لبنان: مقاطعة الانتخابات… ما معناها وجدواها سياسياً ؟

حجم الخط
0

تنتهي عند منتصف ليل اليوم (الاثنين) مهلة تسجيل القوائم (التكتلات) السياسية المشاركة في الانتخابات النيابية اللبنانية المقررة في 15 أيار/مايو المقبل. بانقضائها يُلغَي ترشيحُ المرشحين الذين أخفقوا في الانتماء إلى إحدى القوائم المتنافسة، ذلك لأن نظام التمثيل النسبي هو المعتمد في الانتخابات، والتصويت بموجبه يجري للقوائم أو التكتلات المتنافسة في 15 دائرة انتخابية.
ظاهرةٌ قديمة – جديدة ترافق الانتخابات هذه السنة، إنها الدعوة إلى مقاطعة الانتخابات ترشيحاً وتصويتاً. الداعون إلى المقاطعة أفراد وجماعات، أبرزهم تيار (حزب) المستقبل الذي يتزعمه رئيس الحكومة السابق سعد الحريري، هو لم يفصح رسمياً عن سبب دعوته إلى المقاطعة، لكن ترَدَدَ في أوساط سياسية عدّة أن خلافه مع أركان المملكة العربية السعودية هو دافعه للمقاطعة، إذ من شأنها أن يمتنع أنصاره من أهل السنّة والجماعة عن التصويت ما يؤدي، في تقديره، إلى فوز تكتلات معارضة للسياسة السعودية بعدد وازن من المقاعد النيابية، ذلك يؤدي، بحسب هذه المقولة، إلى حمل الرياض على إدراك مغبة التخلّي عن الحريري وتداعياتها على نفوذها في لبنان. بصرف النظر عن صحة هذه المقولة أو بطلانها، فإن ثمة مقاطعة ستجري وإن من الضروري استشراف معنى هذه الظاهرة وجدواها، ولاسيما في الظروف البائسة التي يعيشها لبنان منذ أكثر من سنتين.
بالعودة إلى انتخابات عام 2018، يقع الدارس على ما يمكن تفسيره بأنه كان مقاطعة ملموسة، ذلك لأن وزارة الداخلية أصدرت، بعد انتهاء العملية الانتخابية وإعلان نتائج القوائم والتكتلات الناجحة والساقطة، بياناً مفاده أن نسبة المشاركين في الانتخابات، ترشيحاً وتصويتاً، لم تتجاوز 49% من إجمالي عدد الناخبين. معنى ذلك مبدئياً، أن نحو 51% قاطعوا الانتخابات لسبب أو لآخر. لم يصدر لاحقاً عن وزارة الداخلية، أو عن أي مؤسسة بحثية مستقلة، دراسة أو بيانا يفصّل أسباب المقاطعة ونسبتها المئوية من مجمل عدد الناخبين المقاطعين، لكن يُستفاد مما كتبه عددٌ من المعلّقين السياسيين والإعلاميين، أن سببين رئيسيين كانا وراء المقاطعة: الأول انشغالُ المواطنين بتداعيات الضائقة المعيشية، والثاني شعور عدد كبير منهم بأن لا فائدة ترتجى من أيّ انتخابات تجري في ظل النظام الطوائفي القائم، ومنظومته الحاكمة وقانون الانتخاب غير الديمقراطي الذي تجري الانتخابات على أساسه.

مقاطعة الانتخابات لا تعني، إلاّ النفور والسخط مما هو قائم في المشهد السياسي اللبناني ونعته بأسوأ النعوت والشتائم، من دون أن يقترن بجدوى سياسية ملموسة

لم يُجرَ حتى الساعة أيّ استطلاع رأي لمعرفة أسباب اعتزام بعض المرشحين والناخبين مقاطعة الانتخابات المقبلة، إنما يمكن استقراء بعض الأسباب مما يقوله بعض المقاطعين والمحلّلين، وهي ليست بعيدة عن السببين الرئيسيين اللذين أشرنا إليهما آنفاً، بشأن مقاطعة انتخابات عام 2018. لعل الأهم من الإحاطة بأسباب المقاطعة معرفة معناها وجدواها سياسياً ومدى انعكاسها سلباً أو إيجاباً على العاملين في الحقل العام، والنتائج المرتجاة في هذا المجال. بالتدقيق في أنشطة الأفراد والجماعات المتبرمين بالسلطة القائمة، ومَن لهم علاقة أو تأثير في المشهدية السياسية والاجتماعية بعد انتخابات 2018 ولغاية الوقت الحاضر، يقع الدارس على الظاهرات الآتية:
تصاعدُ السخط والشكوى والتهجم على أهل السلطة والمنظومة الحاكمة بكل أطرافها بلغ ذروةً لافتة في اندلاع انتفاضة 17 تشرين الأول/أكتوبر 2019 العابرة للطوائف والمناطق والمشارب، ما أدى تالياً إلى استقالة حكومة سعد الحريري بعد نحو شهر من اندلاع الانتفاضة.
عجزُ القائمين بالانتفاضة عن التوافق على برنامج سياسي واقتصادي لها، كما عجزهم عن إقامة قيادة موحدة تديرها وتستشرف مستقبلها، أديّا إلى نجاح أهل السلطة، كما قوى سياسية أخرى داخلية وخارجية في زرع أفراد وجماعات معادية في صفوفها. كل ذلك أدى إلى ضمور فعاليتها وتشرذمها شُللاً هزيلة.
انتهز أهل القرار تراجع تأثير انتفاضة 17 أكتوبر ونجحوا في التوافق على تأليف حكومة إئتلافية برئاسة حسان دياب، تضمنت عناصر شابة ونظيفة بصورة عامة، أخذت على عاتقها إجراء إصلاحات ملّحة، ووضع خطة متكاملة للتعافي الاقتصادي والاجتماعي تكون أساساً لمقاربة صندوق النقد الدولي ومطالبته بدعم مالي سخي.
دمّر تفجير شديد في 4 آب/أغسطس 2020، قيل إنه الأعتى بين التفجيرات غير النووية في التاريخ المعاصر، مرفأ بيروت والأحياء الشرقية المحاذية له، ما أدى إلى سقوط أكثر من 200 شهيد و4000 جريح وتخريب عشرات آلاف المباني والمساكن، واستقالة حكومة دياب، وانزلاق البلاد إلى حال من الشلل عجز معها أهل السلطة عدة أشهر عن تأليف حكومة بديلة.
العجزُ لم يتبدَّ في أهل السلطة ووكلائهم والسائرين في ركابهم فحسب، بل تبدّى أيضاً في كل الشرائح والقوى المعارضة لنظام المحاصصة الطوائفية القائم، وفي مقدمها جماعات الانتفاضة التي أخفقت جميعها في إقامة جبهة عريضة للإنقاذ والإصلاح.
كان من الطبيعي أن تخفق حكومة نجيب ميقاتي في إنجاب برنامج إصلاحي عملي، أو في تفعيل خطة التعافي التي كانت قد وضعتها حكومة دياب.
هكذا وجدت البلاد نفسها، بكل تلاوينها الشعبية والسياسية، أمام التحديات ذاتها التي واجهتها جميع الحكومات السابقة، ولعلها ازدادت حدّة وتعقيداً، كل ذلك جرى في غياب بديل سياسي جدّي ومقبول في البلاد، للحلول محل المنظومة الحاكمة، بل أدّى إلى رسوخ تعددية سياسية مرهقة ومتناسلة وعاجزة تالياً عن إنجاب البديل الإنقاذي المنشود.
يتحصّل مما تقدّم بيانه أن مقاطعة الانتخابات لا تعني، في الواقع، إلاّ النفور والسخط مما هو قائم في المشهد السياسي اللبناني ونعته بأسوأ النعوت والشتائم، من دون أن يقترن بجدوى سياسية ملموسة. وعليه، لن يكون مفاجئاً عودة الناخبين إلى التصويت مجدداً لمعظم النواب الحاليين، وبالتالي بقاء تركيبة مجلس النواب على حالها. هذا لا يعني بالضرورة أن الإقبال على التصويت في الانتخابات المقبلة في ظل قانون الانتخاب الحالي والمنظومة الحاكمة الفاسدة سينتج قادةً إصلاحيين قادرين على إحداث تغيير جذري في حال البلاد، إنما المقصود عدم التعويل على المقاطعة لأنها لن تجدي نفعاً في غياب جبهة وطنية واسعة للإنقاذ والتغيير عابرة للطوائف والمناطق والمشارب وقادرة بقاعدتها الشعبية، مهما تطلّب ذلك من وقت وجهد، على إزاحة نظام المحاصصة الطوائفية وشبكته الحاكمة سلماً وديمقراطياً.
هذا هو الخيارـ التحدي، فهل ثمة خيار أجدى وأفعل؟
كاتب لبناني

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية