معرض الكتاب: جنّة «بورخيس» المتخيَّلَة

حجم الخط
0

لم أتخلف منذ أن كنت طالبة دراسات عليا في القاهرة منتصف التسعينيات عن حضور معرض القاهرة الدولي للكتاب، إلا لظروف قاهرة. وقبل أيام كنت أيضا على موعد مع هذه التظاهرة الثقافية الكبرى، وهذا العرس الذي يقام سنويا للكتاب والكتّاب، ومعرض هذه السنة شهد إقبالا شديدا، فحسب إحصائيات الوزارة الوصية استقبل المعرض عددا قياسيا من الزائرين هو الأكبر منذ تأسيسه، حيث بلغ خمسة ملايين زائر وبمشاركة ألف ومئتي ناشر. غير أن الوضع الاقتصادي الصعب وارتفاع الجنيه المصري مقابل الدولار في السوق الموازية، انعكس على أسعار الكتب غير المصرية، باعتبار أن تسعيرها يحتسب بالدولار، وبالتالي ضعفت القدرة الشرائية عند كثير ممن يدخل الكتاب في اهتماماتهم الأساسية.
وفي حوار بيني وبين صديق كاتب حول الزحمة التي شهدها المعرض، حكى لي نكتة مفادها أنه في أحد معارض الكتاب العربية بيع عشرة آلاف سندويش شاورما وخمسة آلاف علبة عصير ومئة كتاب، فحوّلتُ سخريته إلى جدٍّ حين أبديت رأيي معترضة، فحتى إن كان ذلك صحيحا فله وجهه الآخر النافع، إذ يكفي أن يقصد الإنسان ومعه أطفاله معرض كتاب، وإن لم يكن الغرض شراء الكتب، فرؤية هذا الكم الهائل من الكتب يثير فضول الطفل، وكثير منهم يرغب في اقتناء قصة أو كتاب ملون يزرع فيه في ما بعد حب هذا الكائن الجميل الذي نحترمه حتّى إن كان بعضنا لا يحبه. ثم إنّ معارض الكتب ضرورة اقتصادية واجتماعية وثقافية، تعود بالنفع على كل من له تعلق بها، فالجهة المنظمة، سواء كانت رسمية، أو خاصة يعود عليها المعرض بمنافع اقتصادية ودعائية لا تمس قطاع الثقافة وحده، بل يدخل ضمن ما صار يعرف حاليا بالتنمية الثقافية المستدامة ودورها في فتح آفاق جديدة أمام الاقتصاد التقليدي، أما الناشر فرغم شكواه الدائمة من قلة المقروئية وعبء كلفة الاشتراك والسفر والقيود البيروقراطية فهو لا يفوّت معرضا، لأن معارض الكتاب هي الوسيلة الأنجع للترويج لكتبه الجديدة وبيع كمية منها في بضعة أيام، بل حتى في التخلص من الكتب الكاسدة بإعطاء حسومات كبيرة، وعقد صفقات جديدة ومراقبة رياح القراءة من أي جهة تهب، وهذا لا يعني أن ليس هناك معارض فاشلة، لكن عموما شرّ هذا بخير ذا. وما يقال عن الناشر ينطبق أيضا على الكاتب، فهذا التجمع الضخم لأصحاب المهنة الواحدة يشكل له فرصة للقاء قرائه والاستماع إلى صدى ما يكتب من خلال مبيعات كتبه، مع ما يمكن أن يضيفه لعملية الترويج لمنتجه الثقافي، عبر حفلات التوقيع أو الندوات التي تعقد عنه، أو بمشاركته فيها. ويبقى القارئ هو المستفيد الأكبر بين هذه الحلقة التي يقوم عليها سوق الكتاب بلغة التجارة، فهي سوق متخصصة لا تعرض إلا منتجا واحدا أو ما يدور في فلكه تقرّب له البعيد وتجلب له النادر وتوفّر عليه الوقت والمال. وبما أننا نشكو دائما من قلة، بل ندرة شركات توزيع الكتب في العالم العربي فلنعتبر المعارض شركات متنقلة تسلم طلبياتها مرة في السنة، ولعل كثيرين مثلي في زيارتهم لأي معرض يتزودون بقائمة معدّة سلفا من الكتب التي ينوون اقتناءها، غير ما تجود به الصدف أثناء التجوال بين الأجنحة من مفاجآت جميلة. فالمعرض بالنسبة للقارئ يرسي قاعدة: إذا لم تذهب إلى الكتاب فليأت الكتاب إليك.
يراودني دائما إحساس بأن المعارض تشبه المدن التي تقام فيها وتشبه ناس تلك المدن، فكم يتطابق معرض القاهرة بازدحامه وغلبة المنتوج الديني عليه وحيويته وكثرة ندواته، بالقاهرة نفسها فهو صورة مصغرة عنها، إذ هو مثلها تلك المدينة التي لا تنام، وهذا ما لا نراه في معرض بيروت مثلا فهو يشبه اللبنانيين بأناقتهم ولهجتهم المطعمة بمفردات أجنبية وذوقهم، حيث يتحول إلى معرض للكتب ومعرض آخرَ مواز لآخر صيحات الأزياء، بل تُنافس فيه كتب الأبراج ـ وكان يقام في آخر شهر من السنة ـ الروايات، ومما يؤلم أن الانقسام الطائفي الذي يشكو منه هذا البلد الجميل طال حتى معرض الكتاب، الذي يعد أبا المعارض العربية، إذ أقيم أول مرة سنة 1956، فانشطر بدوره إلى معرضين وأخشى أن نسمع يوما بـ 18 معرضا للكتاب في لبنان على عدد طوائفه. في حين أن المعارض الخليجية وهي حديثة النشأة افتكت مكانتها بجدارة ضمن خريطة معارض الكتب العربية، فمعرض الشارقة مثلا أصبح ثاني معرض بعد القاهرة في عدد الدور المشاركة، إذ تتجاوز الألف وثالث معرض في عدد الزائرين بعد مصر والجزائر، وهو يعكس وجه الشارقة الثقافي.
ولمعرض أبو ظبي وجه آخر ففيه تقام حفلة جائزة الشيخ زايد وتظاهرات عديدة مهمة يتزامن توقيتها مع توقيت المعرض، كما له ميزة ينفرد بها، يتجلى فيها حضور المرأة القارئة والكاتبة واضحا من خلال مشاركة كثير من النوادي القرائية النسائية مثل، مؤسسة بحر الثقافة للشيخة روضة بنت محمد آل نهيان، وصالون الملتقى الأدبي للسيدة أسماء المطوع. وهذا هو الوجه الثاني المُشرق لمعارض الكتاب، إضافة إلى اقتناء الكتب، فهي مكان طبيعي للقاءات الإنسانية والالتقاء بالأصدقاء الذين نتقاسم معهم الهم الثقافي والإبداعي، كما للتعرف على كتاب جدد بطريقة شخصية. وكانت المعارض أثناء تقديمي لبرامجي الثقافية فرصة للاتفاق مع ضيوفي على مواعيد حواراتهم وتقديم جديدهم في فقرات وندوات ولقاءات على صالة المعرض نفسها، فقبل أشهر في معرض الشارقة حاورت الكاتبة الجزائرية أحلام مستغانمي، بمناسبة احتفالها بإصدار روايتها الجديدة «أصبحتُ أنت» ومرور 30 عاما على روايتها الأشهر «ذاكرة الجسد» وفي معرض القاهرة شاركت في أمسية تكريمية للشاعر أمل دنقل نظمتها مكتبة تنمية التي تحولت من خلال نشاطاتها المكثفة من نشر وتوزيع الكتب إلى مؤسسة ثقافية كاملة تقيم الفعاليات وتنظم الندوات، ومن وراء حضور هذا التكريم أعدت قراءة كتاب «الجنوبي» الذي كتبته عبلة الرويني عن زوجها أمل دنقل، وكنت قد قرأته حين صدوره، وهنا تكمن قيمة الفعاليات المصاحبة للمعرض إذ تحفّزك على معرفة الجديد وإعادة اكتشاف القديم.
ويبقى تأمل أخير يخطر ببالي كلما زرت معرضا للكتاب، هل صحيح أن الكتاب الإلكتروني يشكل تهديدا فعليا للكتاب الورقي، وأنا أرى حضوره المحتشم في معارض الكتب، فكم من دار نشر تعرض هذه الخدمة؟ وهل هناك دار مهمة واحدة انتقلت إلى هذه الطريقة الجديدة في إصدار الكتب، وتخلت عن الكتاب الورقي نهائيا؟ ألاحظ في الأمر تهويلا كبيرا، بل حتى في الغرب الذي سبقنا بأشواط في تبني الوسائط الإلكترونية، لا يزال الكتاب الورقي متسيّدا، ومقارنة بسيطة بين ما بيع من كتاب الأمير هاري الأخير ورقيا، وما بيع إلكترونيا تقطع الشك باليقين، لذلك أخالف صديقي الشاعر مهدي منصور، الذي كتب مرة «نبوءات حول مستقبل معارض الكتب» فبرأيه في سنة 2040 «سيتضاءل العالم إلى موقعٍ يغني القارئ ويؤمّن له قوته من الثقافة باستعمال إصبع واحدة. ليس ثمة موعد سنوي للمناسبة فالمعرض مفتوح على مدار السنة ويقدّم الإصدارات بشكل لحظي» فلا أعتقد – بل لا أرغب ـ أن يأتي هذا اليوم، فمنذ أول معرض في فرانكفورت سنة 1439 إلى اليوم، هناك من لا يرى الكتاب مصدر معلومات فقط، بل ضرورة حياتية تتشرب العقول والقلوب بالحواس الخمس، فالكائنات الورقية التي أتشرف بالانتماء إليها قد تتناقص، لكنها لا تنقرض، لأنها أدمنت متعة اسمها القراءة، وأخذت بنصيحة شيخ (الكار) قتيل الكتب الجاحظ الذي قال يوما: «الكتَابُ لاَ يُعَاملكَ بالمَكر ولاَ يَخدَعكَ بالنّفَاق ولا يحتَالُ عَلَيكَ بالكَذب». بعكس كثير من أبناء البشر.

شاعرة وإعلامية من البحرين

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية