لا يهدف هذا المقال للتأكيد على فشل تحالف «قوى الحرية والتغيير» في تحقيق اختراق اقتصادي للسودان، فهذا الأمر لا يحتاج لدليل، خاصة بعد أن تكرر الاعتراف بالفشل، على لسان أكثر من مسؤول في المنظومة، التي فرضت نفسها على المشهد السياسي عقب الإطاحة بالرئيس البشير في إبريل 2019.
ليس الهدف كذلك حصر الأخطاء الكبرى والقرارات الكارثية، التي تم اتخاذها خلال هذه الحقبة، فهذا ما لا يسعه مقال، وإنما أكتفي بالإشارة هنا إلى بعض الأمثلة التي يمكن أن تدرج في إطار ما يعرف بـ»معضلة الكوبرا» بل يمكن لهذه الأمثلة أن تشرح هذه النظرية أكثر ما تفعل كثير من كتب الاقتصاد والسياسة العامة.
تعود هذه النظرية إلى ما حدث في الهند إبان الاحتلال البريطاني، حينما حاولت السلطات القضاء على ظاهرة الكوبرا السامة، التي أصبحت تنتشر في المدينة بأعداد متزايدة، فعمدوا إلى الإعلان عن دفع مبلغ من المال مكافأة لكل من يستطيع قتل كوبرا وإحضارها. تم قتل أعداد كبيرة من هذه الثعابين الخطرة، لكن الملاحظ كان أن أعدادها لم تنقص، بل على العكس تزايدت وتضاعفت، في حين كانت أعداد الكوبرا التي يأتي بها الأهالي أيضاً تتزايد وتتضاعف. استغرق الأمر بعض الوقت، حتى اكتشفت السلطات أن أولئك المواطنين كانوا يربون هذه الثعابين التي أصبحت بالنسبة إليهم مصدراً من مصادر الدخل السهل. كان القرار التالي هو وقف الأجر المالي المدفوع عن كل ثعبان والنتيجة كانت إطلاق هذه الثعابين التي راحت تغزو المدينة مرة أخرى.
جوهر الفكرة هنا هو أنه في مواجهة المشكلات البارزة، فإن السلطة قد تتخذ قرارات متسرعة، تظن أن فيها الحل الناجع والنهائي، لكن، ولأنها لم تتعمق في دراسة الواقع، فإن ما ظنته حلاً لن يشكل سوى تعقيد للمشهد القائم وتعميق للأزمة.
تمثلت الكوبرا، التي واجهت السودان خلال هذا العام في مشكلتي الغلاء والتضخم، ولمحاولة السيطرة على التزايد الجنوني للأسعار، رأت الحكومة أن تمنح نفسها حق احتكار منتجات المزارعين، فهذا يجعلها تشتري منهم محاصيلهم بأسعار زهيدة، ما يعني أن تدخل هذه المحاصيل إلى السوق بأسعار مناسبة للموزعين والمستهلكين. بالتأكيد فإن الأمر لم يمض بهذه البساطة، فالمزارع الذي خسر الكثير من الأموال بانتظار الحصاد، كانت هذه السياسة تعني له الخسران المبين، وهكذا وجد نفسه مضطراً لتهريب حصاده خارج البلاد. هكذا تضاعفت الأزمة، التي بدأت مع فشل العام الزراعي بسبب سوء الاستعداد، لتصبح مزيجاً من الغلاء والندرة.
أضاعت الحكومة الكثير من الوقت محاولة إجبار رجال الأعمال، ابتداء من أصحاب المصانع الكبرى والمخابز، ونهاية بمديري المدارس والكليات الخاصة، على تقديم خدماتهم وسلعهم بقيمة أقل، لكن هذا الوقت، ورغم الضغط الشعبي في سبيل إنجاح هذه السياسة، ضاع سدى، ليس بسبب جشع رجال الأعمال، ولكن لأن المنطق البسيط يقول، إنه إذا كنت أنفق مليوناً في سبيل تجهيز عمل ما، فإنني لا يمكنني أن أقدمه بسعر عشرة جنيهات. خطوة أخرى متهورة قامت بها الحكومة في إطار محاولاتها حل المشكلة الاقتصادية وهي، جعل تقوية العلاقة مع الولايات المتحدة أولوية، والاستجابة لكل شروطها، طمعاً في الخروج من لائحة الإرهاب والانضمام إلى نادي أصدقاء واشنطن. نتج عن ذلك اعتراف مجاني بإسرائيل، مع محاولات حثيثة للتقرب منها والدخول معها في علاقات وطيدة، كما نتج عنه اعتراف ضمني، واستعداد لتعويض ضحايا عدد من الهجمات الإرهابية، التي قام بها تنظيم «القاعدة».
تضاعف سعر صرف الدولار عدة مرات إبان ذلك، وفي الوقت الذي كان يتم فيه اتهام طرف ثالث بالمضاربة بأسعار الدولار، مع الاتهام الثابت لشبح الدولة العميقة بالعمل على إفساد الاقتصاد، كان نائب المجلس السيادي يصرّح قائلاً: إن السبب الرئيس هو لجوء الحكومة للسوق، الذي كان يعاني أصلاً من الشح، لشراء الدولار وتقديمه للأمريكيين.
وقع السودانيون في الفخ حينما سلموا ثورتهم لمجموعة من السياسيين الذين ارتدوا لباس الخبراء والتكنوقراط
لم يوفر سقوط نظام البشير أي نوع من الرخاء الاقتصادي، أو أي علاقة خاصة مع الغرب كما كان متوقعاً، وفيما عدا السفير البريطاني في الخرطوم، الذي أصبح يعلق على كل شيء ويدلي بدلوه في كل المسائل الداخلية، كما الخارجية، ممثلاً دور الراعي الروحي للحكومة، فإننا لا نكاد نلحظ رعاية، أو دعماً حقيقياً للنظام القائم من قبل المجتمع الدولي. مع الربع الثاني لهذا العام كانت الضائقة المعيشية تخنق المواطنين بشكل قاسٍ، ورغم الدعاية الحكومية التي كانت تبشر بالرخاء القريب، وتحذر من الانسياق خلف ما يتم ترويجه من قبل أعداء الثورة، إلا أن حركات الاحتجاج تزايدت بشكل كبير، حتى أصبحت تشكل تهديداً جدياً للحكومة التي استغلت، كما الكثير من الأنظمة حول العالم، جائحة كورونا من أجل تطويق حركة الاحتجاج والتظاهر، ما وصل حد منع التجمعات، واستمرار إغلاق المدارس والجامعات لمدة عام وأكثر. ولمواجهة الاحتقان الشعبي قامت الحكومة بتفعيل حل متسرع، محاولة السيطرة على غضب الجماهير، وهو مضاعفة الرواتب بشكل خارق، بحيث تصبح قادرة على الصمود في وجه الغلاء والتضخم. شعر الناس بالفرح، وهم يتسلمون الراتب الجديد، لكن ذلك الفرح لم يستمر لوقت طويل، لأن الحكومة عجزت عن تعديل الرواتب لجميع شرائح الموظفين، كما عجزت عن الاستمرار بتقديم الراتب بشكله الجديد، وغير المتناسب مع إمكانياتها. على صعيد آخر وجدت الحكومة نفسها مواجهة أيضاً بحالة من السخط عبر عنه مواطنون يشتغلون في العمل الحر، وبشكل مستقل عن الحكومة، كانوا يعتبرون أن سياسة زيادة الرواتب، حتى وإن نفذت، لن تعنيهم.
إن أسباب المأزق الاقتصادي الذي يعيشه السودان حالياً لا تكمن، كما يسهل للكثيرين أن يرددوا، في النظام السابق وأنصاره، الذين يعرقلون عجلة الإنتاج، فحزب البشير يعلم أنه لن يكون قادراً على العودة لحكم البلاد في الوقت الحالي، حتى إن سلم الناس بفشل الحكومة الانتقالية. من المهم فهم هذه الحقيقة، كما أن من المهم مواجهة الحقيقة الأخرى وهي أنه لا توجد عجلة إنتاج من الأساس، فحتى موارد الدولة السهلة كالميناء وتصدير الماشية صارت متوقفة أو متعطلة. لقد وقع السودانيون في الفخ حينما سلموا ثورتهم لمجموعة من السياسيين الذين ارتدوا لباس الخبراء والتكنوقراط. هؤلاء السياسيون، وعوضاً عن ان يكونوا جزءاً من حل الأزمة الاقتصادية التي كانت السبب الرئيس في خروج الناس ونزولهم إلى الشوارع، تحت شعار «تسقط بس» الذي كان يعني أن أي وضع سوف يكون أفضل من حكم البشير، عوضاً عن ذلك أصبحوا جزءاً من تلك الأزمة، التي فاقمتها القرارات المتسرعة والخاطئة والفشل الواضح في الإدارة والتخطيط. يكفي أن نقول إن الخبراء الذين عكفت وسائل إعلام وصفحات إلكترونية وقنوات على الترويج لمقدراتهم، يعملون منذ عام ونصف العام بلا خطة، لا على المدى البعيد ولا على المدى القصير، ولعل الجميع يذكر تصريح رئيس الوزراء، الذي شكا فيه من أن «الحرية والتغيير» لاستغرابه، لم تسلمه أي خطة عمل أو برنامج. مجموعة الخبراء الدوليون هذه تعمل بلا ميزانية معلنة، ولا إحصائيات علمية للموارد والسكان، والأغرب أنها حينما أسست ما سمتها «الآلية الاقتصادية» لم تتردد في تسليم رئاستها لجنرال عسكري.
كاتب سوداني