معركة القدس: الكيان الصهيوني وأزمة الأنظمة العربية

للوهلة الأولى بنظرتها التي غالباً ما تكون متعجلة، يبدو أن تلك الجولة من الصراع المسلح، غير المتكافئ بالطبع، بين الفلسطينيين والمحتلين الصهاينة، ما هي إلا ذلك، أي مجرد جولةٍ أخرى وحسب من صراعٍ ممتد لم يعد يعني شيئاً للكثيرين، سواءً في الخارج، أو على المستوى الرسمي العربي، أو حتى على مستوى الشعوب التي أُرضعت الأكاذيب عن السلام، وسُوقت لها الأوهام عن رخاءٍ سيعم معه، وفُرضت عليها أكاذيب عن الفلسطينيين، الذين باعوا أراضيهم، والفرص التي ضيعناها بحماقتنا منذ قرار التقسيم الأول في 48، ومن ثم غُيب وعيُها بدرجةٍ ما تحت تأثير الضرب المتكرر من إعلام أنظمةٍ تحتكر الرواية بصورةٍ عامة.
هذا للوهلة الأولى فقط، فكما أنه أبداً يستحيل النزول إلى النهر نفسه مرتين، فإن السياق التاريخي والسياسي الذي اندلعت فيه هذه الجولة جد مختلف، وبالتالي فإن تأثيرها ومردودها أيضاً مغايرٌ تماماً، وليس من قبيل المبالغة على الإطلاق وصفها بالمزلزلة والمفجرة، وإن ذلك ينعكس على ويطال القوى العظمى والكيان الصهيوني و”الكيانات الدويلية” العربية أنظمةً وشعوباً.
في ما يتعلق بالكيان الصهيوني، وفي اختصارٍ قد يكون يكون مخلاً، نظراً لما يفرضه ضيق المجال هنا، فإن ما حدث في حي الشيخ جراح، وما أعقبه من قصفٍ من غزة بالصواريخ ليُذكِرُ مؤكداً بالطبيعة الأساسية والغرض من هذا الكيان: دولة لليهود، تحديداً وحصراً إن أمكن، وإن هذا الكيان لم يوجد ولم يكن إلا على حساب الفلسطينيين وحقوقهم، وعلى أجسادهم الممزقة والمحروقة بالمعنى الحرفي لا المجازي؛ يذكرنا بأن هذا الكيان الذي أنشأته حركاتٌ تنزع لأنماط اليسار (مع تحفظاتنا العميقة على تلك الصيغ بعنصريتها الفجة، التي تتناقض مع فكرة اليسار في العمق والصميم) إلا أنه لم ينِ ينحرف، بل ينجرف يميناً، وعلى الرغم من ديمقراطيته، التي قُصد وعني بها في الأساس اليهود وحصل عليها فلسطينيوالـ48 بالتبعية، نظراً لصعوبة حرمانهم منها كونهم في النهاية أمام العالم “مواطنين” في دولةٍ تسوق نفسها غربياً في المقام الأول بصفتها حديثة تحترم القوانين، إلا أنه حقٌ ما فتئ يغيظ الإسرائيليين، ويثير حفيظتهم ويهيج عنصريتهم الهادفة إلى “التهويد” والحريصة الطامحة على يهودية الدولة، قبل كل شيء، وربما قبل الديمقراطية في حد ذاتها؛ ومداً للخط على استقامته فإن ذلك يذكرنا بالغرض الآخر، الأشمل في حقيقة الأمر لإيجاد إسرائيل: لقد ارتأت فيها الدول الاستعمارية الغربية رأس حربةٍ لها، وحصناً متقدماً يضبط هذه المنطقة، ذات الموقع الاستراتيجي، الغنية بالثروات وعلى رأسها مصادر الطاقة، فضربت بذلك عصفورين على الأقل بحجرٍ واحد: تخلصت (أو قلصت) المشكلة اليهودية، وخدمت مشروعها الرأسمالي التوسعي؛ لذا نستطيع أن نصف إسرائيل بأنها عبارة عن أحد أهم مخلفات الحداثة الأوروبية، بما أفرزته من إشكالية إدماج بعض العناصر والجماعات الإثنية، أو الدينية والفئات الوظيفية في هيكل الدولة الوطنية الحديثة (بغض النظر عن الأسباب التي لا يتسع لها المجال هنا) الذي واكب ثورة البورجوازية على النظام القديم، وتطور رأس المال في هذه الدول. لم يكتفِ الغرب بالتخلص من هذه المشكلة على سواحلنا كالنفايات النووية فحسب، وإنما أعاد تدويرها لمصلحة مشروعه الإمبريالي، ولا يغفل ذلك أبداً أن تلك المجموعات من اليهود الإشكيناز خاصةً، مثلوا أيضاً امتداداً لهذه الحداثة، بما حملوا معهم كثيراً من سماته كالأفكار والمفاهيم والتطور الوظيفي والتقني والانضباط، ما مهد لانتصاراتهم المقبلة على أنظمةٍ عربيةٍ هي في نهاية المطاف مملوكية وقروسطية بتنويعات لم تتخط مجتمعاتها العديد من الإشكاليات. إلا أن ذلك لا ينفي (بل لعله يعضد) الطابع المنحط للكيان الصهيوني، النازع للتفرقة والعنصرية، ما دفع في تطورٍ خطيرٍ ولافتٍ إلى تفجر النزاع مع عرب الـ48 الذين لم يعد بمقدورهم نسيان، أو تجاهل كونهم مواطنين من الدرجة الثانية في نهاية المطاف وعلى أفضل تقدير.

معركة القدس صفعةٌ على وجه الأنظمة العربية وصيحةٌ توقظنا من الانسياق وراء أوهام سلامٍ قد يجلبه التعاون مع العدو الصهيوني

على صعيدٍ آخر، أهم ربما، هناك انعكاس ذلك على الأنظمة العربية، وما يكشف من أزمتها وبالأدق أزمة البورجوازية العربية. مبدئياً، لقد مضى ذلك الزمن الذين كان العالم العربي يقسم فيه إلى دولٍ رجعية وأخرى تقدمية، فكلها أنظمةٌ رجعية الآن تتفاوت فقط في مدى عنفها ودمويتها، وبين مشيخاتٍ وممالك وراثية وأخرى انقلابية. لقد أثبتت البورجوازية العربية إفلاسها ورثاثتها وتبعيتها منذ زمنٍ بعيد، فقد فشلت في ثوراتها ولم تخلق سوقها، ولم تلبث بعد نيل الاستقلال بعقدٍ، أو ما يقارب ذلك أن تخلت وطرحت عنها مخايل الاستقلال الوطني وقضيته شيئاً فشيئاً (هذا إن وُجدت في الأساس) حتى وصلت إلى حيث تنغرس وجودياً على أرضية الدعم والرضا الغربي، والأمريكي بشكلٍ أخص، فهي تستمد الشرعية منه، ومن عدم ممانعة الكيان الصهيوني قامعةً للشعوب مهدرةً لثرواتها. الأهم في هذا السياق أن تلك الأنظمة، إما جهلاً وإما وهماً، ترسخ لديها بصورةٍ غامضةٍ، أن خيراً كثيراً ومكاسب لا حصر لها من الممكن أن تجنى من التطبيع فهرولوا، واجتمعوا إلى نظام السيسي وشرعوا يشرعنون ويطبعون مع العدو الصهيوني، متجاهلين، أو جاهلين تماماً أن الكيان الصهيوني لم يوجد ليخدمهم، أو يجلب لهم الاستقرار أو الرخاء، وأن الذهنية الصهيونية، العنصرية الاستعلائية الإقصائية حتى النخاع، المحتقرة للعرب، لن تلبث أن تلدغهم، وأن حل هذه القضية غير ممكن سوى بهزيمة هذه الفكرة، أو انقراض الفلسطينيين، أو اختيارهم الفناء الذاتي، وهو ما أثبتت الأحداث والمجابهة استحالته. لقد كشفت هذه الجولة من المجابهة هشاشة، بل سخافة وهزلية هذه الترتيبات بين الأنظمة العربية والكيان الصهيوني، وأيقظت القوى الغربية من السكون لوهم أن القضية سُويت ببضع أوراق، عرابوها تافهون ككوشنير وترامب ومطبخه من المتعصبين، وفي ما يخص مصر فقد أحرجت النظام الانقلابي، وذكرتنا أو فتحت عيوننا على ما كان ينبغي أن نعلمه من سِفر الثورة بالضرورة: إنه على الرغم من القمع والتربيطات، فإن أحداً لا يعلم من أين تأتي الشرارة التي تضرم النار في ذلك القش المتراكم، كما أن أحداً ليس بوسعه الحكر على التاريخ، كما كشفت نضالية وبسالة شعبنا الفلسطيني.
هي صفعةٌ على وجه الأنظمة العربية وصيحةٌ توقظنا من الانسياق وراء أوهام سلامٍ واستقرارٍ قد يجلبه التعاون مع العدو الصهيوني ويذكرنا بطبيعته الأساسية: كيانٌ مغتصبٌ عنصري لا ينمو إلا على حقوقنا، كما يذكرنا تضامن الجمهور العادي والتنظيمات الشعبية حول العالم، بأن قضية التحرر الفلسطيني قضية الجنس البشري في تحرره من سيطرة رأس المال وأن قضية التحرر واحدةٌ لا تتجزأ.

*كاتب مصري

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول S.S.Abdullah:

    في سياق وزمان ومكان ما يحدث في فلسطين، (د يحيى مصطفى كامل) نشر عنوان (معركة القدس: الكيان الصهيوني وأزمة الأنظمة العربية) بينما رأي القدس نشر عنوان (ماذا يعني «تضامن» حكومات أوروبية مع إسرائيل؟)،

    لتوضيح أهم إشكالية في طريقة ترجمة هندي/غوغل الآلية أي بواسطة القولبة، إلى (لغة القرآن وإسلام الشهادتين) أو منها (الإسلامو فوبيا) على أرض الواقع،

    لأن بدون معرفة زاوية رؤية فلان أو علان، لن تستطيع فهم أي معنى هو المقصود، لأن في علم اللغة، لكل سياق معنى يختلف عن الآخر، ومن يجهل ذلك، سينحرف في طريقة فهم لغة القرآن وإسلام الشهادتين، ولا يكون مؤهل، في الاشتغال بمهنة الترجمة،

    وستكون ترجمته مضحكة، مثل ترجمة غوغل الآلية، أو ترجمة أي إنسان من دول شبه القارة الهندية، ويعمل مترجم، في دول مجلس التعاون في الخليج العربي أو الفارسي إلى لغة القرآن وإسلام الشهادتين، على أرض الواقع.

    بالأمس سؤلت، ماذا أقصد بمفهوم حوكمة الأتمتة ما بين حكومة إلى حكومة، Governance Automation between G to G؟! عند تنفيذ سوق صالح (الحلال)، لو أردت استخدامه في حل القضية الفلسطينية؟!

  2. يقول S.S.Abdullah:

    قلت الحل بسيط، نحن كانت لدينا دولة، هي الدولة العثمانية، وهناك الأرشيف العثماني، نستطيع به ومن خلاله، أن نرجع أي حق لصاحبه، الذي تجاوزت عليه نُخب سلطة حكم (آل البيت)، أو نُخب سلطة حكم (شعب الرّب المُختار)، بواسطة خزعبلات التأميم أو الإصلاح، وهي كانت غطاء لسرقة حقوق فلان أو علان، الإنسان والأسرة والشركة المُنتجة للمنتجات الانسانية،

    بحجة تسويق اقتصاد (كيبوتسات الشيوعية الجنسية)، وتسجيل إنتاج العلاقة الانسانية، بإسم الأم، بحجة ليس هناك ثقة أو ولاء أو إيمان، بوجود خالق أو يوم آخر، للحساب؟!

    الآن بعد مرور أكثر من 70 عام على إصدار شهادة الكيان الصهيوني، ثبت فشل هذا النظام الاقتصادي، أو على الأقل لم يصل إلى الاكتفاء الذاتي، مثل مجموعة دول مجلس التعاون في الخليج العربي أو الفارسي، بصناديقها السيادية، أو مستوى الخدمات التي تقدمها الدول فيها، حتى في زمن كورونا أو في زمن اللقاحات،

    فيكفيها هي لم تجعل الإنسان والأسرة والشركة، حقل تجارب مثل فئران المختبر، لشركات اللقاحات ضد كورونا على الأقل مثل الكيان الصهيوني، على أرض الواقع.

  3. يقول S.S.Abdullah:

    لأن (نتنياهو) كل همّه، مع الدول الأوربية، كيف يغطي على رشاوي الدول الأوربية، في صفقات الأسلحة، حتى يتم تكرار الانتخابات للمرة الخامسة؟!

    فمن هنا أخبث مِن مَن، أو من يضحك على من، أو من يهدر أموال من، هنا؟!??
    ??????

إشترك في قائمتنا البريدية