معضلة إرث داعش

سيطر تنظيم الدولة على الموصل، وتمدد في العراق وسوريا حيث شكل تحديا دوليا استوجب تدخلا مضادا متعدد الأهداف، كانت المقاربة العسكرية هي الرؤية الغالبة على الجميع، حيث لم تسع الاطراف جميعها الى إنتاج مقاربة سياسية موازية من اجل التعاطي بشكل حقيقي مع المقدمات التي أنتجت ظاهرة داعش في سوريا والعراق.
من اجل ذلك وجدنا عجزا واضحا في التعاطي مع إرث داعش، ليس محليا فقط، وهو متوقع، بل دوليا أيضا! وربما كان المثال الأبرز على هذه الحقيقة هو ملف عوائل داعش المحليين، وملف مقاتلي داعش الاجانب وعوائلهم. ناهيك عن مناقشة ملفات أكثر تعقيدا مثل قضايا النازحين وإعادة الإعمار، او قضايا أكثر حساسية مثل جرائم الحرب التي ارتكبت على نطاق واسع في الحرب ضد داعش!
مع سيطرة قوات سوريا الديمقراطية على الباغوز، آخر معقل لتنظيم الدولة في سوريا وهي الواقعة على ضفاف نهر الفرات ضمن محافظة دير الزور، ولا تبعد عن الحدود العراقية سوى أقل من 500 متر فقط، وبعد إعلان الولايات المتحدة الأمريكية سحب قواتها من سوريا، بات على الجميع مواجهة مشكلة المتهمين بالانتماء إلى داعش من الذين سلموا انفسهم او تم اسرهم، ومشكلة العوائل التي تصاحبهم، لاسيما وأن قوات سوريا الديمقراطية لا تمتلك الشرعية التي تجعلها قادرة على التعاطي مع هكذا ملف معقد.
بدأ الامر مع حادثتي البريطانية من أصل بنغلاديشي شاميما بيجوم التي اسقطت عنها الجنسية البريطانية، والأمريكية من أصل يمني عودة مثنى التي رفضت الولايات المتحدة بدعوى أنها لا تحمل الجنسية الأمريكية. ثم تواترت الاحداث وتطورت لينتشر خبر الشاحنات التي تحمل عشرات العراقيين المتهمين بالانتماء إلى داعش، او المقاتلين فيه، مع عوائلهم، وبحراسة أمريكية، من سوريا إلى العراق، مع بضعة أفراد/ عوائل من جنسيات أخرى لم يعلن عنها، باستثناء الفرنسيين منهم الذين تم الإعلان عنهم بشكل رسمي!
عراقيا ظل الموضوع بعيدا عن الشفافية، كجزء من المنهجية العراقية طويلة المدى بالالتزام باللاشفافية.
فليس ثمة شك أن هناك صفقة سياسية غير معلنة، تشترك فيها الولايات المتحدة الأمريكية وفرنسا. فقد أعلن رئيس مجلس الوزراء العراقي في 13 شباط/ فبراير أن قوات سوريا الديمقراطية قد اعتقلت مقاتلين عراقيين في داعش، وانه تجري الاستعدادات لنقلهم مع عوائلهم إلى العراق! ولكن عملية النقل التي تمت في مرحلة لاحقة اشتملت على «مقاتلين أجانب» لم يأت رئيس مجلس الوزراء على ذكرهم! في الوقت نفسه أعلن في يوم 21 شباط/ فبراير عن بيان رسمي لجهاز المخابرات العراقي عن تفكيك «أكبر مجموعة تمويل لداعش في تأريخ البلاد»! لتنفرد في اليوم نفسه قنوات ومواقع إلكترونيه محلية بأنباء عن تم ضبط 500 مليون دولار في العملية، واعتقال «13 فرنسيا من أبرز قيادات داعش داخل الأراضي السورية»! كما جاء في خبر قناة روسيا اليوم في اليوم نفسه نقلا عن قناة العراقية الرسمية! لنكتشف بعدها ان الأمر كان مجرد مسرحية سيئة الإخراج للتغطية على اتفاق فرنسي ـ عراقي على تسليم مقاتلين فرنسيين تعتقلهم قوات سوريا الديمقراطية إلى العراق! ويؤكد الرئيس ماكرون هذا الاتفاق بالقول «الأمر متروك لسلطات هذه الدول أن تقرر، بشكل سيادي، أذا ما جرت محاكمتهم هناك»! وفعلا تسلم العراق حتى اللحظة، وعلى دفعتين يومي 21 و24 شباط/ فبراير 280 متهما/ مقاتلا في داعش من مجموع 502 متهم/ مقاتل، معظمهم عراقيون، مع عوائلهم، تم الاتفاق على تسليمهم كدفعة اولى! ولا يعرف لحد الآن عدد المقاتلين الاجانب الذين تم الاتفاق على تسليمهم، من مجموع 800 مقاتل أجنبي تحتجزهم قوات سوريا الديمقراطية في سوريا، بعضهم مع عائلاتهم!

يبدو الحديث عن محاكمة الجهاديين الاجانب في العراق مجرد محاولة للتغطية على الصفقة السياسية للتخلص من العبء الذي يمكن أن يشكلوه لدولهم ليس أكثر، خاصة ان الجميع يدرك ان لا إمكانية لضمان محاكمات عادلة في العراق!

بعيدا عن السياسة، والصفقات الجانبية، يواجه العراق مشكلتين حقيقيتين، تتعلق الاولى بطريقة تعاطيه مع ما أصطلح عليه «عوائل داعش»! حيث اعتمدت الجهات الرسمية العراقية انشاء مخيمات عزل تفتقد إلى الشروط الانسانية بالكامل لهذه الفئة، في سياق عقوبات جماعية يتم تنفيذها مع تواطؤ دولي غير مسبوق!
والمشكلة الأخرى تتمثل في التعاطي مع المقاتلين الأجانب في داعش، فثمة فراغ قانوني مريع على مستوى المدونة القانونية المحلية فيما يتعلق بهذه المسألة، فقانون العقوبات العراقي يقرر فيما يتعلق بالاختصاص الإقليمي أنه يسري حصرا على الجرائم التي ترتكب في العراق، أو على من ساهم في جريمة وقع كلها أو بعضها في العراق (المادة 6)، اما فيما يتعلق بالاختصاص العيني فانه يسري على من ارتكب خارج العراق جريمة ماسة بأمن الدولة الخارجي أو الداخلي أو ضد نظامها الجمهوري أو سنداتها المالية أو طوابعها أو جريمة تزوير في اوراقها الرسمية أو تزييف عملتها (المادة 9). أما فيما يتعلق بالاختصاص الشخصية فيتعلق حصرا بالعراقيين الذين ارتكبوا في الخارج جريمة تعد جناية او جنحة بموجب هذا القانون. أخيرا فيما يتعلق بالاختصاص الشامل فهو يختص بالعراقيين أو كل من وجد في العراق بعد ان ارتكب في الخارج جريمة تتعلق بتخريب أو تعطيل وسائل التخابر والمواصلات الدولية والاتجار بالنساء والصغار او الرقيق أو بالمخابرات! ومن الصعب أن تنطبق هذه المواد على ما قام به الاجانب المقاتلون في داعش إلا بتأويل مفرط!
أما قانون أصول المحاكمات الجزائية، وفي الفصل الخاص بالإنابة القضائية فانه يقر إمكانية محاكمة الأجنبي في العراق بناء على «رغبة» تلك الدولة مشترطا «ان ترسل طلباً بذلك بالطرق الدبلوماسية الى وزارة العدل ويجب ان يكون الطلب مصحوباً ببيان واف عن ظروف الجريمة وادلة الاتهام فيها والنصوص القانونية المنطبقة عليها وتحديد دقيق للإجراء المطلوب اتخاذه» (المادة 353). على أن تقرر السلطات القضائية العراقية أن «الطلب مستوف للشروط وان تنفيذه لا يخالف النظام العام في العراق» (المادة 354)! وهذا الطلب لا يمكن ان تقدمه دولة مثل فرنسا التي ألغت حكم الإعدام وبالتالي لا يمكنها أن تطلب من العراق محاكمة مواطنيها مع إمكانية الحكم علهم بالإعدام! وهذا يعني عمليا ان الصفقة التي تم بموجبها نقل المقاتلين الاجانب إلى العراق لم تلتزم بهذه الإجراءات الشكلية والموضوعية التي يفرضها عليها القانون العراقي!
الواضح إذا أن المدونة القانونية العراقية تعاني من فراغ فيما يتعلق بالولاية القضائية الدولية، تحديدا فيما يتعلق بالجرائم الموصوفة في نظام روما الأساسي للمحكمة الجنائية الدولية، وهي: جرائم الإبادة الجماعية، وجرائم ضد الانسانية، وجرائم الحرب، وجريمة العدوان، والتي تندرج ضمنها قائمة طويلة من الجرائم. وقد ورد التوصيف الوحيد لهذه الجرائم في قانون المحكمة الجنائية العراقية العليا لعام 2005، ولكن هذا القانون حصر ولايته بين عامي 1968 و2003، وبالتالي هو لا ينطبق على الجرائم التي نحن بصددها! خاصة وأن الحكومات العراقية المتتالية ظلت ترفض المصادقة على نظام روما الأساسي لأنها تخشى من إمكانية ان تطالها اتهامات فيما يتعلق بالجرائم التي تخضع لولاية هذه المحكمة! في الوقت نفسه، وعلى الرغم من مصادقة العراق على العديد من الاتفاقيات والمعاهدات التي تتيح لها استخدام الولاية القضائية الدولية، مثل اتفاقيات جنيف لسنة 1949 التي صادق عليها العراق في العام 1956، واتفاقية منع جريمة الإبادة الجماعية والمعاقبة عليها لعام 1948 التي صادق عليها العراق في عام 1959، والاتفاقية الدولية لقمع جريمة الفصل العنصري والمعاقبة عليها لعام 1973 التي صادق عليها العراق عام 1975، واتفاقية مناهضة التعذيب وغيره من ضروب المعاملة او العقوبة القاسية أو اللاإنسانية أو المهينة لعام 1984 التي صادق عليها العراق عام 2008، وبروتوكول منع وقمع ومعاقبة الاتجار بالأشخاص وبخاصة النساء والاطفال لعام 2000 التي صادق عليها العراق عام 2008، والاتفاقية الدولية لحماية الأشخاص من الاختفاء القسري لعام 2006 التي صادق عليها العراق في عام 2010. إلا أن القوانين الوطنية لم تلتفت إلى هذه الالتزامات، وظلت بعيدة عنها. ومن هنا يبدو الحديث عن محاكمة الجهاديين الاجانب في العراق مجرد محاولة للتغطية على الصفقة السياسية للتخلص من العبء الذي يمكن أن يشكلوه لدولهم ليس أكثر، خاصة ان الجميع يدرك ان لا إمكانية لضمان محاكمات عادلة في العراق!

كاتب عراقي

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول S.S.Abdullah:

    أنا أختلف مع عنوان د يحيى عياش (معضلة إرث داعش) فالمعضلة الأساسية من وجهة نظري، هو لماذا ظهرت داعش بعد 2008 أو جماعة الزرقاوي بعد 2003 أو جماعة أسامة بن لادن بعد 2/8/1990 في المنطقة؟!

    دول مجلس التعاون قبل هذا التاريخ، كان حتى دلوعة أمه (دونالد ترامب) في عام 1988 يتمنى أن يكون مواطن ويحس أنه ملك بسبب عدم دفعه الضرائب، كما هو حاله في أمريكا،

    فقد تبين أن موقف دلوعة أمه السلبي من العولمة والإقتصاد الإلكتروني سببه عدم رغبته دفع الضرائب، ويريد تعويض ذلك بزيادة الجمارك على الاستيراد؟!

  2. يقول حسين:

    انهم رغم اختلاف المسميات صناعة استخباراتية أمريكية و يتوجب عليها حماية من يخدمها و التخلص ممن شعرت بانه عديم الفائدة لها.
    اذاً لا تلوموها اذا حابتهم او ساعدتهم ، و بالتالي هم في استراحت المجارب لجولات اخري، فعلي قسد(صناعة أمريكية) و العراقيين بكافة اطيافهم ان يقوموا بإعدامهم حال اعتقالهم حيث لا رجاء فيهم رجال او نساء و الدليل حتي النساء منهم لا يندمون و يؤكدون عدم ندمهم .
    ام نسيتم من ذبحوه او حرقوه او خنقوها ام دمائهم رخيصة ؟

إشترك في قائمتنا البريدية