تم الإعلان عن طلب مذكرة توقيف دولية بحق رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو ووزير دفاعه وثلاثة من قادة حركة حماس. وحتى قبل أن يُصادق على الطلب من قبل قضاة المحكمة، راجت موجة استنكار وإدانة واسعة له من قبل إسرائيل والولايات المتحدة، ومعظم العواصم الغربية. فقد علّق نتنياهو على القرار قائلا، (هو بالضبط ما تبدو عليه معاداة السامية الجديدة. لقد انتقلت من الجامعات الغربية إلى قاعة المحكمة في لاهاي.. يا له من عار).
في حين علّق الرئيس الأمريكي جو بايدن عليه بالقول، (نرفض مذكرات الاعتقال الصادرة عن المحكمة الجنائية الدولية، بحق القادة الإسرائيليين. أيا تكن الغاية منها لا يمكن مساواة إسرائيل بحماس). أما بريطانيا التي تصر دائما على أن تكون مواقفها مُلحقة بالموقف الأمريكي، فقد قال وزير خارجيتها ديفيد كاميرون (سأقول بصراحة أعتقد أن هذا خطأ من حيث الموقف والتوقيت والتأثير، فلا مساواة بين قيادة حماس ورئيس الوزراء الإسرائيلي المنتخب ديمقراطيا، أعتقد أنه أمر خاطئ تماما).
إن قرار الجنائية الدولية لا شك هو تغير كبير، لكن من الصعب القول إن المسار القانوني يستطيع أن يصمد أمام كل هذه الضغوط السياسية
من الواضح أن الزلزال الدبلوماسي الذي أحدثه هذا الطلب في أكثر من عاصمة سببه، أن هناك مفارقه تفرض نفسها الآن بين ما يمكن اعتباره المعيار، وما هو الواقع. فالمعيار كناية عن قيود القانون الدولي، فإذا ثبت أن هناك شخصا على أي مستوى كان، قد ارتكب جرائم حرب أو جرائم ضد الإنسانية، فإنه سيخضع للمساءلة، ومن حق المحكمة أن تدينه وبالتالي القانون فوق الجميع. لكن هنا المسار القانوني يصطدم مع المسار السياسي، خاصة أن بايدن وكاميرون ونتنياهو، ينفرون من اجتهاد الادعاء العام في المحكمة الجنائية الدولية ويعتقدون أن المسألة سياسية. وعليه فإنهم يلجؤون إلى افتعال خطاب ليس في صلب المنطق. فهم يحتجون على أن المحكمة تساوي بين قادة إسرائيل وقادة حماس. لكن المسألة ليست ببعدها الشخصي بقدر ما أن المحكمة تعتقد بالبُعد القانوني، ما يرقى بما حدث بعد السابع من أكتوبر إلى جرائم حرب وجرائم ضد الإنسانية. وعليه نجد أن الأعضاء في هذه المحكمة منقسمون على ذاتهم أولا. فهناك الولايات المتحدة وإسرائيل ودول أخرى غير أعضاء، ولم يوقعوا على عضوية المحكمة، لكنهم الآن أصبحوا هم من يدلون بالفتاوى تلو الأخرى. في حين أن المسألة ينبغي أن تبقى قانونية خالصة، ولا تدخلها السياسة. وبعكسه سيكون هنالك لاعبون يضغطون لرفع ما يعتقدون أنه حيف قد وقع على نتنياهو ليس من أجل التبرئة، ولكن الضغط السياسي لإلغاء اجتهاد المحكمة.
إن ما نشهده اليوم وما سيتم خلال الأيام المقبلة، سيحدد لكل العالم هل نحن أمام محكمة جنائية دولية بالمفهوم الدولي، وأن سلطتها تسري على الكل؟ أم نحن أمام محكمة جنائية تمارس سلطتها فقط على افريقيا كما حدث مع معمر القذافي في ليبيا، وريتشارد تايلر في ليبريا، وجوزيف كوني زعيم جيش الرب في أوغندا، وعمر أحمد البشير في السودان. مضافا إليهم بيزونوفيتش في البوسنة والهرسك، وبوتين في روسيا. والمفارقة هنا أنه عندما يتعلق الأمر ببوتين وأوكرانيا تصبح الجنايات الدولية محكمة جيدة ويصفقون لها طويلا، وعندما يتعلق الأمر بشخصيات إسرائيلية نسمع كل هذا اللغط والهراء، الذي يتنافى مع كل منطق. وهذا ما تحدث عنه المدعي العام كريم خان على قناة «سي أن أن» عندما قال، لا يمكن الاستمرار بازدواجية المعايير، وكان على المحكمة أن تتحرك. كما رد على التصريحات الإسرائيلية بأن ليس هناك ولاية قضائية للمحكمة على إسرائيل باعتبار أنها ليست موقعة على اتفاقية روما بالقول، سمحت للجانب الإسرائيلي لمدة سبعة أشهر للتحرك ولم يتحرك. كما ذكّر بموقفه على معبر رفح عندما زار المنطقة بأنه طلب من الجانب الإسرائيلي دخول المساعدات الإغاثية لغزة، لكنهم رفضوا ذلك، وعلى هذا الأساس فإنه بات من المستحيل البقاء في موقف المتفرج.
إذن هناك خلاف أخلاقي وخلاف سياسي أيضا، حول أين يمكن وضع هذه المحكمة بين كل المؤسسات التي تطبق قواعد القانون الدولي، بحيث لا أحد يستطيع، لا بوتين ولا بايدن ولا نتنياهو، أن يجادل بأن هذه المحكمة الجنائية الدولية تتحيز، أو أن لها أجندة سياسية، وهي على المذهب القانوني نفسه، والعقيدة القانونية نفسها، التي يتم العمل بها في سائر الهيئات الدولية، على غرار محكمة العدل الدولية. وإذا العالم اليوم يتساءل إلى أين ستستمر هذه المحكمة، في هذا الموضوع، فإن الخشية كل الخشية أن معركة المحكمة مع قادة إسرائيل، ربما ستدفع بعض العواصم الكبرى إلى افتعال ما قد يُنهي وجود هذه المحكمة. بمعنى قد يأتي قول من الكونغرس، أو البيت الأبيض، بأنه لم يعد لهذه المحكمة مجال، أو ظروف تبرر وجودها، وأنه قد عفا عليها الزمن. والسبب في ذلك أن ما يحدث اليوم، هو أنه لاول مرة توجّه تُهم بارتكاب جرائم ضد الإنسانية، إلى زعيم دولة حليف صميمي للولايات المتحدة، حيث لم نشهد هذا في التاريخ منذ عام تأسيس المحكمة في 2002.
يقينا أننا أمام قرار له أهمية كبيرة فلسطينيا وعربيا، ولكن سيظل رمزيا، فلربما لن نصل إلى مرحلة إصدار القرار، لأن هناك ضغوطا دولية عارمة، وقد تحصل مفاجأة الآن ووقت إصدار القرار، تصل إلى قلب موازين القوى حول المحكمة، وربما حتى الاستهداف الشخصي لكريم خان. بمعنى سنشهد موجة تخويف وترهيب إلى المدعي العام ومستشاريه، وهو من أشار إلى ذلك صراحة عندما قال، إنه لن يتردد في ملاحقة أي طرف يمارس ضغطا على المحكمة. لكن ينبغي الآن على الدول التي تُقدّم نفسها على أنها راعية القانون الدولي، وهي التي ساهمت في إنشاء الأمم المتحدة ومعاهدة سان فرانسيسكو وميثاق الأمم المتحدة، أن تحسم أمرها، هل هي مع روح القانون الحديث بمعنى أن القانون فوق الجميع، وأن منظومة العدل الغربية فعلا تتبنى العقيدة القانونية نفسها أم لا؟
إن قرار الجنائية الدولية لا شك هو تغير كبير، لكن من الصعب القول إن المسار القانوني يستطيع أن يصمد أمام كل هذه الضغوط السياسية. وهذا يجعل الاعتقاد قائما، بأنه ربما هذا هو ذروة ما يمكن أن تفعله الجنائية الدولية لا أكثر وحتى أشعار آخر. فلا يمكن الاستهانة بالضغوط السياسية المستنفرة الآن، حيث لأول مرة تواجه إسرائيل موقفا كهذا، على الرغم من كل الدعم الغربي العسكري والسياسي والدبلوماسي، خاصة وسبق هذه الواقعة واقعة أخرى حدثت في محكمة العدل الدولية قبل فترة وجيزة. مضافا إليها ما حدث في الجمعية العامة للأمم المتحدة وفي مجلس الأمن. وعليه فلن يدخر الغرب جهدا في التمرد على المحكمة بطريقة أو أخرى. فهل يمكن اعتبار ما حصل في الجنائية الدولية هو فقط تسجيل موقف قانوني لا يُعوّل على تطبيقه على أرض الواقع؟ ربما.
كاتب عراقي