معضلة الأخلاق بين القانون والوازع النفسي: بنتهام وبيرجس

كثيرا ما يدَّعي أفراد أو جماعات أو حتى حكومات انتهاج منظومة أخلاقية سامية، وأن تلك المنظومة هي السبيل نحو التميُّز والإبداع. وبوضع أيٍّ من تلك الكيانات تحت الملاحظة، حتى لو كانت عشوائية، قد يسهل فهم أن المنظومة الأخلاقية تلك ما هي إلَّا قواعد مهترئة، لا تحقق الخير لا للجماعة ولا للفرد؛ فهي مجرَّد ادِّعاء كاذب وشعارات زائفة تفضي إلى تفشِّي العديد من الأمراض الاجتماعية وضياع حقوق الأفراد. وقد يظن البعض أن القانون الوضعي هو العامل الأساسي لضمان الحفاظ على سلامة المنظومة الأخلاقية داخل المجتمعات، لكن أثبتت التجربة على مرّ العصور أن القانون دوما يعاني من العوار، وأن معاقبة المخطئ قد لا تكون رادعا، بل السبيل لاقتراف المزيد من الشرور. وقد أكَّد ذلك الفيلسوف الإنكليزي جيريمي بنتهام Jeremy Bentham عندما قال: «جميع ألوان العقاب هي أذى، والعقوبة في حد ذاتها شرّ». وبرر بنتهام قوله هذا عندما مارس مهنة المحاماة، وكسب بكل سهولة قضية بدت وكأنها معقَّدة، لكن ثغرات القانون كانت هي السبيل للنجاح. ولهذا كان يردد أن «قوَّة المحامي تنبع من عدم حتمية القانون»، أو بالأحرى من ثغرات القانون. وفي محاولة منه لإيجاد حلول، انصبَّت فلسفته على محاولته الدؤوبة لإصلاح القانون.
وجيريمي بنتهام (1748-1832) هو أحد روَّاد الفكر الإنساني الذي تمتد أفكاره بقوَّة للعصر الحديث، وعلى أساسها تم تطوير منظومة الحرِّيات في العالم بأكمله، ويكفي القول إنه رائد المنظِّرين في فلسفة القانون الأنكلوأمريكي، وأن أفكاره هي التي أرست قواعد رفاهية الفرد والمجتمع في العالم الغربي؛ فهو من دافع عن حرِّية الأفراد والاقتصاد، ونادى بفصل الكنيسة عن الدولة، وحرِّية التعبير، وحقوق المرأة ومساواتها في الحقوق مع الرجل، ونادى بحق الزوجين في الطلاق، على عكس منظومة أبدية الزواج التي ترعاها الكنيسة، بل إنه دعا إلى إلغاء العبودية وعقوبة الإعدام والعقوبة الجسدية لأي مخطئ، بما في ذلك الأطفال؛ حيث وجد أن في عقوبة الأطفال جسديا، حتى لو من قبل الوالدين، شرورا عظيمة.

والغريب أيضا أنه كان أحد أوائل المدافعين عن حقوق الحيوان. كان يؤمن بوجوب توسيع دائرة الحقوق القانونية الفردية، وكان هذا أساس طرحه الفلسفي الذي أطلق عليه «النفعية» Utilitarianism التي ينتهجها العالم الغربي، والتي كان لها عظيم الأثر في إصلاح السجون والمدارس والقوانين الخاصة بالفقراء، وكذلك البرلمان نفسه. وفلسفة النفعية تلك تقضي بتحقيق السعادة للفرد والمجتمع؛ فمن وجهة نظره أن السعادة القصوى هي معيار الصواب والخطأ، وفي ذلك اقترح تقدير الوضع الأخلاقي لأي فعل، من خلال إجراء استحدثه وأطلق عليه اسم حساب المتعة أو حساب السعادة. ويعد بنتهام وأفكاره التي تنادي بحرِّيات كانت غريبة على المجتمعات حتى وقت قريب، أحد الفلاسفة النادرين الذين أيَّدوا فكرة «الأنانية النفسية» psychological egoism التي تعني أن الإنسان يفعل الخير في محاولة منه لإرضاء غروره، وكذلك تحقيق المتعة. والمدهش أنه أيضا عرَّف الإغراق في فعل الخير بأنه ضرب من ضروب تحقيق أقصى أنواع المتعة بطريقة هيدونية، أي ماجنة.

كان لأفكاره عظيم الأثر على معاصريه وتلاميذه، وعلى المجتمعات الأوروبية في عصره، لدرجة أن روَّاد الثورة الفرنسية استدعوه متحدِّثا وآمنوا بأفكاره، وحاولوا تطبيقها في ناموسهم الجديد. وفي محاولة منهم لتكريمه والاعتراف بفضله على المجتمع الفرنسي منحوه الجنسية الفرنسية الشرفية. وفي ما يبدو أن فلسفته نجمت من ملاحظته أن «الطبيعة البشرية تخضع تحت إمرة سيدين عظيمي السطوة، وهما: الألم والمتعة، اللذان ترك لهما الأمر وحدهما لتقرير ما يتوجَّب علينا القيام به، وكذلك تحديد ما الذي سوف نضطلع به»، ويعني ذلك أن متلازمة المتعة والألم هي التي تتحكَّم في مصير البشرية، وبالتأكيد تشترك الحكومات والقوانين الوضعية وأصحاب السطوة والنفوذ في تمرير متلازمة المتعة والألم سواء بالزيادة أو بالنقصان.
وقد تناول الكاتب والمؤلِّف الموسيقي الإنكليزي أنتوني بيرجيس Anthony Burgess (1917-1993) تلك المبادئ في مؤلَّفاته التي تهدف إلى الإصلاح، ولكن عن طريق رصد الظواهر الخاطئة وعرضها على المجتمع لتقرير ما الذي يجب القيام به لرأب الصدع. عانى بيرجس نفسه من الآثار المناوئة للمتعة والألم؛ فهو يعتقد أنه مؤلِّف موسيقي، وأن الموسيقى هي عشقه الأوحد، لكن كتاباته الروائية الهزلية الساخرة هي التي أكسبته شهرة عالمية واسعة. وأكبر ألم بالنسبة له أنه رغم أن جميع أعماله الموسيقية ناجحة، لكن النجاح الخالد حققته له الكتابة الروائية.
ومن المدهش أن روايته «برتقالة الساعة» The Clockwork Orange (1962) كانت أكثر أعماله نجاحا لدرجة أنه ليس فقط تم بيعها على صعيد أوروبا وأمريكا، بل أيضا تم تحويلها إلى فيلم سينمائي حقق نجاحا مذهلا، على الرغم من أنه كتبها في ثلاثة أسابيع فقط. وتتناول الرواية العديد من القضايا، وعلى رأسها تغيير الصعيد الثقافي والحضاري في أوروبا في ذلك الوقت، وما صاحبه من انفتاح وحرِّيات غير مسبوقة أدَّت إلى تمجيد وتعاظم «الأنانية النفسية» والهيدونية الأخلاقية، التي نجم عنها تفسخ في القيم وانحلال مجتمعي أفضى إلى ظهور عصابات من الشباب لنشر الفوضى وإنزال الآلام بالآخرين، دون أدنى سبب، وذلك لتحقيق متعة السيطرة على أقدار الآخرين ولو حتى للحظات وجيزة. وتجدر الإشارة إلى أن فكرة الرواية، كما يذكر بيرجس، كان قد استمدَّها من واقعة حقيقية؛ ففي أثناء الحرب العالمية الثانية، تعرَّضت زوجته يوما للضرب المبرح والاعتداء من قبل زمرة من الجنود الأمريكيين الشباب الموجودين حينئذٍ في إنكلترا، وأفضت تلك الواقعة إلى فقدانها للطفل التي تحمله في أحشائها. ولهذا السبب، تحكي روايته عن مجموعة من الشباب كونوا تنظيما عصابيا يثير الذعر والفوضى. في التساؤل الذي تطرحه الرواية هو ما إذا كان من الممكن فرض الإصلاح على الآخرين عن طريق أساليب من القهر والألم، ويعد هذا هو الدافع وراء عنوان الرواية الغريب الذي نقله بيرجس من لغة عامية دارجة خاصة بسكان شمال لندن. وبالنسبة لتلك اللهجة، فإن مصطلح «برتقالة الساعة» يشير إلى أي فرد عديم النفع أو الفائدة في مكان ذي أهمية كما لو كان برتقالة على ساعة، فذاك الشخص بالتأكيد يلفت الأنظار بشكله المختلف اللَّامع كالبرتقالة، لكن ليس له أدنى فائدة.

وتدور الرواية حول «أليكس» المراهق البالغ من العمر خمسة عشرة عاما فقط، لكنه يمتلك تشكيلا مكوَّنا من مراهقين يماثلونه العمر، وجميعهم يتسرَّب من المدرسة من أجل القيام بأعمال همجية عنيفة يثيرون بها الذعر في البلدة؛ وكلما زادت وتيرة الذعر، شعروا بالفخر. وتقع الرواية في واحد وعشرين فصلا لترصد مراحل نضج هذا المراهق حتى يبلغ الواحدة والعشرين من العمر؛ سن الرُّشد. وعندما يتم الإمساك بأليكس الذي لم يستطع الهروب في الوقت المناسب بعد أن اقترف جريمة عنف، تخضعه الحكومة لبرنامج تأهيل إصلاحي بعد إيداعه في السجن؛ إلَّا أن ذاك البرنامج لا يصلحه نفسيا، بل يحوِّله إلى شخص رعديد عديم النفع، لكنه في الوقت نفسه بمثابة قنبلة موقوتة على وشك الانفجار في أية لحظة.
رواية «برتقالة الساعة» التي صنِّفت كواحدة من أفضل مئة رواية، تم تأليفها منذ عام 1923، والتي تدور أحداثها في المستقبل القريب في مدينة ديستوبية الخراب طابعها، وتجدر الإشارة إلى أنها ربما كانت مصدر الإلهام لمؤلِّف شخصية «الجوكر» السينمائية؛ فهي تماثلها في نقاط عديدة، وأهمها الشخصية التي تُجْبَر على الترويض بطريقة خاطئة لكي تستسلم وتخنع، لكنها تتحوَّل إلى نموذج صارخ للشرور والعنف.
وذلك يثبت صحة نظرية جيريمي بنتهام، عندما أكَّد أن العقاب، خاصة الخاطئ منه، فيه شر عظيم. فلا يمكن إصلاح مجتمع بمعزل عن رغبات قاطني ذاك المجتمع، أو كما يقول: «لا يجدي الحديث عن مصلحة المجتمع طالما لم يتم فهم اهتمامات الفرد». فالإصلاح يقترن بمراعاة الحرِّيات، إلَّا أن تحقيقه يتطلَّب أيضا مراعاة الجانب الأخلاقي من قبل كلا الطريقين، وإلَّا كانت الفوضى هي النتيجة.

 كاتبة مصرية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية