معركة شيعية مقدسة جديدة!

كتبت في مقدمة كتاب «مراجعات في الدستور العراقي» (كتاب مشترك صدر عام 2006) أنه إذا كانت المهمة الأولى للدستور في الدولة الحديثة هي تثبيت سلطة القانون عبر الدولة، فإنّ الدستور العراقي عمد إلى تحييد هذه السلطة من خلال المادة 41 الخاصة بالأحوال الشخصية التي تهدف إلى إلغاء قانون الأحوال الشخصية رقم 188 لسنة 1959 والذي مثّل احتكار الدولة لسلطة القانون والتشريع وأسقط سلطة المعرفة الفقهية» الممثلة في الفقيه. فهذه المادة عمليا تعيد للفقيه هذه السلطة. والمسألة هنا لا علاقة لها مطلقا بالدين أو الشرع، وإلا لكان الأولى تبعا لهذه النظرة أن يعاد النظر في قانون العقوبات مثلا، الذي يبطل حدودا وأحكاما قطعية لا اجتهاد فيها. لكنّها إعادة لسلطة الفقيه على المسائل الخاصة بالأسرة والمجتمع وإدامة هذه العلاقة، ومن ثم بقاء الفقيه فاعلا يتحرك بموازاة الدولة، وليس ضمنها. إنها ولاية من نوع آخر .
لهذا لم يعد مقترح تعديل قانون الأحوال الشخصية مجرد دعوة لتطبيق الشريعة الإسلامية في العراق، فيما يتعلق بالأحوال الشخصية، بل تحول فجأة إلى معركة شيعية مقدسة جديدة تستوجب التجييش خلفها، مهما كانت نتائجها على المجتمع!
لقد أصدر الإطار التنسيقي، الذي يضم قوى الإسلام السياسي الشيعية المهيمنة على مجلس النواب (بعد انسحاب التيار الصدري) بيانا دعا فيه مجلس النواب إلى تمرير هذا القانون في أول جلسة له، مؤكدا أن التعديل ينسجم مع الدستور، وأنه «لا يتعارض مع ثوابت الشريعة وأسس الديمقراطية»!
وكان لا بد، بالموازاة مع ذلك، من حملة تسويقية من خلال استعادة مواقف رجال الدين الشيعة ضد تشريع هذا القانون عام 1959، مع العلم أن حملة رجال الدين آنذاك ارتبطت، بشكل جوهري، بالمادة التي ساوت بين الذكر والأنثى فيما يتعلق بالإرث، بخلاف ما ورد في القرآن الكريم من أن «للذكر مثل حظ الأنثيين» وقد حُذفت أصلا من القانون عام 1963، واعتُمد بدلا عنها ما ورد في النص القرآني ضمن القانون النافذ!

الأحكام الفقهية ليست عابرة للزمن، بل هي متجذرة فيه، وبالتالي ما كان يصدق على المجتمع الذكوري القرن الخامس الهجري، لا يمكنه أن يصدق على العصر الحالي

يشير الباحث المتمكن علي المدن في مقالة نشرها في صحيفة المدى العراقية يوم 30 يونيو/ حزيران 2024 تحت عنوان: «التعديل والأهلية . جدل الفقه الجعفري مع قانون الأحوال الشخصية في العراق» إلى مبدأ جوهري في الفقه الشيعي، فيما يتعلق بترجيح وتقديم الاحكام الفقهية على غيرها، هو مبدأ «مخالفة العامة» أي مخالفة فتاوى بقية المسلمين من المذاهب الأخرى، وينقل الباحث نصوصا تنسب إلى الإمام جعفر الصادق لترسيخ هذا المبدأ، منها قوله: «دعوا ما وافق القوم فإن الرشد في خلافهم» و»إذا ورد عليكم حديثان مختلفان فخذوا بما يخالف القوم»! لينتهي إلى استنتاج مهم وهو «إن مسألة النظر في أهلية الفقه الجعفري تتعادى ثنائية فقه الفرد / وفقه الدولة، لأنها تمس تكوينه البنيوي في كشف وبناء رؤيته الفقهية داخل الدولة وفي المجتمع الوطني المتعدد مذهبيا. وما لم تعالج هذه الآلية الاستنباطية التي يقوم عليها العقل التشريعي فمن الصعب تخيل وجود مساهمة فاعلة لهذا الفقه وطنيا».
وإذا كان هذا المبدأ مفهوما، في سياق تاريخ «الأقلية الشيعية» منذ النصف الثاني من القرن الرابع الهجري، حين بدأت الخطوات الأولى لتشكل التشيع كمذهب فقهي على يد الشيخ المفيد (المتوفى سنة 413 هجرية)، وفي سياق محاولة ترسيخ «خصوصيتها» عبر مغايرة المذاهب السنية، إلا أن هذا المبدأ لا يمكن ان يستمر في سياق الدولة، فخطاب الدولة يتناقض بالضرورة مع خطاب الطائفة لأنه يتعاطى مع مواطنين متساويين في الحقوق، وليس مع مكلفين يخاطَبون بما اقتضى الشرع من الاحكام الشرعية الخاصة بطائفته ومذهبه!
وبعيدا عن العقائد، لا ينتبه المعترضون على قانون الأحوال الشخصية، إلى أن الأحكام الفقهية ليست عابرة للزمن، بل هي متجذرة فيه، وبالتالي ما كان يصدق على المجتمع الذكوري القرن الخامس الهجري، لا يمكنه أن يصدق على العصر الحالي. لهذا عندما «يصر» الفاعلون السياسيون الشيعة على ضرورة نسف هذا القانون، عبر مقترح التعديل المقدم، واستبداله «بمدونة الأحكام الشرعية في مسائل الأحوال الشخصية» يتم كتابتها استنادا إلى رأي المشهور عند فقهاء كل مذهب، فانّ ذلك يعني لا محالة استعادة عشرات الأحكام التي لا يمكن أن تكون «منطقية» أو «مقبولة» في العصر الحالي.
لهذا تجدهم يتهربون من الإجابة عن الأسئلة الجوهرية المتعلقة بهذه الأحكام، ويحاولون التدليس عليها! فعندما تقول لهم إن الفقه الإسلامي في قضايا الأحوال الشخصية لم يكن مثلا يرى الأنثى إلا بوصفها «سلعة/ جسد» محض، لهذا فهي لا تستحق نفقتها شرعا إذا منعت الزوج من «التمتع» بها! كما أن لا رأي لها إذا ما قرر «الولي» تزويجها وهي رضيعة في المهد، ولا رأي لها إذا ما قرر الزوج أن يطلقها مرتين، ثم يقرر أن يرجعها، ولا حق لها في الحضانة عند طلاقها بعد بلوغ وليدها عمر السنتين، بل هذا حق ثابت للرجل، وهاتان السنتان ليستا حقا لها في الحضانة، بل عمل لها بوصفها أداة للرضاعة في مقابل نفقتها، ولا حق للمطلقة طلاقا بائنا (أي الطلقة الثالثة) بأي نفقة أو سكن، أما في حالة الطلاق الرجعي (الطلقة الأولى والثانية) فلها النفقة والسكن في شهور عدتها حصرا!
والمفارقة أن الفقه الإسلامي يضع تمييزا سلبيا فاضحا فيما يتعلق بسن البلوغ بين الأنثى والذكر، ليتيح استخدامها كسلعة للتمتع، فالأنثى تعامل كبالغة عن إكمالها تسع سنوات قمرية (ثماني سنوات وثمانية أشهر وعشرون يوما)، ويطلب رأيها عن زواجها بهذا العمر، الذي عمر الزواج المتفق عليه سنيا وشيعيا. ولكن سن البلوغ للذكر هو إكمال خمس عشرة سنة هلالية (أربع عشرة وستة أشهر وخمسة عشر يوما)!
في المعارك الدينية/ المذهبية المقدسة لا مكان للمنطق أو العقل، ولا مجال لمناقشة المخرجات والنتائج الكارثية التي يمكن أن تترتب على العودة إلى متاهة المدونات الفقهية، او فتاوي مراجع التقليد لكل فرد، ولا مجال لمناقشة الفرق بين منطق الدولة ومنطق الطائفة، ولا الفرق بين منطق المواطنة ومنطق الأقلية التاريخي. وعلى الأغلب سيتمكن الفاعلون السياسيون الشيعة من تطبيق «الشريعة الإسلامية» فيما يتعلق بالأحوال الشخصية، والتي لا تعرف مفهوم المواطن من الأصل، بل تعترف بـ»المكلف» فقط، وتسويقها على أنها «خيار ديمقراطي» دون أي التفاتة إلى التناقض الواضح بينهما!

كاتب من العراق

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية