مكتبة وبلاغة

حجم الخط
0

عادة ما كانت الدراسات الجامعية مرتبطة ارتباطا عضويا بالبحث العلمي. وعادة ما كانت المكتبة الجامعية أحد الأفضية المناسبة للبحث والتحصيل، بما هي الملاذ الوحيد للطلبة الباحثين، فعندما يستوعب هذا المكان تقنيات إلكترونية حديثة تليق بفضائل العلم والمعرفة، يتسارع الطلاب الباحثون إلى الاغتراف من معين الثقافة والعلم، عن طريق ولوج بوابات ومواقع تابعة للكلية، تسهل من وتيرة الوصول إلى الكتاب بالسرعة المطلوبة، ويصبح هذا العمل قيمة، خصوصا إذا كانت المكتبة الجامعية تعج، كما هو الشأن بالنسبة لمكتبة جامعة محمد الخامس كلية الآداب في الرباط، بالكتب والمراجع والمصادر والأطاريح.
كان لقائي الأول، بهذه المكتبة العتيدة، بداية الألفية الثالثة، عندما طلب منا أستاذ مكون البلاغة عبد الجليل ناظم إنجاز تقرير حول الكتب والأطاريح التي اهتمت بالبيان. فعبر عمل المجموعات، التي تعمل كخلية نحل، كان اندهاشي، بل حيرتي كبيرة، وأنا أتلقى هذا الكم الهائل من المصادر والمراجع، عبر تقنية البحث الموضعي في البوابة الإلكترونية التابعة للكلية.
بدئيا، جل الكتب، إذا لم أقل كلها، تحمل في عمودها رقمين أساسين، الرقم الأول دال على المكون الأدبي (بلاغة، نحو، عروض، نصوص…). والثاني يشير إلى رقم طاولة المطالعة، وذلك مقابل وصل مختوم يتم الاحتفاظ به من طرف الطالب الباحث. يحمل ـ أي الوصل ـ بالإضافة إلى الرقمين؛ اسم الطالب، والشعبة التي ينتمي إليها. ففي قاعة المطالعة «حليمة فرحات» المؤرخة، التي تم تدشينها مؤخرا، تضم أحدث التقنيات التواصلية؛ بوابات إلكترونية مفتوحة نوافذها على الأطاريح والكتب والمصادر، وأيضا المراجع التي يكون الطالب بحاجة إليها في مسيرته العلمية؛ ما أعطى دفعة قوية للفعل الثقافي. وسعيا، نحو انفتاح المكتبة الجامعية، لكلية الآداب والعلوم الإنسانية في الرباط، على مختلف الفعاليات العلمية والثقافية، تم تشكيل لجن من الطلبة الباحثين، بهدف التبادل الثقافي الداخلي والخارجي. فالداخلي يعتمد على إهداءات كتب متنوعة مؤسساتية وفردية، تستفيد منها مكتبة الجامعة، كالكتب التي تتبرع بها المكتبة الوطنية لصالح البحث العلمي والطلبة الباحثين، الذين ينتمون إلى الجامعة بمختلف شعبها، فضلا عن تبرعات المثقفين، عبر التاريخ، بالأطاريح والصحف والجرائد، حتى أصبح ديدنا يضرب به المثل، كما فعل العلامة عبد الله كنون، عندما أهدى عشرات الآلاف من الصحف التي تصدر في العالم العربي للخزانة العامة في الرباط. وتم تحويلها، بعد ذلك، في دفعات، لصالح مكتبة الجامعة، وتضم أعدادا كثيرة من صحيفتي «نشيد الأمة» و»الزهراء» التونسيتين، و»النجاح» الجزائرية، علاوة على صحيفة «الجامعة العربية» التي كانت تصدر في القدس عن الهيئة العربية العليا لفلسطين… وغيرها من الصحف والجرائد الوازنة في المشهد الثقافي العربي.
أما الخارجي فيتعلق بالتبادل الثقافي الذي تمأسس بين الجامعات العربية وغير العربية، بهدف تجديد الصلات بالبحث العلمي، والانفتاح الثقافي الشامل.

٭ ٭ ٭

طبيعي، أن تختلف جل المجموعات حول طريقة كتابة التقرير عن هذه الكتب والأطاريح التي تهتم بعلم البلاغة. فهناك من نحا نحو المنهج التأويلي لهذا المكون الأساسي في التواصل الإنساني، واختاروا، كنموذج، كتاب «البلاغة والسلطة في المغرب» أحمد بن محمد بن يعقوب الولالي، لعبد الجليل ناظم، حيث ربط هذا الأخير مسألة البيان بالتأويل، ويأتي فعل القراءة كحلقة وصل بينهما ؛ لأن التأويل يبدأ فور شروعنا في تناول المقروء. وهناك من اعتمد، في كتابة هذا التقرير، على المنهج البنيوي، عبر تتبع ورصد الظاهرة البلاغية. وكان كتاب «الموازنات الصوتية في الرؤية البلاغية» نحو تاريخ جديد للبلاغة العربية لمحمد العمري، المؤلف الذي جسد الدراسة البنيوية في طابعها العام، حيث تم الكشف في التقرير بنية البلاغة عن طريق موقع الموازنة الصوتية، التي تتحدد بالمقارنة العامة والخاصة لمواقع العناصر الأخرى المشتركة في تكوين الخطاب الشعري. بينما سكن آخرون إلى الفعل الاستقرائي الأفقي للكتب البلاغية بمزية تعميم الفائدة.

فالمكتبة الجامعية طريق معبد نحو معانقة العلم والمعرفة وتداولاتها، فهي صمام أمان في التكوين الثقافي، وإطلالة شاهقة من عل على علم جديد يعج بالمتناقضات المعرفية، غير أنه يساهم في انفتاح الطالب على تجارب أخرى بعطائها الفكري والثقافي، وتخلق منه إنسانا آخر مزودا بسلاح المعرفة والعلم.

وفي هذا كله، لم أجد نفسي وذاتي، إلا عبر مصفوفة مغايرة تماما؛ لأنني قارنت بين الوصف والسرد والتقرير. فمن الطبيعي أن يجيء تقريري بفاصل غير مألوف، والعلة في ذلك تشبعي المطلق بفنون القول والحكي والسرد. اعتمدت على وصف فضاء المكتبة والباحة التي تتنفس منها هواء عليلا، فضلا عن قاعة المطالعة، التي تبدو كبؤرة، تتفجر فيها سيول العلم والمعرفة، علاوة على الصمت المطبق داخل القاعة جراء التركيز المطلق، من طرف الطلاب، على المقروء. ثم عرجت على السلوك الحضاري المميز الذي تتعامل به القيّمات على المكتبة الجامعية، وهن يرفلن في لباسهن الأنيق، وروائح عطرهن الساخن يعبق به هذا الفضاء الطاهر. وبعدها تناولت أطروحة سعيد الحنصالي «الاستعارات والشعر العربي الحديث» كان هذا الكتاب، بالنسبة لي، أول لقاء فعلي وماتع بمكون الاستعارة في البلاغة والأدب، ليس كتلك التي تملأ الكتب المدرسية ضجيجا، وتبقى حبيسة التركيب اللغوي، وإنما هي استعارة بها نحيا. فتفتحت بصيرتي الأدبية على مجموعة من المراجع، التي اعتمدها الحنصالي في أطروحته الجامعية، التي كانت في ما بعد نبراسا يضيء لي شعاب الأدب. فالمزية ليست في الحفر التي تخلفها الاستعارة وراءها، وهي حبيسة الرفوف والحجرات، وإنما المزية تتحدد في طبيعة العلاقة التي تجمع الفرد وعالمه الداخلي والخارجي.
ليأتي بعد ذلك كتاب لايكوف وجونسون «الاستعارات التي نحيا بها» الذي ترجمه إلى العربية عبد المجيد الجحفة. فبواسطته ـ أي الكتاب ـ تم توسيع تداول هذا المكون الأساس في حياتي، وفي حياة الناس. فلولا الاستعارة، حسب رومان جاكبسون، ما تمكن الإنسان من تطوير فنون التصوير و السينغرافيا، والبث المباشر على الشاشات العملاقة، وتغيير زوايا وأبعاد التقاط صور المشاهدة لأهم أفلام الفن السابع. ولولاها أيضا ما ملأت أفلام تشارلي شابلن الدنيا وشغلت الناس؛ لأنها تعتمد على البناء الاستعاري للمشاهدة عن طريق المشابهة، وتبادل الصور المتطابقة، وأخيرا ما استمتع الأطفال بسلسلتهم المفضلة «شان دي شيب» التي غزت كل البيوت، وتعرض في القنوات الفضائية العالمية. فالمزية تتمثل في استبدال وحدات دلالية بأخرى عن طريق المجاز الذي يعتمد على المشابهة والمطابقة.
فالمكتبة الجامعية طريق معبد نحو معانقة العلم والمعرفة وتداولاتها، فهي صمام أمان في التكوين الثقافي، وإطلالة شاهقة من عل على علم جديد يعج بالمتناقضات المعرفية، غير أنه يساهم في انفتاح الطالب على تجارب أخرى بعطائها الفكري والثقافي، وتخلق منه إنسانا آخر مزودا بسلاح المعرفة والعلم.

كاتب مغربي

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية