مقام النبي موسى منارة عمرانية أثرية على طرف الصحراء الفلسطينية

وديع عواودة
حجم الخط
0

الناصرة-“القدس العربي”: برز مقام النبي موسى في الأراضي الفلسطينية في عناوين الصحف خاصة الفلسطينية لعدة أيام بعد نشر فيديوهات عن حفل راقص داخله وما لبث أن غاب لكنه موجود منذ أكثر من 1000 عام منذ أن بناه صلاح الدين الأيوبي ضمن جملة مقامات.

بين القدس وأريحا يقع مقام النبي موسى، وهو عبارة عن موقع أثري تاريخي بديع العمارة على حافة صحراء الخليل وتحيط به مقبرة واسعة بعض قبورها دارسة عمرها هي الأخرى قرون. وحسب بعض المصادر التاريخية نزل صلاح الدين الأيوبي في هذا المكان الصحراوي بين أريحا والقدس فوجد بعض الأعراب يقيمون حول قبر، فسألهم عن هوية صاحبه فقالوا: “إنه لكليم الله موسى” فشرع ببناء مقام وأتم الظاهر بيبرس لاحقا المسجد والأروقة. ويمتد المقام على مساحة تقارب خمسة دونمات، ويشمل ثلاثة طوابق، والتسوية الأرضيّة، ويتوسطه مسجد ضخم مكون من خمسة بلاطات، وغرفة ضريح واسعة تحوي القبر وتتوسط بناء المقام، ويحوي المقام أروقة طويلة مقببة ومئة غرفة مبنية إما على طراز “العقد” أو “الأنبوب” ما بين مفتوحة ومغلقة كافتها مقببة بقبب مدهونة بالأبيض. كذلك يشمل اسطبلات للخيل ومخبزا قديما وتمتد في الخلاء حوله مقبرة يدفن فيها من يوصي بذلك. على بعد كيلومتر منه هناك مبنى قديم يضم قبر شخص يدعى حسن أحمد خليل الراعي، الذي خدم المقام وتوفي قبل 300 عاما. وتدور حول المسجد المغلق -غرفة الضريح- ساحات مركزية تتسع لأعداد كبيرة من الناس. وترتفع مئذنة متوسطة الارتفاع، وبإمكان الصاعد إليها مراقبة المنطقة المحيطة بها؛ حيث يرى أريحا والبحر الميت وصحراء واسعة ممتدة وجبال شرق الأردن. في مدخل المقام تسترعي النظر لافتة للسلطة الفلسطينية بعنوان “برنامج دعم التنمية السياحية  في فلسطين. ترميم وتأهيل وإدارة مقام النبي موسى بتمويل الاتحاد الأوروبي وبالشراكة مع وزارة الأوقاف ووزارة السياحة والآثار ومحافظة أريحا”. وفي المدخل مثبتة منحوتة حجرية تاريخية ليس من السهل قرائتها جاء فيها: “جدد عمارة هذا المكان الشريف داخلا وخارجا من بنا وقصارات سعادة الدستور المعظم الوريث اللخمي السيد عبد الله باشا والي صيدا وطرابلس وغزة وعكا أدام الله دولته وذلك مباشرة… سنة 1230”. ويستنتج منها أن المكان خضع لترميمات عام 1809 ميلادي بأمر من والي صيدا وطرابلس، أو والي عكا عبد الله باشا الذي أضاف إليه رواقا.

عائلات مقدسية

وكانت تستخدم غرفه حتى وقت قريب عائلات جاءت من أرجاء البلاد لتشارك في موسم النبي موسى في كل عام. وبعض هذه الغرف كانت مخصصة لعائلات القدس العريقة كالحسيني والنشاشيبي ولكنها الآن مهجورة. وسكنت المقام قبل سنوات عائلتا محمد الأسطة مندوب اللجنة المحمدية ومحمد اسماعيل الجمل من الأوقاف الإسلامية، ويعتقد الأسطة والجمل أن بأن هناك ما يدل على أن القبر الموجود هو للنبي موسى مثل حديث الرسول محمد “أخي موسى عليه السلام، مدفون على مرمى الحجر من القدس، في الكثيب الأحمر” وكذلك حديثه في رحلة الإسراء والمعراج “مررت بأخي موسى عليه السلام وهو قائم يصلي في قبره على مرمى الحجر من القدس في التلة الحمراء ولو كنت ثم لأريتكم مكانه”. أما المرشد السياحي أحمد طه  فيقول إن هذا القبر هو قبر سياسي بناه صلاح الدين الأيوبي عندما كانت الحرب بينه وبين الصليبيين سجالا وكان يطلب من المسلمين المكوث في هذا المكان شهرا وقت الغطاس في نهر الأردن لصد أية هجمات يقوم بها الصليبيون ولا يوجد أي دليل بأنه قبر النبي موسى.

هوية البلاد

 ويقول الدكتور الباحث في العمارة الإسلامية جمال عمرو من مدينة القدس لـ “القدس العربي” إن هذا مقام النبي موسى لمسة من لمسات صلاح الدين الأيوبي بعد دخوله فلسطين لمواجهة الصليبيين، فقد أقام مقامات وأسماها بأسماء الأنبياء تقربا لهم وربطا للسكان بالمكان. لافتا أنه ليس بالضرورة أن يكون النبي قد مر من المكان حتى يبنى فيه المقام لكنها محاولة لتكريمه وتعزيز هوية البلاد ويكون مكانا للعبادة في الفضاءات الخارجية والأهم للرباط. وتابع “هناك مقام للنبي صالح والنبي يونس والنبي موسى ولها مواسم وكانت تشد لها البيارق. هذا الاجتهاد حكيم وتضمن عملا معماريا مميزا ففيه كل منشآت الخدمة للإنسان والحيوان”. وأوضح أن مقام النبي موسى  بني في العهد الأيوبي وتم ترميمه وتطويره في الفترة المملوكية حيث ترك المماليك بصمة جميلة ببنائهم مسجدا جميلا فيه واستخدام حجارة مهذبة لبناء مرافق مفيدة داخله وفيه مقرنصات وألوان معشقة المعروفة بالأبلق.

موسم النبي موسى

 موضحا أن المقام بقي جذابا ومكانا استراتيجيا على طريق الحج ومحروسا ويستخدمه الوافدون للحجاز من فلسطين ومصر عبر شرق الأردن، أي محطة استراحة وحماية وأمن. وبقيت له مكانة خاصة حتى حضر الاستعمار البريطاني في 1918 فعانت المقامات الإسلامية في البلاد من الإهمال وتوقف استخدامها بسبب انصراف الناس عنها وانشغالهم بالصراع والتركيز على التهديدات القامة من جهة الغرب والبحر الأبيض. ويتابع عمرو ساردا مسيرته التاريخية “كان موسم النبي موسى يتزامن مع الأعياد الميلادية وربما قصد صلاح الدين ضمان تميز تقاليد المسلمين في منطقة القدس”. ووفقا للباحث جمال عمرو، كانت المواسم متتالية كل سنة وتنصب 1000 خيمة حول المقام وفيه سوق وكأنه منتجع سادت فيه أجواء بديعة خاصة أنه دافئ في الشتوية وكان الناس يأكلون ويشربون ويبيتون عدة أيام، ولذا فموسم النبي موسى كان حدثا ثقافيا دينيا وجهاديا ترفيهيا وكان أهالي الخليل ونابلس يتسابقون من يصل أولا ومعه اللحوم والأطعمة والجمال والأغنام. وبقي الموسم على حاله حتى حل الاستعمار البريطاني فانشغل الفلسطينيون بالصراع وبالثورة والعمل السياسي وفترت العلاقة بالمقامات كلها في فترة الانتداب البريطاني حيث بقي مزارا لفرادى وملجأ للبدو في صحراء الخليل خاصة في فصل الشتاء. وينوه عمرو أن مقام النبي موسى بقي على حالته الرثة في فترة الحكم الأردني حيث انشغل الأردن بقضايا أخرى بعد الحرب. وتابع “في فترة الاحتلال انشغل الفلسطينيون به وبما نتج عنه وبعد اتفاق أوسلو صار جزءا من منظومة سياحية كبقية المقامات والمواقع مثل مسار إبراهيم ومسار عيسى ومسار الإسراء والمعراج ضمن خطة وزارة السياحة والآثار لتشجيع السياحة، لكنها لم تتنبه للبعد الديني وهي أصلا لا تهتم بالمقدسات مما فتح شهية الاحتلال على مبدأ أن السلطة الفلسطينية لا تكترث بالمقابر والمقدسات والأوقاف وهذا ما يستغله الاحتلال للمزيد من الاعتداءات عليها”.

موقع للاستبراء من المخدرات

 

استخدم في التسعينيات مشفى للفطام والاستبراء من المخدرات ومعالجة المدمنين بمبادرة ناشطين مقدسيين وكان مليئا خاصة أن ظاهرة تعاطي المخدرات انتشرت وقتها انتشار النار في الهشيم وكان لابد من الحجر والفطام وبمساعدة رجال دين وعلماء ونجحوا في مرات كثيرة وإن عاد بعضهم وسقط في الرذيلة. وعن تجربته الشخصية يقول عمرو “فعلا هو مكان روحاني. ففي إحدى المرات اصطحبت مجموعة سائحين من ألمانيا ودهشوا لمشاهدة هذا المكان البديع الهادئ المزدان بأشجار نخيل وقباب أنيقة بسبب نقاء الأوكسجين فيه وهو على حافة الصحراء. كنت أتمنى لو بقي مكانا للاستبراء، لكن العزيمة فترت ولم يعد هناك تمويل كاف للأسف”.

لم يكن ممكنا قبل سنوات الحديث عن النبي موسى دون ذكر اللجنة المحمدية التي تواجد ممثل دائم لها في المقام هو محمد الأسطة، الخطاط والرسام المعروف في القدس. وقال الأسطة إن اللجنة تأسست قبل سنوات وضمت مجموعة من الأصدقاء من سكان البلدة القديمة في القدس وتركزت نشاطاتها في ترميم الأضرحة والمقابر. ويضيف، أن ظاهرة المخدرات والاتجار بها المستفحلة في منطقة القدس استحوذت على اهتمام اللجنة فبدأت بمكافحتها وكانت نقطة  تحوّل في نشاط اللجنة عندما قام عدد من أعضائها بزيارة النبي موسى، قبل سنوات أثناء حرب الخليج الثانية ووجدوا مجموعة من البدو وقد وضعوا أغنامهم في المقام، فأخذ أعضاء اللجنة بتنظيفه وكان معهم أحد مدمني المخدرات يدعى أبو جمال، الذي أصر على البقاء في المكان وفعلا أمضى ليلته دون أن يصاب بـكريزة، أو مضاعفات أخرى. وفي اليوم الثاني حضر مدمن آخر وبدأ المؤمنون بالتوافد على المكان. ويفسّر الأسطة ذلك بوجود سر إلهي يساعد على الشفاء والتخلص من المخدرات. يقول “ولم يكن أمامنا إلا استغلال هذا المكان في علاج المدمنين فقمنا ببناء حمامات ومغطس صحي ومطبخ وأصلحنا عدة غرف وكان يوجد لدينا من 50 إلى 70 شخصا يوميا من المسلمين والنصارى واليهود وقبل أن تغلق السلطات الإسرائيلية مركز الفطام عالجنا 400 حالة”. ويتذكر الأسطة “كانت الأيام كلها همة ونشاط لم نصدق في البداية النجاح الذي حققناه والذي استقطب مدمنين من اليهود ولم يبخل علينا أهل الخير في تقديم المساعدة اللازمة لتمويل المركز”.

وكيف كان يتم العلاج؟

 استذكر الأسطة “كان المدمن يأتي إلينا طواعية وينخرط مع المجموع ويصيبه رشح لمدة أسبوع وإسهال وبعدها يقوم مثل الحصان بفضل العناية الإلهية”.

 وقال الأسطة إن نسبة الشفاء كانت تصل 50 في المئة ومعظم الذين تعالجوا لم يتخلوا عن زملائهم السابقين فكانوا يقدمون لهم كل أشكال المساعدة وبلغ الارتباط والانتماء للمركز إن البعض تم تزويجه أو إيجاد عمل له أو مساعدته ماليا ليشق طريقه في الحياة. وعن أبرز المشاكل التي واجهت التجربة قال المرشدان الاجتماعيان عادل سمارة وعلي اسعيدة “لم تكن هناك متابعة بعد انتهاء العلاج، كان يجب أن يرافق ذلك توعية للأهالي والمجتمع”.

غضب إسرائيل

 يبدو أن تجربة مركز الفطام لم ترق للسلطات الإسرائيلية التي اتهمها المقدسيون بغض النظر وتشجيع تجارة المخدرات في القدس ومحيطها وبدأ التعرض للتجربة كما قال محمد الأسطة بقيام شرطة أريحا بالضغط على بعض من يتلقون العلاج لتقديم شكوى ضد اللجنة المحمدية بدعوى أن أعضائها يقومون بضرب المدمنين واحتجازهم في زنازين النبي موسى، وقامت قوات من الجيش برفقة ضباط مخابرات بمداهمة المركز واتهام القائمين عليه بإخفاء مطلوبين للسلطات الإسرائيلية، ولكنهم لم يعثروا على دليل واحد. واعتقلت السلطات الإسرائيلية في 1992 ثمانية من أعضاء اللجنة المحمدية  وقدمتهم للمحكمة بتهمة ضرب المدمنين وعلاجهم بالإكراه وصدرت أحكام بحقهم تتراوح ما بين 2 و 4 سنوات رغم الفضيحة التي هزت المحكمة حين وقف أحد الشهود واسمه فريد علقم من عناتا وقال “أنا لم أتعالج في النبي موسى ولا أعرف أين يقع لكن المخابرات ضغطت علي لأشهد زورا أو تلفق لي تهمة”.

 

الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل

في كتابه “الأنس الجليل بتاريخ القدس والخليل” يصف المؤرخ مجير الدين العليمي (ت 928هـ/ 1522م) المقام بالقول إنه كان لموقع مقام “النبي موسى” أهمية تاريخية؛ فهو مأوى للنساك والمتعبدين منذ الفترة البيزنطية، كما ويعزز موقعه إمكانية الهجوم والدفاع عما يليها، ويتحكم بشبكة الطرق والدروب التي تعبر إلى الجنوب من فلسطين، إلى جنوب الأردن وغرب شبه الجزيرة العربية، لذلك عرف بـ”درب الحاج”. وحسب العليمي أنشأ السلطان الظاهر بيبرس، مقام النبي موسى في منطقة منعزلة قليلة الأشجار والأعشاب، كما ويرتفع فوق تلال صخرية كبريتية ورسوبية. يتبين من النصوص التاريخية أن الظاهر بيبرس بعد قيامه بالحج إلى مكة المكرمة سنة (667هـ /1268م) عاد بطريق الكرك إلى دمشق وحلب، ثم زار منطقة القدس وما حولها، وزار دير السيق (دير مار سابا) والتقى الرهبان هناك، ثم زار قبر موسى (عليه السلام) وأصدر أوامره بإنشاء القبة والمسجد على القبر فتم ذلك في السنة نفسها. ومن الجدير بالذكر التنويه لوجود نقش يوضح تاريخ التأسيس المقام سنة (668هـ /1269. وحسب العليمي نقش التأسيس هو عبارة عن لوح رخامي على شكل محراب أبعاده (100سم × 92سم) موجود خارج الحائط الشرقي لغرفة الضريح، وداخل المسجد، مكتوب بخط نسخ جميل برزت عليه الأحرف، وزينت الكتابة بأوراق نباتية، واحتوى النقش على خمسة عشر سطرًا، السطر الأخير أقل جودة في الخط من الأسطر السابقة.

 وهذا ما نصت عليه الأسطر :

بسم الله الرحمن الرحيم إنما يعمر مساجد الله من آمن بالله واليوم الآخر، أمر بإنشاء هذا المقام الكريم على ضريح موسى الكليم عليه الصلاة والسلام مولانا السلطان الملك الظاهر السيد الأجل العالم العادل المؤيد المظفر المنصور ركن الدنيا والدين السلطان الإسلام والمسلمين سيد الملك والسلاطين، فاتح الأمصار مبيد الفرنج والتتار مقتلع القلاع من أيدي الكفار، وارث الملك سلطان العرب والعجم والترك. اسكندر الزمان صاحب القرآن، ملك البحرين مالك القبلتين خادم الحرمين الشريفين، الآمر ببيعة الخليفين أبو الفتح بيبرس قسيم أمير المؤمنين خلد الله سلطانه وذلك بعد عودة ركابه العزيز من الحج المبرور وتوجهه لزيارة القدس الشريف تقبل الله منه في نيابة عبده ووليه الأمير الكبير المثاغر جمال الدين أقوش النجيي كافل المماليك الشامية أعزه الله، في شهور ثمان وستين وستمائة للهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة، بولاية العبد الفقير إلى الله تعالى محمد بن رحال عفا الله عنه “.

يقول مجير الدين العليمي: “… ثم بنى بعد (أي بعد عهد بيبرس) أهل الخير وزادوا زيادات في المسجد وحوله فحصل النفع بذلك للزائر”. ويضيف أيضا إن تاريخ هذه الزيادات وحجمها وماهيتها غير واضحة، ولكنها بعد عهد الظاهر بيبرس وقبل سنة (875هـ/ 1470م) وهي السنة التي بدأت فيها عمليات الترميم وإعمار شاملة للمقام، أما ماهية الزيادات فهي مما ينتفع به كالمطابخ، والآبار، وغرف السكن، والإسطبلات، والفرن.

وبهذا المضمار ذكر السيوطي (911هـ/ 1505م) أنه تم بناء قبة فقط في المقام، ولم يشر لبناء مسجد في عهد الظاهر بيبرس فيقول: “وعلى هذا القبر الشريف قبة مبنية بناها الملك الظاهر بيبرس رحمه الله بعد ستين وستمائة” وقد يُعذر السيوطي في ظنه هذا؛ لأنه عاصر عملية توسيع مسجد النبي موسى وإنشاء المئذنة سنة (875هـ/1470م -885هـ/1480 م) فظن أنه لم يكن للمسجد أساس وأن عملية توسيعه هي تأسيسه.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية