الحرب الوحشية التي تخوضها إسرائيل على سكان قطاع غزة هي أيضا حرب صور ومعلومات، المؤكد فيها أن إسرائيل خسرت معركة الرأي العام مثلما خسرت الحرب العسكرية على الرغم مما تسببه من إبادة جماعية وخراب هائل في غزة.
أُرجّح أن القادة الغربيين يقولون وراء الأبواب المغلقة عن إسرائيل وجيشها وقادتها كلاما لاذعا لا يختلف عن الذي يقوله الشارع العربي.
منذ اليوم الأول للحرب شكَّل حلفاء إسرائيل عبر الدول الغربية شبكة تأثير خطيرة ووضعوا استراتيجية محكمة وفعَّالة صبّت جهدها في ثلاثة محاور: الإعلام ووسائط التواصل الاجتماعي والأوساط الأكاديمية والجامعية. مَن يتابع الإعلام الغربي هذه الأيام يعرف أن انحيازه الفاضح لإسرائيل هو نتيجة للاستراتيجية المذكورة آنفا. ومَن تابع فصول الإرهاب الفكري والإداري الذي تعرَّض له قادة جامعات هارفارد وبنسيلفينيا ومعهد ماستشوستس (وآخرون) يدرك كذلك أنها ليست من فراغ بل ثمرة الاستراتيجية ذاتها.
إحدى أخطر مجموعات الضغط تشكّلت في بداية الحرب عبر تطبيق واتساب وضمّت نحو ثلاثمئة من كبار الشخصيات اليهودية النافذة في السيليكون فاليه والأوساط السياسية والأكاديمية في الولايات المتحدة تحديدا والغرب عموما. الهدف: اصطياد كل صوت مسموع مناهض للحرب على سكان غزة.
العرب، ومعهم سكان غزة، يدفعون اليوم ثمن عنصرية العالم وجاهزيته لمعاداتهم
بفضل عملها المحكم والدقيق نجحت هذه المجموعة في حظر فعاليات سياسية وأكاديمية هامة عديدة، منها محاضرة لعضو مجلس النواب الأمريكي رشيدة طليب، وأخرى في جامعة فيرمونت. ونجحت في طرد عدد من العاملين في مؤسسات وهيئات كبرى بسبب تغريدات أو تدوينات متعاطفة مع الفلسطينيين.
تقوم حملات التأثير هذه غالبا على الكذب. يدرك القائمون عليها أن الكذبة في السياسة والحرب أقوى من تفنيدها، مثل الرصاصة، لا يوجد جهد يمحي أثرها بعد خروجها.
ضمن هذا المنظور المدروس، وضع القائمون على الدعاية الإسرائيلية خطط عمل دقيقة تهتم بأصغر التفاصيل. من النصائح التي عُمِّمت بين أعضاء مجموعة واتساب المذكورة، التركيز على وقائع بعينها ثم البناء على أدق تفاصيلها مع حرص خاص على ما يثير منها عواطف الرأي العام الغربي. من الأكاذيب التي اقترح أعضاء المجموعة العمل عليها، كذبة الأربعين رضيعا الذين جزَّت حماس رقابهم. النصيحة الأولى: تكريس الكذبة بتكرارها. النصيحة الثانية: الوقوف عند التفاصيل مثل القول إن الرضَّع ذُبحوا وعُلّقت جثثهم في حبال الغسيل بحمَّالات صدور أمهاتهم. لاحظ التفاصيل: رضَّع، ذبح، حبل غسيل، تعليق الجثث، ليس بحبل عادي أو أي شيء آخر. لا، بحمَّالات صدور أمهاتهم!
وتكررت كثيرا واقعة الحفل الموسيقي الذي كان يحضره فتيان وفتيات في مقتبل العمر «قبل أن يفترسهم وحوش حماس». هنا نُصح مروجو الدعايات بتفادي العموميات والأرقام والوقوف عند التفاصيل… ذكر الأسماء، الأعمار، استعمال الأوصاف، اصطناع الحزن والأسى عند الحديث عنها لوسائل الإعلام. مثلا: (مارشا) فتاة في العشرين، كانت مثل الوردة مقبلة على الحياة، لكن «وحوش» حماس اغتصبوها المسكينة ثم قتلوها ومزّقوا جسدها الطري. تخيّل مارشا ابنتك!
ليس مُهماً لدى هؤلاء أن تكون (مارشا) موجودة أصلا، وإنْ وُجدت لا يهم أن تكون تفاصيل قتلها دقيقة وموَثقة. الأهم ترويج الكذبة حتى ترسخ في الأذهان بشكل يجعل تفنيدها أمرا مستحيلا. والأهم من كل شيء الوقع النفسي الصادم على المتلقي الغربي عندما يسمع تفاصيل حياة (مارشا) وموتها.
رغم هذا العمل الجبَّار وغيره، خسرت إسرائيل معركة الرأي العام إلى الأبد.
لا يمكنني بعد هذا ألَّا أقارن عملهم بما يُبذل في المعسكر الآخر. من الإنصاف الاعتراف بأن جهدا هائلا يُبذل بين العرب والمسلمين وفي المجتعات الغربية للتصدي للأكاذيب الإسرائيلية. لكن من المؤسف القول إنه مجهود مشتت وغير منظم، واستنتاجا فعاليته أقل بكثير مقارنة بالجهد المقابل.
إذا نجحت قضية غزة في تحريك العالم كله وألَّبته ضد إسرائيل، فالأمر يعود أولا لعدالة القضية وإنسانيتها، ثم للمجهود البشري بالدرجة الثانية.
عدد الأسرى الإسرائيليين لدى حماس مجموعين يقل أحيانا عن عدد الأطفال والنساء الفلسطينيين الذين يقتلهم جيش الاحتلال في يوم واحد. ومع ذلك فهؤلاء معروفون بالصور والأسماء والأعمار وبتفاصيل أخرى، بينما الآخرون مجرد أرقام: استشهاد 19 فلسطينيا وإصابة 41 في قصف إسرائيلي على مدرسة في خان يونس. العشرات بين قتيل ومصاب في سقوط صاروخ على مبنى سكني في دير البلح. وغير ذلك من الصياغات المكررة.
أذهب إلى ناد رياضي عدة مرات في الأسبوع. يحدث أن في النادي شاشة عملاقة يصعب تفاديها تبث «بي بي سي» العالمية لا أعرف من اختارها وفرضها على الرواد. غالبا يصادف توقيت وجودي نشرة أخبار رئيسية. أذكر أن في الأسابيع الأربعة الأولى من الحرب لم يمر يوم لم تستضف القناة واحدا من عائلات الأسرى الإسرائيليين. بعضهم يُستضاف أكثر من مرة في الأسبوع حتى حفظتُ أسماءهم وقصصهم وخشيت أن أبدأ بالشعور بأنهم أصدقاء لي أنا المتعاطف مع غزة. تخيّل أثر حضورهم المكثف على الجمهور الغربي المحايد.
يستطيع أنصار غزة والإنسانية، خصوصا في العالم العربي، فعل الكثير. المقاطعة سلاح فتّاك لكن يبدو أن الوعي بأهميته ناقص. يستطيعون جمع تبرعات لبناء نُصب تذكارية تساعد فيها البلديات تُنقش عليها أسماء أطفال غزة الضحايا، لكن المجتمعات تفتقد للتنظيم الكافي لمثل هذا العمل. تستطيع نقابات الصحافيين تخليد أسماء الزملاء الذي أبادتهم صواريخ جيش الاحتلال بأكثر من طريقة. في إمكان المنظمات النسائية، حكومية وأهلية، تقديم شيء للنساء اللواتي أودى بهن القصف الإسرائيلي من خلال تكريم أرواحهن وتخليد أسمائهن بأكثر من طريقة. تستطيع الحكومات العربية، الثرية بالخصوص، إنقاذ المؤسسات التعليمية والثقافية الكثيرة التي يجري خنقها في الغرب بداعي أنها مؤيدة للفلسطينيين، لكنها نائمة أو لا تريد. هناك إمكانية الاستفادة من الغربيين الذين يتلذذ العرب بمشاركة فيديوهاتهم اللاذعة ضد إسرائيل على واتساب أو فيسبوك، لكن لا يبدو أن هناك شيئا من هذا.
العرب، ومعهم سكان غزة، يدفعون اليوم ثمن عنصرية العالم وجاهزيته لمعاداتهم. لكنهم يدفعون أيضا ثمن قلة تنظيمهم وشلل قوى المجتمع المدني لديهم (مسؤولية الحكومات هنا كبيرة وتاريخية) حتى بات أي عمل ناجع يحتاج للبداية من الصفر، وربما تأخر الوقت. أما حلفاء إسرائيل فلم يبدأوا من العدم، بل فعَّلوا شبكات موجودة وحرّكوا ماكينات كانت جاهزة لمثل هذه اللحظة.
كاتب صحافي جزائري