مكاد

مكاد إبراهـــيم، ثلاث سنوات، جسد مخترق بالرصاص مسجى في التراب، ترى كيف ينام الساسة لياليهم؟
ليست حادثة نيوزيلاندا بحادثة معزولة، ليست حادثة مستقطعة في حياة آمنة، فالحياة ما عادت آمنة منذ زمن. لقد دفع الغرب ثمناً باهظاً ما قبل القرن العشرين، ثمناً امتد لألف سنة، ليغرس عميقاً مفاهيم الحرية والمساواة والحقوق الإنسانية، وكان أن شهد العالم على حقيقية وعمق انغراس هذه المفاهيم في ضمائر وعقول الأفراد الغربيين وفي ديناميكية عمل حكوماتهم، حتى بات العالم يهرب من اضطهاد ظروفه إلى «جنة» الغرب، ليجد هناك الحرية والعدالة والفرص الحقيقية له كإنسان، لا يقيمه سوى عمله وحسن اجتهاده، فكان أن أصبح العمال البسطاء حكاماً، والنادلات وزيرات، والفقراء المدقعين أغنياء ناجحين، وكان أن انتشرت بيوت العبادة وتعمقت فكرة احترام الآخر وتعايش الناس بسلام. إلا أن المجتمع الإنساني الفاضل ما هو سوى ضرب من خيال، صرح شاهق من ورق، لربما تحتاج لقرون من الزمان للصق أطرافه بدقة وحذر، ولا تحتاج سوى لساعات من النفخ عليه ليتهاوى فوق رؤوس الجميع.
وهكذا كان أن دفع الغرب ثمناً باهظاً مستمراً على مدى قرون من الزمان ليحقق معادلة مجتمع الحرية والعدالة والحقوق الإنسانية، وكل ما كان يتطلبه هدم هذه المعادلة هو صوت أرعن يخاطب مخاوف الناس وكراهياتهم وعنصرياتهم المتجذرة عميقاً في نفوسهم، ليقلب المفاهيم الغربية الإنسانية على أعقابها وليحيي بغضاً، لربما هو فطري، في نفوس الناس تجاه كل ما هو مختلف عنهم، حتى لو كان مجرد اختلاف في لون أو ملامح. ولأن الخير يحتاج قروناً والشر يحتاج لأيام، ولأن البشر بطبيعتهم الجمعية (أي حين يكونون في جماعة) غوغائيون يتجاوبون مع بل ويستلذون بالعنف اللفظي والجسدي الذي ينفس عن قلوبهم ويخفف من همومهم، فإن الدنيا سرعان ما انقلبت، لينتشر الخطاب العنصري مثل النار في الحطب، وليتفاخر العنصريون حول العالم بعنصرياتهم وأفكارهم الرديئة، التي كانوا يحرصون على إخفائها في السابق، بكل وقاحة، لتأتي بعد ذلك الخطوة المنطقية اللاحقة: الدماء.
يأخذ عقلي دورة كاملة حول الموضوع، يتشبع برائحة الدماء الطاهرة التي كانت تبتغي وجه ربها في ساعة خشوع، ليعود إلى هناك، إلى البيت الأبيض، حيث القصة كلها قد بدأت في 2017 حين جلس «على العرش» رجل أعلنها في وجوه الناس جميعاً: «سأطرد المسلمين، سأبني جداراً عازلاً في وجه المهاجرين، بين أفراد حركة «سيادة البيض» من هم أناس طيبون».

كل هذه التحليلات لن تعيد مكاد، لن تعطيه هذه الفرصة المسروقة من الحياة، لن تعوضه عن الذي كان ليكون، لا معنى لها كلها بالنسبة له مطلقاً.

خلال أيام قليلة لاحقة، بدأت الألسنة تلهج بعنصريات وكراهيات ما كان يجرؤ على التصريح بها حتى أشد المؤمنين بمفاهيمها، خرج الكارهون للشوارع يدعون إلى سيادة لون على لون، تعالت الأصوات الساخطة على الفقراء الهاربين عبر الحدود رغم الأطفال المحملين على أكتافهم، تصاعدت روائح أفكار ما كانت تجرؤ على التسرب سابقاً، لكن «الكبير» أعلنها، فلم يخش الصغار ترديدها؟
لربما في تحليلي الكثير من السذاجة، لربما أنا على السطح، بعد لم أسبر غور المشكلة، ولربما يمر الغرب في مرحلة صعبة تتحدى مفاهيم ومبادئ صنعها هذا الغرب في ألف سنة، لربما هي موجة من موجات التاريخ البشري، حيث يصعد الشر ويتقهقر الخير، وكل ما علينا أن نفعل هو أن نبقى نحاول، نبقى نحارب الكراهية ونعزز المفاهيم الإنسانية لحين مرور الموجة، لربما كل ذلك، لربما ليس أي من ذلك، الا أن كل هذه التحليلات لن تعيد مكاد، لن تعطيه هذه الفرصة المسروقة من الحياة، لن تعوضه عن الذي كان ليكون، لا معنى لها كلها بالنسبة له مطلقاً.
رحم الله ضحايا المسجد الأبرار، لربما هم الصرخة التي يحتاجها العالم ليفيق من غفوته وليرى كيف انغرست سيقانه عميقاً في وحل الكراهية والعنصرية، لربما هم الوخزة في جنب الضمير الإنساني التي ستلفت انتباه الجميع إلى الخطورة العظيمة للأصوات الكارهة. الأصوات العنصرية ليست مجرد أصوات، وكلمات الكراهية ليست مجرد كلمات، هي في الواقع طلقات، طلقات خزنها وحش حقير في سلاحه المنقوش بكلمات بغض فاحش ليفرغها في صدور المسالمين الآمنين في تلك اللحظات القصيرة التأملية التي تسبق توجههم لربهم بالصلاة والدعاء، وليزرعها موتاً في صدر مكاد، مكاد ذي الثلاث سنوات، ليغفو غفوته الأخيرة في المسجد، صانعاً منه الدار الحالمة الطاهرة الأخيرة لكل حياته التي كان يجب أن تكون، لكل أحلامه وأمانيه وسعاداته وضحكاته التي كان يجب أن تتحقق، والتي ستبقى كلها هناك الآن وللأبد، في هذه الزاوية الصغيرة المنفرد من العالم، حيث المسجد الصغير وحيث رواده المسالمون، وحيث الجدران والسجاد للأبد مزخرفين بدماء طفولته الطاهرة، دماء مكاد.
رحمكم الله أيها الأبرار، في أمان الله يا مكاد.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

  1. يقول محمد المليص - كندا:

    للأسف حضرة الكاتبة لم تغص في أعماق المشكلة في الغرب. القضية ليست قضية ثلة متطرفة تكره المسلمين والمهاجرين بشكل عام. البارحة في الراديو الكندي الممول من الدولة تحدثت المذيعة عن تنظيم كندي اسمه 3%, أعضاؤه ضباط وجنود سابقين في سلك الجيش والأمن والشرطة, وهم مسلحين ويعلنون عداءهم للمسلين ويتوعدوهم, ورغم ذلك لم يتم تجريم تنظيمهم. وهم موجودين في أمريكا في أعماق أوروبا.

    البرنامج كان حول مطالبة بعض الهيئات الإسلامية الكندية لتجريم هذه التنظيم ومنعه, ورغم أن الضيفة الباحثة الكندية البيضاء أوضحت بأنه فعلاً هو تنظيم خطير لأنهم ضباط وجنود سابقين ومدربين على السلاح بشكل جيد, إلا أن المذيعة أعادت السؤال بلهجة المستغرب قائلة “هل يمكن تجريمه؟”, بينما أي عاقل وأي متحضر وأي إنساني سيعلن فوراً بتجريمه.
    هناك تتمة تتبع

  2. يقول محمد المليص - كندا:

    تتمة التعليق:
    هل يمكن لضباط وجنود سابقين أن يتصرفوا هكذا دون أن يكون هناك تخطيط من قبل بعض الخونة الذين لا يزالون على رأس عملهم وهم من ينسق معهم بالسر؟
    المصيبة كبيرة وجذورها عميقة منذ قرون. الديمقراطية في وادي والقوى الأمنية والبوليسية ذات النهج الصليبي في وداي آخر, في وادي تسميم الثقافة الغربية وتجييش الرعاع والمثقفين الحاقدين على المسلمين. والقادم أعظم. آن الوقت لفضح الإرهاب الصليبي الصهيوني الذي هو مثل داعش وأخطر لأن هناك قيادات عسكرية وأمنية من خلفه. النظام الأمني والعسكري في الغرب مسرطن بداء الصهيوصليبية الدموية.

  3. يقول تونس الفتاة:

    حتما المشكل أعمق بكثير ….وهو الاعتراف بالآخر المختلف….قبل الذهاب للغرب ….
    هل نحن نعترف بحق الآخر المختلف بيننا نحن كمسلمين هل نعترف بأن المسلم يمكن أن يكون مسلم او ان يرفض و بكل حرية ان لا يكون مسلم هل نعترف بأن يكون رئيسنا او من يحكمنا غير مسلم إلا عن جد فى بعض الاحيان ….هل نعترف بحقوق المرأة كاملة مكملة هل تسمح للهندوس و البوذيين ببناء معابد هل نسمح للمسيحين اهل الكتاب الذين يعيشون بيننا بنشر دينهم و التعبد بكل حرية هل نسمح لليهود اهل الكتاب ايضا ببناء كنيس بكل حرية ….هل رايت الكم الهائل من الشتائم العنصرية للسيد رونى طرابلسي لمجرد انه عين وزير فى بلاده لمجرد انه يهودى ….بيننا الكثير ينعت الغرب بالكافر و انت تعرفين ماذا تعنى لدينا الكثير منا ينعت الغرب بأبناء الخنازير …..
    للاسف المسيحى لم يعد ذالك الشخص الذى ان ضربته على خده الأيمن سوف يمد لك خده الأيسر….والادهى ان الأمر تحول إلى الصينى و الهندوسي و غدا الكورة و اليابانى ….اى إلى اغلب سكان العالم …..
    هل كل هؤلاء مخطئون و نحن على حق ….؟
    سؤال آخر لا يبتعد على نظرية المؤامرة ……لماذا لا تكون عملية نوزلاندا البشعة هى عمل استخباراتي لتشويه الديانة المسيحية السمحة و المسيحيين عموما ….؟

    1. يقول منير الصقري:

      وهل الغرب يسمحون بشخص مسلم يحكمهم! لا طبعا يجب أن يكون الرئيس او الملك من الاغلبية، انا الذي أراه ان أصحاب الديانات الاخرى محترمون في بلادنا ولا عبرة بمواقف وحوادث شاذة، وأنت بدل أن تمقت هذا الفعل الاجرامي الإرهابي نراك تبرره، نعلم أنك تمثل التيار العلماني المتطرف في تونس أبناء فرنسا والذين يبشرون بعلمانية منسوخة ممسخوسة من العلمانية الفرنسية (طبعا هناك علمانيون معتدلون) وهذا واضح من تعليقاتك التي اقرؤها باستمرار، لكن هذا لا يمنع أن تكون علمانياً ديمقراطياً لا إقصائياً يندد بالإرهاب في كل مكان ويسمي الأسماء بمسمياتها ويحارب الإرهابيين أين ما كانوا ومن أي دين ينتمون ويقول الإرهاب لا دين له.

  4. يقول سلام عادل(المانيا):

    تحية للدكتورة ابتهال وللجميع
    لكي تعيش المجتمعات في امان هناك امران على العالم ايجاد قوانين رادعة لها وهو التعصب القومي والديني وما ينتج عنهما من كراهية وحقد على الاخر المختلف والا ستكرر موجة القتل بين الحين والاخر

  5. يقول علي:

    واضح أننا ننسى شيئا مهما وهو أن كفاح الأوربيين على مدى ألف سنة من أجل الحرية والمساواة وحقوق الإنسان لم يكن من أجل العالم، ولكنه كان من أجل أنفسهم بعد أن مزقتهم الصراعات الوحشية البشعة التي انتهت بحربين عالميتين كان أول الضحايا فيها المسلمون حيث تمزقت دولتهم الجامعة، وتم احتلال معظم أجزائها وسرقة ثرواتها وتراثها، وزرع كيان يهودي عنصري نازي في أرض فلسطين. ( يتبع)

    1. يقول سنتيك اليونان:

      الى السيد علي
      طبعا الغرب يعمل لصالحه. وأنا اهنئه على اهتمامه بشعوبه. . الم يحن الوقت ان نتعلم منه ونعمل لصالحنا ولشعوبنا

  6. يقول علي:

    كانت الوحشية الأوربية أحد تجليات الحروب الصليبية التي أشعلها البابا أوربان وتابعه بطرس الحافي في سانت مونت كلير بفرنسا عام 1095م ، حيث لم تسلم فرق القتل والموت الصليبية نفسها من التنازع والإغارات الدموية فيما بينها على مدى موجات هذه الحروب البشعة طوال ثلاثة قرون وسجلتها ملاحم تشيد بالدمويين الذين قادوها، ثم انتقلوا بهاإلى الأندلس حيث كانت الفظائع على النحو الذي يعلمه كثيرون، وما عرف بمحاكم التفتيش التي استأصلت الإسلام استئصالا كاملا ومعه اللغة العربية والعادات والتقاليد العربية والثقافة الإسلامية.(يتبع)

    1. يقول سنتيك اليونان:

      الى الأخ على
      ما حالة بلاد الأندلس لو بقي العرب فيها الى يومنا هذا وما حال الأندلس. اليوم

    2. يقول تونس الفتاة:

      سيد سنتيك ….سؤال جيد ….الاجابة انظر الى الجنوب ….جنوب الأندلس!

  7. يقول ناقد:

    مقالات الكاتبة تنضح استهزاء بالدين والثقافة العربية، ويأتي هذا المقال أيضا لتقديس الغرب والانبهار بثقافة الغربيين. كل من يعيش في الغرب يعرف أن الغربيين يتأنفون من العرب والمسلمين حتى قبل صعود يمينهم المتطرف.

  8. يقول علي:

    مع النهضة الحديثة في أوربة ودخول القرن الثامن عشر، انطلقت أوربة إلى خارج القارة لتسكب وحشيتها ضد العرب والمسلمين والأفارقة، واتخذت الصليبية شكلا آخر واتخذت اسما جميلا هو الاستعمار، وكانت العلمانية أو الحداثة فاصلا بين الضمير وحقوق الإنسان، لقد تنحت الكنيسة ظاهريا على الأقل عن التدخل في السياسة، فانطلق العنان، لنقل عشرات الملايين من إفريقية إلى أميركا في السلاسل والقيود مثل الحيوانات، وهلك منهم عشرات الملايين، ولم يبق غير ملايين قليلة وصلت إلى العالم الجديد(أميركا)، أما العرب والمسلمون فكانوا ميدانا للسرقة والنهب والذبح ( احتلال الجزائر والهند ومصر حتى وصلوا إلى الفلبين بعد إخضاع إفريقية كلها بثرواتها وأهلها) ، وحين انسحبوا بعد الحرب العالمية الثانية، كانت النخب التي ربوها وتيمت بحبهم وبثقافاتهم تحكم العرب والمسلمين وإفريقية، وهي النخب التي مازالت حتى اليوم تدافع عن إرهابهم وجرائمهم وبقاء الكيان الصهيوني الغاصب، وقبل ذلك وبعده تحارب الإسلام بكل ضراوة، من خلال الأبواب والنوافذ المفتوحة لهم ليلا ونهارا،والمغلقة في وجوه كل من يذكر الإسلام بخير.(يتبع).

  9. يقول علي:

    لم تهمد الوحشية الغربية ومعها الأميركية ضد الإسلام والمسلمين، حتى بعد أن سلمت النخب الحاكمة في العالم الإسلامي قيادها وبلادها لهم غمليا، فاتخذت من صراع المستبدين(جنرالات ومناشير وعيرهم) مع شعوبهم العربية والمسلمة ذريعة لصناعات مسمار جحا، ( جماعات إرهابية، وأحزاب طائفية، وأعراق ، وأفقليات) ليستمر تدخلها بأحدث الأسلحة الفتاكة لتقتل الملايين في أفغانستان والعراق والصومال وليبيا وفلسطين وسوريا…) بحجة محاربة الإرهاب واقتلاع جذوره بينما من ينظر إلى داعش ومعداتها وأسلحتها التي تبدو جديدة جدا وقادمةمن مخازن الغرب لا يشك لحظةأن الاستعماريين السابقين، المهيمنين الحاليين هم صناع تلك الجماعة وغيرها باستخدام الريموت كنترول.

  10. يقول علي:

    يرى المستشرق محمد أسد( ليوبولد فايس) أن الروح الصليبية هي التي تحكم العالم الغربي الآن، وأن تعامله مع العالم والمسلمين خاصة يقوم على نظرة صليبية همجية وحشية،لا تؤمن بالحرية ولا المساواة ولا حقوق الإنسان. هذه القيم من أجل الغربيين فقط، أما الآخرون فلا قيمة لهم ولا اعتبار. حين أهلكت الحربان العالميتان ملايين من الأوربيين ، غير الملايين من الأفارقة والآسيوين، واحتاجوا إلى عمالة لبناء اقتصادهم، أخرجوا المرأة لتعمل، وفتحوا المجال للأتراك والهنود والعرب،ورحبوا بهم في أوربة،وعاملوهم بوصفهم مواطنين على أرضها،وحين انتهت مهمتهم،وصاروا لا يحتاجون إليهم أوإلى غيرهم، بدت عملية منع الهجرة بل منع الدخول إلى أراضيهم أمرا ضروريا، وقلدهم في ذلك بعض الأعراب،لدرجة أن دخول الجنة صار أسهل من الحصول على تأشيرة دخول إلى عواصمهم والعواصم الأعرابيةالتابعة لهم. (يتبع)

    1. يقول سنتيك اليونان:

      الى السيد على
      لا افهم مشكلتك مع الغرب واهتمامه بمصلحة شعوبه باي ثمن نحن لا نعيش بالجنة …. هنا على هذا الكوكب. القوي يحصل على ما يريد وعلى الضعيف ان يتعذب كما يجب ….

1 2 3

إشترك في قائمتنا البريدية