«وتناقلوا النبأ الأليم على بريد الشمس
في كل المدينة، قُتِل القمر»
أمل دنقل
القضية 930 لسنة 2019
بضع كلماتٍ لا توحي بشيءٍ أو تدل عليه. كلماتٌ باهتة، وربما تبدو محايدة؛ لكنها في حقيقة الأمر تضمر عدواناً شرساً وتستبطن انحيازاً وعداءً راسخاً وحرباً حتى النهاية لا مجال فيها للرحمة أو الأوهام. كلماتٌ بسيطةٌ برطانة القانون، التي لا يفهمها جل الناس، تختزل صراعاً وثورةً محبطة مسروقة، فثورةٍ مضادةٍ وتصميمٍ على الثأر والتنكيل من قبل النظام.
تحت زعم القبض على تنظيمٍ أو تنظيماتٍ أو شبكةٍ من الشركات التي تعمل مموِهةً لتسهيل تدفق الأموال على جماعة الإخوان المسلمين، قامت قوات الأمن في 25 يونيو بالقبض على مجموعة من المشتغلين في المجال العام في مصر، يشملون النائب السابق في مجلس الشعب زياد العليمي عضو الهيئة العليا للحزب الديمقراطي الاجتماعي والصحافي اليساري هشام فؤاد، إلى جانب حسام مؤنس المتحدث باسم الحملة الرئاسية لحمدين صباحي، وعضو اللجنة العليا بحزب الاستقلال أسامة عبد العال العقباوي، والخبير الاقتصادي عمر الشنيطي، ورجل الأعمال مصطفى عبد المعز عبد الستار، وحسن البربري مدير المنتدى المصري لعلاقات العمل.
الحقيقة إنني إذ أسرد الأسامي أدرك ما أنزلق فيه من تقصير، فالأسماء المجردة بدورها تبدو باهتةً محايدة هي الأخرى، لن تنبئ من يقرأها بدون معرفةٍ سابقة بأصحابها، وما خاضوه من نضالاتٍ، وما اختمر في رأسهم من أفكارٍ، وما اتقد في صدورهم من آلامٍ وأحلامٍ؛ هكذا هي ثبوت الأسماء وقوائمها دائماً، لا تعني شيئاً، لذا فقد كان تحركاً حصيفاً وموفقاً من المركز المصري للحقوق الاجتماعية والاقتصادية، حين شرع ينشر عرضاً أو «بروفايل» لكلٍ من هؤلاء، فنحن لا نتحدث عن جملةٍ من الأسماء، أو «أشخاصٍ» شُدوا من قفصٍ كالدجاج، بل عن أفرادٍ، كلٌ منهم إنسان له أسرةٌ رُوعت وتاريخ، آلامٌ وآمال، وجودٌ وكيان، وأي تقصيرٍ من جانبنا في إدراك ذلك تورطٌ في جريمة التجهيل، وابتذال القبح والعنف، وانتهاك الحقوق والقيمة البشرية التي يعمل عليها النظام بمنهجيةٍ صارخة.
المهم أنه في لفتةٍ أو مفارقةٍ عجيبةٍ، لا أعرف كيف لم ينتبه لها الأمن، فقد زعموا أن «الأمل» هو الاسم الحركي لهذا التنظيم، ومن ثم صار يُشار إعلامياً إلى هؤلاء المختطفين بـ»معتقلي الأمل»، وليس هناك ما هو أدق من ذلك! فهؤلاء جميعاً باختلاف أطيافهم متهمون بالأمل، ضبطوا متلبسين بجريمته، إذا حلموا بمستقبلٍ أفضل وشاركوا في ثورة يناير، وانتصروا لقيم المجتمع المدني والتعددية والحقوق والمشاركة السياسية والعدالة الاجتماعية. قد يتفق أحدنا مع أحدهم أو بعضهم في هذه التفصيلة أو الفكرة أو تلك، إلا أنهم ليسوا دعاة عنفٍ أو محرضين عليه، بل العكس من ذلك تماماً، فهم حقوقيون ملتزمون، في المقام الأول بالمعنى الأوسع. هم أيضاً يقيناً لا ينتمون للتيار الإسلامي بأطيافه، بل ليس لدي شك في أن تياراتٍ عديدة من الإسلاميين (إن لم تكن جميعها) تناصبهم العداء، وترى في بعضهم (أو كلهم) مارقين كفرة، غير أن ذلك لم يحل دون انتصارهم للقانون والحقوق والمحاكمات العادل، وعلى ذلك فالسؤال الذي يطرح نفسه وبإلحاح: لماذا هؤلاء ولماذ الآن؟ أليس عدو النظام محدداً وهم جماعة الإخوان المسلمين، ومن دار في فلكها بشكلٍ أو بآخر؟
نظامٍ استبدت به شهوة الانتقام ويرى في هامش الحرية أيام مبارك سبباً في يناير، لذا فهو ماضٍ في تصفية حساباته
في تتابعٍ سريع للأحداث لعل أبرزها مصير الدكتور مرسي المحزن، وما لحق به من إهاناتٍ وتشنيعٍ حياً وميتاً، يثبت النظام ما تحلى به عديدون من سذاجةٍ مفرطة في تحليلهم لطبيعته وانحيازاته، وإنه لمن المحزن والمؤسف في آنٍ معاً أن كثيرين منهم، يُفترض فيهم الحنكة والدراية والاطلاع، إذ تصوروا بالفعل أن عداء النظام الأساسي وربما الوحيد مع الإخوان أو التيار الإسلامي، وقد استبد بهم الوهم فتصوروا السيسي مُحدثاً منافحاً عن مدنية الدولة. الأكيد أن النظام يثبت المرة تلو الأخرى موقفه وأنه لا أوهام لديه: فعداؤه لثورة يناير وأي مطالب بتقاسم السلطة، ناهيك من تداولها، وكل ما يراها جعجعةً عن الحقوق والحريات والتعبير الخ. لقد بدأ بالإخوان لما يمثلونه من قوةٍ حقيقية على الأرض (على الاقل حينذاك)، لكنه أبداً لم ينس كل الأطياف الأخرى في ثورة يناير، ولم تكن المسألة أكثر من مسألة وقتٍ فحسب، وهو بهذه الحملة يرسل رسالةً واضحةً لا لبس فيها: إنه سوف يلاحق ويقتص من كل من شارك في يناير وحرّض عليها، ولم يراجع موقفه، فيصفق ويطبل عالياً للنظام وللسيسي، وليس أسهل من اختلاق التهم وتلفيقها، إذ يكفي الادعاء بعلاقةٍ بالجماعة المحظورة، أو الإرهاب لتُغيب الناسَ السجون.
نحن أمام نظامٍ استبدت به شهوة الانتقام ويرى في هامش الحرية أيام مبارك سبباً في يناير، لذا فهو ماضٍ في تصفية حساباته مُستفرداً بأعدائه/ معارضيه واحداً بعد الآخر، مستمتعاً بإذلالهم وإرهاقهم وذويهم وأحبابهم بعملية تحقيقٍ وتقاضٍ مُعذبة، جحيم لعين. أما الجمهور، المتفرجون على الهامش، فهو يغرس فيهم البلادة وإلف مشاهد الاعتقال والذل والتصفيات، ويرسخ كل معاني اللاجدوى واللامعنى، وامتهان كل القيم والحياة البشرية نفسها. لقد ذكرت بضع أسماء، ولكنني أعود وأذكر بأن ما يزيد على الستين ألفاً يقبعون في أقبية النظام يتعفنون ببطء. ثمة مفاجأةٌ على الرغم من كل ذلك تنتظر النظام، أنهم قد يؤجلون الصراع والاحتدام، يغيرون ساحته، إلا أن ذلك العنف الذي يبنون سينفجر بشكلٍ أو بآخر، وإن لم يكن في صورة ثورةٍ ففي بدائلها من توحشٍ وتفسخٍ اجتماعي سيدفع رجالات النظام نفسه ثمناً له مهما انعزلوا. أما الأمر الآخر فهو أنهم مهما فعلوا فلن يقتلوا الأمل أو الحلم بالخلاص، ولا أصدر في ذلك عن رومانسيةٍ، بل لأنني أعلم يقيناً أن البشر يحلمون ويستولدون الأمل، كما يأكلون ويشربون ويتناسلون، فالأمل احتياجٌ بشري في المجمل. كنت قد تساءلت في مقالاتٍ سابقة إن كان هناك رجلٌ رشيد في هذا النظام، بيد أن كل يومٍ يثبت الإجابة بالنفي، كما ثبت أن أياماً عصيبة ما زالت تنتظرنا.
كاتب مصري
( قل هو من عند أنفسكم)
للأسف الشديد نجحت القوى العميقة وعلى رأسها المجلس العسكري في إفشال الثورة المصرية لأن الأحزاب السياسية لم تكن على مستوى الحدث بل تفرقت وانشغلت بالإقتتال الداخلي وكان بأسها شديدآ بينها ولعلها تستفيد من هذه الأخطاء في المستقبل