفاصيل. إنه اعتناء يدرك موقعه في سيرة الحضارات الإنسانية، أو ما تبقى منها في تاريخ قديم بتنا نتداوله كأعجوبة لا تتكرَّر، ولا تتزامن لنفهم أننا نتيقن من حقيقة كامنة داخلنا، وأن الأخيرة قادرة على إمتاعنا بصرياً إنْ شئنا التزامن معها، واتباع سيل الأفكار التي تفيض بها جمالياتها» حسب الباحث الجمالي مصطفى عيسى(3).
السفر في الماضي
تسافر بنا الفنانة في منجزها الصباغي الجديد نحو ثقافات قديمة مرَّت عليها سنين عديدة، ثقافات ما قبل التاريخ، ساعية من خلال ذلك إلى إعطائها وجوداً متجدِّداً أشبه بـ»فلاش باك» واستعادة جمالية لما ضاع من حياة وأثر البشر المحفور في الكهوف والمغارات والملاجئ الصخرية. إنه سفر في الماضي، حيث عري الطبيعة وطراوتها التي اندثرت مع زوال الطابع البدائي الأصيل للإنسان بفعل عولمة عنيفة طحنت كل شيء ومحت الهويات والخصوصيات المحلية.
في رمزية هذا السفر، أضحت الأجساد في لوحات الفنانة أمل تتراقص كأطياف وكائنات ميثية بهيئات من عمق التاريخ، وبملامح من ثقافات وأزمنة عريقة لم تعد موجودة سوى في الذاكرة والخرائط الأثرية والسجلات المتحفية. كائنات برؤوس وأطراف هجينة من زمن مضى، لكنه صار حيّاً، ولم يعد مجهولاً. هنا تكمن حنكة الفنانة التي طوت الأزمان وردمت المسافات لتُعيد صياغة تاريخ هذه الكائنات من جديد مع ما تحمله من ترميزات ثاوية داخل تضاريس الجسد الإنساني المشترك. فكم هي مخيفة ووادعة هذه الكائنات في آن، يا للمفارقة، أليس في الأمر جاذبية ما؟ ما من شك في ذلك بالنظر إلى قدرة الفنانة أمل على تحويل الأشياء وتسييقها Contextualisation مع إبداعاتها الفنية المؤسسة على خبرة وافية في الرسم والتلوين والتخييل أيضاً، برؤية بصرية معاصرة تربط الفكر بالإبداع وتمنحهما الحيوية الجمالية المفترضة. ترى، من تكون هذه المخلوقات؟ هل أتت لتعمِّق مخاوفنا أم لتخليصنا من حدَّة الفزع الذي زرعته الجائحة الوبائية الفتاكة Pandémie لتدمير أجسادنا المنهكة والمحطَّمة؟ وحدها الفنانة أمل من يُدرك ذلك. ويظلُّ من المؤكد أن معرضها «سيرة بدائية» ليُعَدَّ فرصة سانحة أمام المتلقين وعشاق الفن للاستمتاع والاطلاع عن قرب على ما آلت إليه تجربتها التشكيلية والصباغية التي تستند إلى إبداع مزدوج تتكامل فيه الكتابة التنظيرية وأشغال المحترف.
فنان وناقد تشكيلي مغربي