قبل الإجابة عن معنى الأدب لا بد من السؤال عن سبب كتابة الأدب، لماذا يحتاج الانسان أن يكتب الأدب ولماذا يحتاج أن يقرأه؟ منذ العصور القديمة وُجدت رسومات وكتابات أدبية تعبر عن الحالة النفسية والاجتماعية لتلك العصور، بل استطعنا استقراء طبيعة وثقافة تلك الشعوب عبر ما تمت كتابته على جدران الكهوف والمعابد والقصور، أي أن هناك حاجة فطرية لدى الانسان لأن يكتب عن حياته. الحيوان يعيش ليلبي حاجات أساسية ويومية متكررة طوال حياته، لا يشعر بالحنين للماضي ولا يتطلع إلى المستقبل، لأنه دائماً يعيش الواقع ولا يهمه سوى الواقع، الانسان فقط ينظر دائماً بحنين لما ترك خلفه، ويتطلع حتى آخر يوم من حياته إلى المستقبل .
أي أن الأدب فطرة مُتجذرة في الانسان، فالكثير من القصص القديمة تم نسجها عبر مراقبة الانسان للنجوم أو الطيور أو الجبال، وفي كل مرة يختلف الوصف عن المرة السابقة، رغم أنها تتحدث عن نفس الموضوع، أي أن الانسان يمكنه أن يشاهد شيئا ما ويمكن أن يكتب عنه مئات المرات بصورة مختلفة، وما يساعده على هذه الرؤية المتعددة المتنوعة الثرية هو الأدب، أن ينظر الى العالم بنظرة الأديب لا بنظرة المخلوق الحي، ولكن هذه المهمة لا يستطيع أن يقوم بها شخص عادي، فالأدب كان دائماً سليل التأمل، الانزواء، المراقبة، المحبة، حب المعرفة، التجرد عن الذات والانطلاق نحو الآخر، رؤية العالم بنظرة الحكيم لا بنظرة الساعي للهدف.
إن الأدب مهمة شاقة وصعبة وذلك لمن لم يمنحه الله تعالى موهبة الكتابة وموهبة إدراك أعماق ما حوله من دون التأثر بالقشور، رؤية حقيقة الحياة من دون تزيين ومن دون مجاملة ومن دون مواربة، حقيقتها المرة أو العذبة وحقيقة البشر بها، سواء بنبلهم أو بانحطاطهم. الأديب الحقيقي لا يبحث في الحياة عن السعادة، ولكنه يبحث عن الحقيقة، فإن لم يجدها فيمن حوله بحث عنها في نفسه، وقد تختلف الحقيقة من كاتب لآخر حسب فهمه وحسب نظرته للحياة، فالحياة في عالم الأدب تتحول إلى مسرح ضخم يراها كل كاتب بنظرته الخاصة، وربما لهذا السبب يبدو أن الأدب من أكثر الفنون الانسانية ثراءً، لأنه يحمل كل ذلك الإرث الفكري والانساني لفئة من البشر سماهم الآخرون أدباء وسموا انفسهم باحثين عن الحقيقة.
الأدب هو مزج تفاصيل الحياة الواقعية بمشاعر انسانية رقيقة وعميقة، الخروج عما هو مألوف في الشعور والفكر إلى ما هو غير مألوف وغير عادي أيضاً عبر الشعور، ولكن بترجمتها عبر الكلمات، الأدب هو استشعار كل ما يحسه الانسان العادي وما يفكر به وخط تلك المشاعر، سواء كانت حزينة أو سعيدة، هادئة أو غاضبة على أوراق بيضاء تنتظر مداد القلم كي تشعر بجمالها يتبدى بين الحروف والسطور، الأدب هو أرقى مراتب الانسانية لأنه لا يتحدث عن الكم ولا عن الكيفية، لا يتحدث عن المادة ولا عن المال، لا يسعى لجني الثروات ولا لاستيطان القصور، الأدب هو الحالة الانسانية الصافية النقية البعيدة عن شوائب الهدف والوصولية، وإن اعترى الأدب مبدأ الوصولية والهدف المادي لن يكون أدبا، بل سلعة قد تكون باهظة الثمن ولكنها سلعة تخضع لكل قوانين السوق، ولا ترقى إلى مراتب الانسانية العليا المُنزهة عن الغرض والهدف والمادة. إن أكبر حرية يتمتع بها الانسان هي أن يتحدث عن نفسه عبر الأدب، لذلك كان الأديب الحقيقي سيدا بهذا الكون، ليس سيدا على الآخرين بل سيد نفسه، لأنه يعلم ماذا يريد بهذه الحياة وكلما ازداد رقي مفاهيمه تجاه هذا الكون شعر بعدم الحاجة لكل ما هو مادي، لأن الأدب وإبداعه، الأدب وجماله، الأدب وانطلاقه يمنحه تلك الأجنحة غير المرئية لينتقل إلى عوالم أخرى غير عالم المادة وغير عالم المفاهيم التقليدية المتكررة من حوله وغير عالم الهدف والغاية والوسيلة، الأديب الحقيقي هو مترجم لكل شعور انساني مهما بلغت رقته وشفافيته يجد له الكلمات التي تعبر عنه مهما بلغت رقة ذلك الشعور، فهو يستعمل أدبه أيضاً بحرفية الجراح حين يُمسك مبضع الجراحة، وكلما كان وصفه دقيقا لذلك الشعور الرقيق المختفي خلف النظرات والكلمات والأفكار أو حتى الصمت نجح بترجمة الحالة الانسانية التي يكتب عنها، الأديب الحقيقي هو الروح اليقظة والمراقبة والمتنبهة للألم والمعاناة، وهو من أتقن الانسحاب من عالمه والتجول في عوالم الآخرين، لأنه شعر ومنذ زمنٍ بعيد بأن عالمه يضيق به، وكلما كان أدبه صادقاً ومتفتحاً أصبح عالمه الخاص أشد ضيقاً عليه لعمق أفكاره وشمولية مشاعره وامتداد رؤيته للحياة عبر مسافات الزمن الماضي منها والحاضر.
وفي عالمنا المعاصر، يبدو أن الأدب أصبح قاربا شراعيا لا نركبه لأجل أن نصل للضفة الأخرى من النهر، ولكن لكي نأخذ استراحة قصيرة من ثقل الحياة المادي، لكي نعود بنعومة إلى انسانيتنا التي لا تطفو إلى سطح انفسنا إلا بخلوة مع الأدب، أن نرى أعماقنا المدفونة بين الأعباء والمسؤوليات تطفو من جديد عبر سطور أدبية تُعيدنا برفق إلى جمال الوجود، إلى جمال الذات البشرية وإلى الجمال الأعظم وهو جمال الله تعالى الذي يتجلى بجمال هذا الكون بأسره.
العمل الأدبي يضع ما هو مهم في الأولوية، بينما في الحياة العادية ننسى ما هو مهم امام ما يجب أن نفعله بشكل روتيني كل يوم، فيكون دور الأدب أن يعلمنا الحقيقة المختبئة خلف حياتنا العادية.
الرواية ليست نموذجا لعلم النفس ولكنها بانسيابها تتجاوز التقنية الفنية التي يهتم بها النقاد، الانسياب هو ما يهم القارئ العادي، الرواية لا تتوجه إلى المنطق لدى القارئ العادي، بل إلى كينونته الانسانية وشفافيته، عبر الرواية لا نقرأ عن البرق والرعد فقط بل يمكن أن تجعلنا الرواية نشعر برهبة البرق وبقوة الرعد من خلال الوصف الدقيق للشعور وللفكرة.
الكاتب لا يكتب لأجل الكتابة فقط، بل لا بد أن يحلل الذات الانسانية عبر الشك والمعاناة والأخطاء الانسانية؛ وهذه المهمة الصعبة تتطلب السعي إلى ما هو جميل وحقيقي وليس ما هو غريب أو مثير، فمهما كتب الكاتب عما هو مثير أو غريب تبقى مهمته قاصرة عن أن تلبي بحث القارئ عن الجمال الممتزج بالحقيقة بوجهها الجميل أو البشع. البحث عن الحقيقة هو هدف الفلسفة، بينما الأدب هدفه ليس البحث عن الحقيقة وإلا سوف يتم المزج بينه وبين الفلسفة، يمكن للكاتب أن يمزج بينهما ولكن خصوصية العمل الأدبي تتم في الكلمات، أما الفلسفة فخصوصيتها تتمثل في الأفكار، وإذا رغب الكاتب بالمزج بينهما فلابد من أن يراعي شفافية الكلمات أمام عمق الفلسفة وهو أمام إغراء الإغراق في الأفكار بعيداً عن جمال الجمل والكلمات، وحيث أن القارئ اختار أن يقرأ عملا أدبيا فلا بد للكاتب أن يختار بين ميوله الفلسفية وأسلوبه الأدبي، هذا الأسلوب الذي يتطلب اختيار الكلمات، جمعها، تشكيلها تخيل الصورة الأولى والصورة الأخيرة، رؤية الشخصيات تتحرك، تتكلم، تشعر، تتفاعل، ولن يستطيع أن يقدم اللوحة النهائية للعمل الأدبي من دون أن تنسجم المعاني مع الألفاظ والأفكار مع المشاعر والجمال مع الواقع حتى لو كان هذا الواقع مؤلما، فجماله يكمن بدقة وصفه لحد تطابق الوصف مع ما هو حقيقي.
المجتمع الذي يبتعد عن الأدب في ميوله وثقافته ورؤيته للحياة هو مجتمع يغرق تدريجياً في مادية الحياة وجفافها، من الخطأ الجسيم الاعتقاد بأن الأدب مسألة كمالية يمكن أن نتخلى عنها ويمكن أن نحب حيازتها، ويكمن الخطأ أنه بمقدار الابتعاد عن الأدب يتم الابتعاد عن مفاهيم انسانية تجمع كل البشر تحت مظلة الشعور، فلا يتبقى سوى أفكار جافة جرداء تميز بين البشر وفق المصلحة والحاجة، وفق ما يجب أن يكون وما لا يجب أن يكون، ويكفي اعطاء مثال بسيط وحي لهذه الصورة تتمثل في رواية ‘البؤساء’ التي اخترقت آفاق الانسانية وبجميع اللغات، ليس لأنها رواية رائعة فقط بل لأنها رواية انسانية تجرد بها الكاتب من جميع صفاته الشخصية لينقل شخصيات انسانية ثرية يمكن أن تحيا بأي مجتمع بنفس القيم وبنفس المعاناة.
مثال آخر على جفاف الحياة من دون أدب، حين نقرأ الخطابات السياسية المعاصرة نشعر بمدى جفافها وغرقها في كل ما هو مادي وما له صفة المصلحة، وحين نقارنها بخطابات سياسية قديمة لقادة سياسيين مزجوا بين الأدب والسياسة نشعر بمدى عمق خطابهم السياسي لأنهم توجهوا للفكر وللشعور، أما في عالمنا المعاصر فيبدو هذا الخطاب موجها للفكر وللفكر المادي فقط، لذا لم يعد الانسان العادي يرغب بأن يستمع لأي خطاب سياسي لأنه لم يعد يجد أي انسانية تمسه بصورة مباشرة أو غير مباشرة، ويشعر بأن السياسي الذي يتحدث كأنه شخص تمت برمجته ولا يحتوي خطابه على أي شعور . هذا ما أحدثه بُعد الأدب عن الخطاب السياسي ونجد ذات الأثر أيضاً في مجالات أخرى سواء التعليم أو الاقتصاد. وربما أشد المجالات حساسية تجاه الأدب هو التربية، فنحن لم نعد نربي أولادنا وفق مفاهيم ادبية راقية تمتزج بها الانسانية والرقي والاحترام، بل نربي أولادنا وفق منظومة تكنولوجية جافة، يستمد أولادنا كل القيم والمفاهيم عبر الشاشات الالكترونية، فلا غرابة أن ينشأ جيل أناني جاف غير منتم؛ بينما ثبت في العديد من الدراسات الغربية أن قراءة الأدب غيرت مجرى حياة العديد من الأطفال والمراهقين الذين يعيشون ظروفا حياتية صعبة، لقد وجدوا عبر الأدب رؤية للحياة، وأملا في المستقبل وتمكن العديد منهم من إيجاد قيمته الانسانية في الحياة.
وبالنتيجة يبدو أن الأدب قد ساهم بتشكيل بناء الانسان في كل عصر وفق سماته، ولكن الخلل يحدث حين يصبح الأدب موضوعا قديما لا يمت بصلة للعالم المعاصر، حين تتقلص مساحة وصف الشعور والإحاطة بالفكرة وتتربع التكنولوجيا على مساحة الشعور وعمق الفكرة وتجدد الإبداع.
*كاتبة ومحامية اردنية
جزاكم الله.
شكرًا لكم جزيلا حياكم الله