مكتبات عامة

من الأماكن التي تعتبر بؤر جذب نضج بالمتعة، على الأقل لأبناء جيلنا والأجيال التي سبقتنا، المكتبات، سواء أكانت مكتبات عامة تتبع الدول، أو مكتبات تجارية خاصة في الأسواق، وأيضا المكتبات التي نجدها دائما في صالونات البعض، مزينة بالكتب في شتى المواضيع، وهناك مكتبات عند أفراد تبدو غنية جدا، وتحوي كتبا ليست موجودة في أي مكان، وحين كان موضوع الكتب رائجا بالفعل، وليس مجرد تجارة في الغالب خاسرة، كنت تجد المزادات تقام هنا وهناك، لعرض النسخ النادرة، ونسمع من حين لآخر أن مثقفا كبيرا، أوصى بكتبه لجامعة أو مدرسة ما، وكان هذا يعد مكسبا كبيرا للأماكن التي حظيت بهذا السخاء.
من عاداتي شخصيا، حين أسافر لأي مكان، زيارة المكتبات، هذه أضعها على رأس أولوياتي، أكثر من زيارة الآثار والمقاهي السياحية، والمولات الصاخبة، وقد أكون داخل مول تجاري، لكنني غارق في المكتبة التي توجد فيه، كما يحدث حين أزور مول دبي، حيث يتركز نشاطي على مكتبة كينوكينيا، إحدى أهم المكتبات هناك، مكتبة عظيمة وراقية، ومرتبة بحيث لا يمكن أن تخرج منها بلا شيء، هناك تحس بأن الكتب لها أرواح وألسنة وتنادي من يتسكع بقربها، وكانت هذه المكتبة التي هي مكتبة فقط، وخالية من أدوات التجارة السائدة في معظم المكتبات مثل الدفاتر والأقلام، والحقائب وألعاب الكومبيوتر، فعلا وسيلة جذب لعشاق الكتب، الذين قد يوجدون في دبي.
الشهر الماضي، أتيح لي أن أزور مكتبة محمد بن راشد، التي أنشئت منذ عامين، لأول مرة، لم أكن أتصور حجم المكان، ولا ماذا يوجد فيه، لكن بمجرد مشاهدة المبنى الخارجي المصاغ بطريقة فنية جميلة، في منطقة هادئة من دبي، استطعت وضع تصور ما: لا بد أن هناك كنزا في الداخل.
وأعتقد بعد زيارتي تلك، التي رافقتني فيها أميرة الفارس، إحدى الموظفات الملمات بالكتب وخصائصها، وانتهت بجلسة مطولة سخية مع الأديب الإماراتي الموسوعي، محمد المر، الذي يضطلع برئاسة المكتبة، أيقنت أن هناك مكتبات أسطورية فعلا، منها هذه المكتبة، ومكتبة قطر الوطنية، ومكتبة لندن التي شاهدتها مرة، وربما مكتبة الكونغرس الأمريكي التي لم أحظ بزيارتها، لكن أعرف أن فيها كتبا، لم تكتب بعد، وأقول ذلك مجازا، كناية عن ثراء المكتبة، وتزويدها للدارسين والقراء العاديين بما يحتاجونه من جدية ومتعة في الوقت نفسه.
مكتبة محمد بن راشد ليست مكتبة عادية إذن، والنسيج الذي صممت به، سهل ومعقد في الوقت نفسه، لكن يتيح العثور على ما تبحث عنه، هناك مكتبات متعددة داخل المكتبة، مكتبات للأطفال، والكبار، واليافعين، ومكتبات برفوف جاذبة، وأخرى تعمل ببرامج إلكترونية، وروبوتات شديدة الذكاء، تتحرك بسلاسة داخل فضاء المكتبة، وتصعد الأدوار المختلفة لتأتي بالكتب، فالذاكرة الإلكترونية تستوعب الأوامر بسهولة، والروبوت يقوم بكل شيء بعد ذلك، وكنت ذكرت في حديث في مقال سابق عن استخدام الذكاء الاصطناعي في الإبداع، وأيضا في الحياة العامة، إننا نستطيع أن نستفيد فعلا من هذا الذكاء، لكن لا يمكن أن نعتمده كاتبا للرواية، التي هي فعل إنساني تخييلي صعب، وأي محاولة صناعية هنا، قد تفسد ما يكتب، ثم ما هي فائدة أن تكتب بالذكاء الاصطناعي؟ ما دام القارئ نفسه يستطيع أن يفعل ذلك وهو جالس في بيته.
في المكتبة قسم خاص بالنفائس، وهي كتب وأدوات استخدمت في صناعة الكتابة قديما، هذا القسم المحصن، تدخله وأنت لا تعرف كيف كُتب المصحف الشريف، وكيف دوُّن تاريخ كان حاضرا يوما ما، وكيف أن الأقلام المصنوعة من الذهب، كانت هدايا من الملوك للملوك، هذا القسم وحده معجزة لمن أراد البحث والتعمق في تاريخ الكتابة، ولعل دواوين بعض الشعراء القدامى المكتوبة بخط اليد، في زمن كتابتها أو جمعها لأول مرة، تعطي فكرة كبرى عن تراثنا العربي والإسلامي، الذي قد تكون أهملته الأجيال الجديدة.
بالنسبة للمكتبة الإلكترونية، فهي أيضا موجودة لعشاق القراءة الإلكترونية، مكتبة فيها مئات الآلاف من الكتب، التي نسقت بحيث يتم العثور عليها بسهولة، وتحميلها وقراءتها بأجهزة خاصة بالقراءة، كتب بالعربية ومترجمة وبلغات أخرى.
ولعلي تعرفت على هذا النسق نفسه منذ عامين حين شاركت في ندوة حوارية عن أعمالي في مكتبة قطر الوطنية، نعم الزخم نفسه، والسهولة في الحصول على كنوز المعرفة، ويوجد أيضا قسم للنفائس يحوي ما لم نكن نعرفه عن تاريخ الكتابة.
السؤال الذي لا بد من طرحه، حين تزور مثل هذه الصروح العظيمة، وتتعرف على جمالها، وما فيها من معارف شتى: هل هناك مستفيدون فعلا من كل هذه الكنوز المعرفية؟، هل هناك زوار يمتلؤون هنا، ويظلون ممتلئين إلى آخر أعمارهم؟ ويعودون من حين لآخر للاستزادة؟
لا أعرف حقيقة، ومعظم شباب هذا الجيل مشغولون بالتكنولوجيا في وجهها الآخر، وجهها الترفيهي، الذي يحتله فيسبوك، وسناب تشات، وتيك توك، حيث السهولة في اصطياد المتعة الوقتية بلا احتمال ضئيل لاصطياد معرفة جيدة، وعلى الرغم من أن كثيرا من منصات بيع الكتب، فعّلت تطبيقات للهواتف، يمكن القراءة عبرها، إلا أن ذلك المنحى يبدو متأرجحا نوعا ما، فليس أصعب من قراءة كتاب في هاتف محمول.
لقد كان ثمة طلاب مدرسيون، حين زرت مكتبة محمد بن راشد، وكانوا في زيارة تعليمية من ضمن نشاط مدرستهم، وهذا مبشر، لكن هل كان الطلاب مستمتعون وهم يطوفون في أقسام المكتبة المختلفة، ويتلمسون الكتب؟
أتمنى ذلك، لأن تربية الأجيال قرائيا، تبدأ من هنا، أي تقريبهم من سبل المعرفة.

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية