لن أتحدث عن ذكرياتي عن معرض القاهرة الدولي للكتاب، فما أكثر ما تحدثت عنها. ولن أمشي وراء النوستالجيا، رغم أني أعرف أن أحوالنا في ما مضى كانت أفضل بكثير. لقد وصلت أسعار الكتب في مصر إلى السماء بسبب ارتفاع أسعار الورق وأسعار الطباعة، ولا تزال السلطة حتى الآن لا تفكر في شيء بسيط جدا، وهو إعفاء أسعار الورق من الضرائب مثلا. نحن نردد أن القراءة على المواقع الإلكترونية صارت منافسا للكتاب الورقي وهذا صحيح، لكن نحن نساهم بعدم التدخل لإنقاذ الكتاب الورقي من تفوق المواقع الإلكترونية، وننسى أن القطاع الأكبر من القراء لا يزال يفضل الكتاب الورقي. لقد صار المعرض في منطقة بعيدة، لكن الزحام عليه كبير، ونتصور أن ذلك عظيم، والحقيقة أنه قياسا إلى عدد السكان، ليس مناسبا، فالزحام الذي كان على المعرض حين نشأ عام 1969 استمر كبيرا، لكن أعداد السكان تضاعفت من أربعين مليونا ذلك الوقت، إلى أكثر من مئة مليون، فكيف يكون الزحام أكثر!
إن قياس نسبة عدد الحاضرين إلى المعرض إلى عدد السكان تجعلنا نراها قليلة، ولا يغرنك الطوابير أمام الأبواب، فهي لم تتوقف منذ نشأة المعرض، فضلا عن أن الأبواب المفتوحة ليست كثيرة لدواعٍ أمنية، تستدعي تفتيش الداخلين من خلال الأجهزة الخاصة بذلك، كذما يحدث في المطارات. كان المعرض يوما فرصة طيبة لحضور الكثيرين من كتّاب العالم العربي، شعراء وروائيين ونقادا ومفكرين، فصار الأمر الآن أعدادا قليلة جدا تعد على الأصابع، والسبب في قلة الدعوات، كما نسمع هو ضعف ميزانية وزارة الثقافة. ضعف الميزانية يأخذني إلى السؤال عما جرى لمشروع عظيم مثل مكتبة الأسرة، أو القراءة للجميع، وكيف تدهور فصار ما يطبعه أعدادا قليلة ما بين الثلاثة آلاف والخمسة آلاف نسخة، بينما كانت يوما من عشرين إلى ثلاثين ألف كتاب، لا يزيد سعر الكتاب منها عن جنيهين مهما كان عدد صفحاته. وزارة الثقافة تعرف أن ذلك كان يحدث، لمساهمة وزارات أخرى فيه مثل وزارة التربية والتعليم والتعليم العالي ووزارة الشباب، وقد انتهى ذلك، ولا أعرف كيف لا تحاول وزارة الثقافة العودة إليه. لا أعرف معنى حرمان مكتبة عظيمة مثل «تنمية» من الحضور منذ أدين صاحبها خالد لطفي بنشر كتاب منشور هو «الملاك» عن حكاية أشرف مروان مع إسرائيل. كتبنا في ذلك وقتها أن الكتاب منشور في الخارج، وما حدث هو إعادة نشر، لكن قضى خالد لطفي خمس سنوات سجنا وخرج منذ حوالي عام الآن، وما زالت المكتبة ممنوعة من معرض الكتب، رغم نشاطها العظيم في الثقافة نشرا وتوزيعا وندوات، ولا أعرف كيف لا تقوم وزارة الثقافة بالنقاش مع من أصدروا الأمر لإنهائه، واعتباره من الماضي ولا نتذكر ذلك كل عام. لم يحدث من قبل أن قلت رأيا سلبيا في المعرض، بل دائما ما أشكر من يقومون به على الجهد الكبير الذي يبذلونه، أنا هنا لا انتقدهم، فالقضايا التي اتحدث فيها تخص وزارة الثقافة نفسها.
وزارة الثقافة التي يعني وجودها وجود الدولة الحاكمة، وليست عملا أهليا يمكن أن يتعرض لعثرات، والحقيقة الغائبة دائما عن الوزارة أنها رغم كونها من الوزارات الحاكمة تستطيع لو أرادت أن تستعين بالمجتمع الأهلي من رجال الأعمال لحل أزماتها المالية، فليس جميلا ولا مناسبا لوجودها أبدا أن تتوقف عن مؤتمر الرواية ومؤتمر الشعر العربي، اللذين كانا ينعقدان بالتبادل كل عام بحجة ضعف الميزانية. نظرة واحدة إلى معارض الكتاب العربية تجد فيها كل ما ينقص وزارة الثقافة المصرية، التي لا أعرف لماذا لا تقوم باتصالاتها برئاسة الوزراء لإنقاذها، وكيف لو لم تستجب رئاسة الوزارة، ووجدت الوزارة حرجا في إعلان ذلك، لا تفتح باب تطوع المجتمع الأهلي لإنقاذها، وهو أمر قانوني وسيكون أفضل. إن نظرة واحدة لما يكتبه العائدون من المعارض العربية عن البلاد التي زاروها، والأيام التي أمضوها بينها وبين أهلها، توضح كم هي عظيمة الإطلالة على هذه البلاد، ويمكن حتى اعتبارها مكسبا سياحيا، إذا كانت هناك معرفة بالمعنى الواسع للسياحة، التي يجب أن تخرج من المعنى القديم وهو زيارة الآثار، بل يمكن أيضا تنظيم رحلات للزوار إلى مناطق الآثار القديمة، ولا بد ستكون متعة كبيرة لمن يتسع وقته بعد وأثناء المعرض، لكن هذا طموح طيب لا أعتقد أنه سيجد صدى.
أعود إلى وزارة الثقافة بعد المقارنة بين المعرض والمعارض العربية، لأشير إلى أن حركة الترجمة في مصر من اللغات الأجنبية إلى اللغة العربية نشيطة جدا في العالم العربي، وهي نشيطة أيضا في مصر وإن كان العبء الأكبر لا يزال يقوم على المركز القومي للترجمة، لأن الأمر يحتاج من دور النشر تكلفة قد تكون كبيرة على الدور الخاصة، بدءا من حقوق الترجمة إلى حقوق المؤلف إلى حقوق المترجم، لكن الوجه الآخر للترجمة بدأ ينشط في الدول العربية، فدول مثل السعودية أو الإمارات صارت تدعم ترجمة أعمال كتابها إلى لغات أخرى، ولا أدري لماذا لا يحدث هذا في مصر، ويظل المصريون ينتظرون الفوز بجائزة عربية يمكن أن تدعم ترجمة كتبهم. إن قياس عدد الفائزين إلى المبدعين والمفكرين المصريين، يساوي صفر في النهاية، ففي كل عام تفوز رواية أو اثنتان أو ثلاث روايات بجوائز، بينما ما يصدر من روايات في مصر نهر دافق تستطيع أن تجد بينه أعدادا لا بأس بها من الروايات، وكذلك الكتب الفكرية الخارجة عن المألوف، والمغامرة في موضوعاتها. هذا جانب غائب عن وزارة الثقافة وأتذكره مع المعرض، لأنه يوما ما ليس بعيدا، كانت في المعرض ندوات عن الكتب التي دعمت وزارة الثقافة ترجمتها، وبالذات هيئة الكتاب أيام المرحوم ناصر الأنصاري، بحضور المترجم الأجنبي وطبعا الكاتب المصري، وشكل الاحتفال بالعمل كان رائعا. ابتعد عن ذلك كله وتأخذني الأحداث الدموية في غزة ولا أعرف ماذا سيكون في المعرض مساهمة في ذلك، وأعتقد أنه سيكون موجودا. لا أحب أن اقترح فأنا على ثقة بأنهم في هيئة الكتاب سيفعلون ذلك، لكن كيف توجد أسماء شعراء مثل فدوي طوقان وتوفيق زياد ومحمود درويش وسميح القاسم وأحمد دحبور وغيرهم حتى تميم البرغوثي. أتصور تعدد الشاشات السينمائية الصغيرة في طرق المعرض عليها صور للشعراء وأبيات من قصائدهم تتحرك أمام العابرين .
لن أغالي وأطلب تخصيص قاعة لعروض سينمائية لأفلام عن فلسطين أنجزها مخرجون عرب ومخرجون فلسطينيون، ويكون الدخول لها مجانا.. لن أغالي وأن كنت أتمنى أن يحدث ذلك. كيف يكون مهما وجود روائيين من أمثال سحر خليفة ويحيى يخلف ومحمود شقير وإبراهيم نصرالله وربعي المدهون وسامر أبو هواش، والأسماء الرائعة كثيرة يمكن الاختيار من بينها، أو الاتصال بها لمعرفة من يتسع وقته للحضور. كما يمكن ببساطة تخصيص مكان للندوات عن فلسطين بكل تجلياتها الأدبية والفكرية. وجود فلسطين في المعرض أجمل تعبير عن الروح المصرية، ويمكن للقائمين على المعرض أن يختاروا أو يضيفوا لما أقول. لا أحب أن ينتهي المعرض بالحديث السنوي عن الكتب الأكثر مبيعا وغيرها، بل اتمنى أن يكون الحديث عن فلسطين وحضورها مع المصريين، وهو حضور لم يغب طوال التاريخ، ثم تأتي القضايا الأخرى للنقاش في الصحافة في الدرجة الثانية.