النظر في الوجه العزيز
يعرض الفنان التشكيلي عبد الكريم الأزهر «وجوه» مرسمه العجيبة، ابتداءً من 29 فبراير/شباط إلى غاية 30 مارس/آذار2024، في رواق المركز الثقافي إكليل في طنجة، تحت يافطة دالّة مستلهمة من إحدى مجاميع أحمد بوزفور القصصية: النظر في الوجه العزيز. وتأتي هذه التجربة الجديدة والمتجددة لواحد من أبرز ممثلي التشكيل المغربي المعاصر، في سياق نحت ماهية بصرية متجددة ومختلفة لا تستوعب تقنياتها وألوانها وحواملها حيز ما هو مرئي وقابل للتحديد والاكتشاف فحسب، بل تريد أن تطلق رسوماتها في فضاء حركي وتواصلي يسمح لهذه الوجوه- «البورتريهات» بأن تشرئب بأعناقها في أوسع مدى ممكن لأجل أن تتكلم وتسرد وتفضي بما في داخلها، واثقةً، مُثيرة للدهشة أو الشفقة حيناً، أو شائهة مستسلمة لقدرها التراجيدي حيناً آخر.
وفي أوضاع أخرى أكثر دلالةً، ترى هذه الوجوه قد التفّتْ ببعضها بعضا، وحداناً وزرافات، ويمكن أن تسمع وشوشاتها كأنما هناك أمرٌ جماعيٌّ يهمُّها وحدثُ عاصفٌ يتهدّد وجودها، بل قد تجدها، مرّاتٍ، قد أحاطت نفسها بشرنقة واهية، وهي كالحة القسمات ترتعد تحت اللهب، أو مرتعبةٌ تُحدق في الظلام وفي الفراغ. يصير الوجه، من وضع إلى آخر، كنايةً عن هوية متحوّلة تعيش ابتلاءات الإنسان وتتجرع تاريخ أخطائه ونواقصه واختياراته المدمرة. وهكذا تتجمع في العيون، عبر شتّى حالاتها، كل حواس الإنسان ورغائبه وهواجسه ومخاوفه حالاً ومآلا.
تقترب «وجوه» عبد الكريم الأزهر، في مستواها التعبيري الأعمق، من منحوتات السويسري ألبرتو جياكوميتي النحيلة، التي تتآكل روحها من الداخل إلى درجة أن تصدأ، وتٌكبّ على وجهها في طُرق مجهولة لا نهاية لها؛ لأنها هي بدورها تُصوّر هشاشة الكائن الإنساني وعزلته وضياع معناه في التاريخ، وهويته المفككة داخل عالم زاد عن حاجاته ولم يعد بوسعه أن يتنعم به.
لا أريد أن أقول إنّ هذه الوجوه هي أقنعة الأزهر، على غرار ما قيل إن المنحوتات كانت تشبه جياكوميتي وتستلهم سيرة حياته، لكن على الأقلّ جعل من تعابير وجوهه وأوضاعها الغريبة استعارات حية ورموزاً مثيرة توحي بالمأزق الروحي والأخلاقي، الذي يعيشه الإنسان ويتحمل ويلاته، بقدر ما تمثل في حدّ ذاتها «مُنبِّهات ميتافيزيقية» تتداعى لتشمل وجوده وشرطه الأرضي ككل. ولهذا تركها، رغم كل شيء، على حافة الهاوية، متيقّظة تستطيع الإبصار، وتحاول أن «توقظ فينا شيئا بدائيّا عنيفا» وتسرده لنا بطريقتها الخاصة.
يقول جان جينيه مُعلِّقاً على أحد أعمال جياكوميتي: «يظهر أنّ هذا الفنان قد عرف كيف يزيح ما كان يضايق نظرته، ليكتشف ما سيبقى من الإنسان عندما ستتنحى الأعذار الكاذبة».
التشكيل والقصة.. بأيّ معنى؟
ينفتح عبد الكريم الأزهر في تجربته على جنس القصة القصيرة ويحاورها فنّياً، من خلال ما تقترحه عوالمها وشخصياتها وتجاربها وعجائب ما يجري فيها. وإذا علمنا أنّ في جملة هذه القصص قصة أحمد بوزفور، بما هي قصة مختلفة وذات بنية شعرية أليغورية، نعرف سلفاً ما يلقى سالكها من وجوه السحر والدهشة، التي يتلقّفها من غير مصادرها المعهودة، وعبرها تظهر الشخصيات على سطوحها الشفيفة بآدميتها وأحلامها وانكساراتها ومتعها البسيطة، بلا بطولة زائفة وخطابات هادرة. فقط تتكلّمُ بعينين؛ إحداهما على مصيرها بين المعذبين في الأرض، وأخراهما على الداخل واستيهاماته للاعتبار والحلم وردّ الدين لحياة شاردة.
في لوحات الأزهر، ذات القياسات الصغرى، نطالع مثل هذه الشخصيات، ومعها أمزجتها وأصواتها وروائحها وأنماط عيشها ومصائرها التي لا نهاية لها، وهي تأخذ هُويّةً سرديّةً بصريّةً مختلفة، بعد أن تتخلص من قيود السرد الخطّي على نحو ما، وتتشكّل ضمن فضاءات جديدة تعطي لهذه الشخصية أو تلك، عبر وجوهها المفارقة، ممكنات تأويلية مفتوحة، عبر استراتيجية الإحلال والإزاحة بوسائل اللون و»التبئير» والفراغ والمحو، ولا تكون العبرة إلا بمدى الأثر الذي تحدثه في «عيون» ناظريها. وفي هذا المعنى الذي يحدثه الأثر، يقول أحمد بوزفور: «تستفيد القصة من التشكيل في تعالق أجزاء العمل بعضها ببعض، وفي انتقال الدلالة من الخشبة إلى الكواليس. ففي الفنين معا (التشكيل والقصة) يعتمد البناء الكلي للعمل على كل جزء فيه. وفي القصة واللوحة معاً، لا يبحث القارئ عن المعنى في الألفاظ أو الألوان المعروضة، بل يبحث عن المعنى في نفسه بعد انتهاء العرض». وأضاف: «أعتقد أن هذه العلاقة الناشئة بين القصة والتشكيل، يمكن أن تفيد القصة كثيراً. ليس كتابها فقط، بل قراءها ونقادها أيضا، لأنها يمكن أن تخلق تلقّياً فنّيا راقياً ينقذ القصة من التلقي الأخلاقي أو العاطفي أو الأيديولوجي، ويغير ليس فقط أفق الإرسال، بل كذلك أفق الاستقبال».
هو حوار استطيقي بين عالمين مختلفين من شكل الفنّ وصيغته التمثيلية، بين المقروء والمرئي، وبين المحكي والصباغي، غير أنّهما يتداخلان من أجل التعبير عن الإنسان، عن الكائن الإنساني، وعن الجوهر الإنساني. قد تختلف المادة التي بها يكون هذا التعبير، لكن الماهية نفسها، إذا كان الأثر الحقيقي يتولد من رغبة المبدع، سارداً أو قاصّاً، في تحويل ما يحس به إلى واقعة فنية، وما يترتب عليه من شعور عميق باللذة والاندهاش. يقول رشيد إلحاحي في سياق هذا الحوار: «ما يهمّ أكثر في هذا التداخل والحوار وامتدادات المجاورة، ليس هو اللغة والتقنيات وأشكال التعبير التي تحفظ لكل جنس فيزيولوجيته ومورفولوجيته اللغوية، ومن ثم بلاغته ونسقه السيميائي والجمالي، بل الأهم هو لذة النص التي يفضي إليها، سواء كان مكتوباً أو مرسوماً، مسموعاً أو مرئيّاً، محكيّاً أو مُصوَّراً». من هنا، فإن تحويل البورتريهات مما هو مكتوب إلى الملمح الصباغي، يقتضي إعادة تأويل تقاسيمها وتعبيراتها اللونية والإيحائية والمزاجية، بالنظر إلى طبيعة الأسناد التي تحملها واللحظات التي تشكلت فيها والزوايا التي يجري تبئيرها، كأنما عمل الرسام هنا يتوجه إلى الإفضاء بأسرار ومفارقات أو حالات شعورية أخرى للوجه الآدمي لم يكن مسموحاً بها ضمن الشكل القصصي: «وجوه ونظرات تمّ القبض عليها عبر تخطيطات ولمسات سريعة، ولطخات وحركية موجهة بحس تعبيري أكثر منه تشخيصيا، وكأنّ البورتريهات المتخيلة والتقاسيم المورفولوجية المبسطة تعبير عن حالات وجودية طفت في لحظات عابرة، وارتسامات شعورية وتبادلات منفلتة، تقتبس مشاهدَ وأحداثاً حكائية مبعثرة، يجمعها لغز الوجه الآدمي وميتامورفوزات النظر العابرة وتحولاته بين المدهش والرتيب، بين المنتصب والمنكسر، بين العميق والطافي، بين الشفاف والغامض، بين القاص والتشكيلي».
السرد بالألوان
يأتي معرض طنجة لتأكيد العلاقة بين القصة والتشكيل، وكانت انطلاقته من مدينة أصيلة عام 2015، وتواصلت فعالياته في عدة مدن مغربية (الجديدة، زاكورة، المحمدية، الدار البيضاء، الصويرة، أبركان، أكادير)؛ فهو معرض متنقل لا يرتبط بزمان ولا بمكان محدد، وقد يقام في يوم واحد أو عدة أيام، داخل فضاء مفتوح، أو مقهى، أو قاعة عمومية أو خاصة في أي مؤسسة.
في تصريح لجريدة «القدس العربي» قال عبد الكريم الأزهر إنه «لإغناء الفكرة، يتمُّ في كل محطة لقاء حول القصة والتشكيل تحت عنوان «النظر في الوجه العزيز» عن مجموعة القاص أحمد بوزفور. وهو عنوان بليغ فعلاً عن وجوه أعمالي. وهذا المعرض له نكهة خاصة لأنه سيكون بمثابة محطة توثيق للتجربة بعد عشر سنوات من انطلاقها». وعن العلاقة بين القصة والتشكيل، أكد أنها «علاقة بناء دلالي، يسعى فيه كل مجال إلى الاشتغال بمواده وأدواته وتقنياته ليبقى الرابط الأساسي هو الاختزال؛ ذلك أن القصة فن قائم بذاته يتميز بالتبسيط الذي يتطلب تقنية ودقة عالية بطريقة مكثفة وإشارات دالة تتيح للقارئ تعددية التلقي ببعد آخر يتأتى وفق مرجعيته وتصوره برؤى لا محدودة. وفي التشكيل يكون التعامل مع اللون والخط والمادة، حيث أسعى دائما إلى اختزال الموضوع في حلة تركيبية، بصياغة غرافيكية حركية تحكي إيقاعات هادئة، تحدث وقعها لدى المتلقي. فمثلا حضور العين كان أساساً من الكتاب، بحكم أن الكتابة نفسها هي تعبير عن مرجعية الرؤية المعاشة بصريا من الواقع. والعين وجدتها ذاكرة بالعودة أحياناً إلى البياض من خلال اختزال الألوان في عصارة لونية خفيفة شفافة، وذات لمسات لونية تتراكم فوق بعضها، عبر عملية المسح والخدش، التي تخلف أثرا يحيل على مفهوم الزمن بطريقة غير مباشرة».
وفيما إذا كان سرد الوجوه يحمل آثاراً من زمننا، بما في ذلك تشوُّهات العصر، وكان للإيحاء بالعيون على اختلاف حالاتها داخل البورتريهات دلالة خاصة ومُعبّرة، قال: «هي فعلاً وجوه تسرد إيقاع زمننا. فالوجه وجدته هوية، وهو عندي فقط بالعيون؛ أي الرؤية، التي أجدها تنوب عن باقي الحواس، إذ هي حاضرة دوماً بصيغ مغايرة عبر مراحل سابقة، لكنها تغيب في بعض الأعمال، ولاسيما بعد جائحة كورونا؛ حيث وجدتني أستحضر ما مهدت له بالانمحاء، أي مسح العيون وتكميمها بطريقة تعبيرية تبحث في عمق الهوية الإنسانية التي غيبتها الماديات بشكل فظيع، منطلقاً من رواية «العمى» للكاتب البرتغالي خوسيه سراماغو، وقد حاولت ذلك بتلقائية جمالية حققت أعمالاً تجريدية من خلال التعامل مع اللون والشكل والخط في تركيبية متعددة الأثر، أحياناً تكون بألوان ذات بهجة خاصة، وفي أحيان أخرى بواسطة أحادية اللون وتدرُّجه».
كاتب مغربي