لعلنا لو تأملنا تاريخ الحروب عبر العصور، لوصلنا إلى نتيجة تقول إن هناك دائماً مقدمات لإبادة البشرية، وعصرنا الحديث شاهد على ذلك، ولعل الضحايا والخراب الذي خلّفته بعض الدول المُستعمِرة على مدى عشرات السنوات في هذا البلد أو ذاك، أو في بلاد كثيرة، كما فعلت بريطانيا وأمريكا وفرنسا (حلفاء المُبيدين الجُدد اليوم) يفوق بكثير ما أسفرت عنه الحربان العالميتان الأولى والثانية من خسائر على يد النازية، ففي ظل وجود القوى الفاشية القائمة أنظمتها على أعمدة العنصرية المعززة بكل أشكال القوة، كانت كل إبادة «بروڤة» لإبادة مئات الملايين، وتدمير أوطانهم أو سرقتها، في كل مكان فيما بعد. يحالف هؤلاء دائماً أنظمة ذيلية تتسابق لكي تعتاش على فضلات الأنظمة الكبرى.
كل حرب مهدت للحرب التي تليها لأن تكون أبشع، وكل مجزرة فعلت ذلك، وكل دمار لحق بشعب أو لحق بوطن بأكمله كان يفعل ذلك، يتنبه البشر الضحايا أحياناً، وأحياناً لا يتنبهون، وأحياناً تهرول أنظمتهم صائحة: اقتلوا شعوبنا فهي تستحق الإبادة أكثر من الشعوب الأخرى.
ومن المفارقة أن أعداء كلّ عنصرية في لحظة ما، تسلّحوا في ما بعد بالعنصرية ذاتها وعملوا الكثير ليكونوا أكثر همجية لاحقاً.
من ينظر اليوم إلى حرب الإبادة في غزة (وقد سبقتها حروب إبادة أخرى شُنت عليها)، ويعتقد أنها حرب لإبادة الفلسطينيين وحدهم واهم، فهي مقدمة لإبادة كل شيء في ما بعد، بما في ذلك ما بقي من ادعاءات بالتمسك بما اتفقت عليه البشرية وأقرّته من قيم وقوانين وأعراف.
اليوم يتجوّل السفاح والظالم والمستبد غير عابئين بصفاتهم، حتى العنصرية التي كان العنصريون يخشون أن يوسموا بها، حتى العنصرية لم تعد تُهمة مخيفة لهم.
الكيان الصهيوني الذي صُنِّف كياناً عنصريّاً من قبل المؤسسات الدولية، لم يعد يهمه ذلك، ما دامت رخصة القتل في جيبه، وما دام القائد الأعلى للجيش الصهيوني، فعلاً، هو بايدن، رئيس أكبر قوة مُدمِّرة للعالمين: العالم الجديد القديم، والعالم الذي تلاه. إنه لا يجتمع مع مجلس الحرب الصهيوني ليسمع منهم، إنه يأتي ليصدر أوامره وتوجيهاته، وينشر القوات الإضافية للقوات الصهيونية من حاملات طائراته وقببه الحديدية وأقماره الصناعية، إلى قوات النخبة وخبراء الإبادة من جنرالاته، وليضخ المليارات في اقتصاد حرب الإبادة.
كانت أوروبا ذات يوم ومعها البشر في كل مكان، ترتصّ في مواجهة النازية، لكنها اليوم ترتصّ لا خلف صفوف العنصرية الطليقة فحسب، بل في الصفوف الأولى الزّاحفة لتدمير كل شيء.
إنهم لا يهدمون بيوت الفلسطينيين، بل يهدمون المعنى العميق للنبالة الإنسانية التي حيّدت المدنيين في الصراعات، واتفقت على حقّهم في الهواء وفي الماء والطعام والدواء، وحقّ أولادهم في أحضان أمهاتهم في الحرب و»السلام»، السلام الذي لم يكن أقلّ فتكاً بفلسطين والفلسطينيين من هذه الحرب، وكل الحروب التي شنت عليهم. ومن حقّ الأب ألّا يكون مضطرّاً للبحث بين الحطام عن قلم حبر ليكتب أسماء أبنائه على أذرعهم، هو الذي سيعثر بعد الغارة عن ذراع ابنه المقطوعة، لكنه لن يستطيع العثور على طفله الذي تبخّر.
في روايتي «أعراس آمنة» الصادرة قبل عشرين عاماً، كانت آمنة؛ المرأة التي فقدت ابنها وزوجها، تسأل الشاب «عزيز» الذي يحفر القبور في غزّة: «هل هناك شهداء جدد؟»، فيجيبها: «لا، ولكننا لا نعرف متى سيفاجئوننا ويقتلون أعداداً جديدة منّا، لا بدّ يا خالتي من أن تكون لدينا قبور احتياطية». فترجوه آمنة: «لا أريد أن أوصيك، لتكن القبور واسعة قليلاً، حتى يرتاح الشهداء فيها»، فيجيبها: «والله يا خالتي، إنني أعتني بكل قبر وكأنني أنا الذي سأُدفَن فيه».
كل نظام عربي يقف اليوم موقفاً مخزياً، وأعلى مطالبه إدخال رغيف خبر وأكفان إلى غزة، غير قادر على أن يقول بجرأة أو بادعاء: أوقفوا الحرب. هذا النظام تقول له غزة بكامل جراحها المفتوحة: «احفر قبراً احتياطياً لك، ففي اليوم الذي يؤكل فيه الحصان الأبيض ستؤكل فيه البغال السوداء والحمراء، والضباع البشعة، والثعالب التي لا تستطيع اليوم إخفاء فضيحتها، لأن الفضيحة أكبر منها.
في المقال السابق أشرت إلى أن الصهاينة لن يعودوا إلى ما كانوا عليه أبداً، كما لن نعود نحنُ نحن، ولكن كي نعود نحن نحن، علينا أن نحاسب بشراسة كل من وقف صامتاً أو داعماً لهذا العدوان، ونحاسب سُلطة فلسطينية لا تتلعثم إلا حين تلفظ اسم فلسطين، ولا ترتبك إلّا إذا اضطرَّت لأن تلفظ كلمة شهيد أو أسير أو تحرير، واثقة أن كل ما سواها لا ينتمي لحقيقة ولمستقبل فلسطين، فالشجاعة في عينها رعونة، والصمود مضيعة للوقت، والنهوض من جديد بعد كل مجزرة تفكير صبياني، أما التذلل فهو المواجهة الحقّة، وأما قمع المظاهرات فهو الخطة الاستراتيجية لإحقاق الحق، وأما الفساد فهو تجويع الشعب ليكون أكثر رشاقة، وأما محو فلسطين من صفحات الكتب المدرسية فهو إيجاد مساحات كافية لرايات السلام في ذاكرة الأجيال الجديدة.
حتى حين يخرج كبيرها على العالم قائلاً: إن حماس لا تمثل الشعب الفلسطيني (كأنّ منظمة التحرير تمثّله اليوم)، وحين يتم تنبيهه لما قاله لا عن طريق موظفيه، بل عن طريق الغضب الذي تفجرّ بعد ما قاله، ألم يكن يدرك أن عبارة كتلك كانت توسع المجال الجويّ، المشْرع أصلاً، لطائرات العدو الصهيوني كي تشن غارات أكثر وتقتل أكثر وتدمّر أكثر.
أياً كانت نتائج هذه الحرب، فقد هُزم العدو العنصريّ وأُذِل، وستنتهي الحرب، كما كل حرب، وسيكذبون مرة أخرى وهم يقولون إنهم انتصروا، ولكن المفارقة أنهم سينتهون مع نهايتها وينتهي مستقبلهم معها، ولكن المفارقة الكبرى أن من سيحلّون مكانهم في قيادة هذا الكيان لا بدّ أن يثبتوا أنهم أكثر عنصرية وأكثر همجية، وأكثر قدرة على ممارسة الإبادة، حتى يتمّ انتخابهم.
وبعـــد:
كان «عزيز» يحفر دائماً قبوراً احتياطية، لكن القبور في غزّة لم تعد تكفي مهما حفر، لكن كل نظام ذيْليّ، عربي أو غير عربي، عليه أن يدرك أنه ببساطة يمكن أن يكون «غزة تالية»، فما يحدث في غزة ليس سوى مقدمة أخرى لإبادات قادمة، بعد أن انتهت تماماً أكذوبة أن هناك رادعاً قانونيّاً أو إنسانيّاً أو أخلاقيّاً للقتلة.
غزة لن تكرّم هؤلاء بحفر قبور لهم، حتى وهي تحفرها فعلاً اليوم لهم في التاريخ، لأن هناك قبوراً من نوع آخر عليهم أن يحفروها بجباههم قبل أيديكم لأنفسهم بأنفسهم.