ممالك الكتب القديمة

في سنة من السنوات، كنت أبحث عن كتاب «حرب النهر» الذي ألفه ونستون تشرشل، رئيس الوزراء البريطاني القديم، عن الثورة المهدية في السودان، وكان مراسلا حربيا لصحيفة بريطانية كما أعرف. وقد كتب فيه وصفا كاملا ودقيقا للذي كان يحدث آنذاك، مع نفحات شاعرية عظيمة، وجمل رنانة تتحدث عن الموت والحياة وقوة المعتقد، لدى أتباع المهدي، بالرغم من انهزام الثورة بعد ذلك في عهد الخليفة عبد الله.
لم أكن قرأت ذلك الكتاب بعد، ولكن سمعت عنه، وقرأت عنه مراجعات قليلة، ووظف بعض كتاب الرواية في السودان، شيئا من أجوائه في أعمال لهم، كما حدثني عنه الصديق الروائي الإماراتي عبيد بوملحة، بافتتان.
كان البحث مضنيا، وقضيت إجازة كاملة، وأنا أبحث عند أصدقاء اشتهروا بغنى مكتباتهم واحتفائها بالقديم والجديد، وفي بسطات للكتب المستعملة في الخرطوم، خاصة الأماكن التي يتردد عليها المثقفون والقراء الطموحون، بلا جدوى. وفي إحدى المرات وقد أوشكت إجازتي على الانتهاء، أخبرني أحدهم بأن عليّ الذهاب إلى ناصر، إنه هناك في سوق أمدرمان، ويمكنك أن تعثر على أي ورقة كتبت وطبعت عنده، وإن لم تعثر عليه، فلا جدوى من البحث في مكان آخر.
السؤال عن ناصر في سوق أمدرمان في حد ذاته كان بلا إرشاد كبير، فالسوق القديمة المتهالكة، وسط الحفر والمياه الراكدة، غاصة بالمتاجر والنشاطات المتعددة، وفيها تنوع قد لا يوجد في أي سوق عربية أخرى. إنها سوق مثالية لشراء المنتجات المحلية من ثمار الأشجار الخشنة كالدوم والتبلدي والقضيم، والطواقي الملونة المنسوجة يدويا، والأحذية المفصلة من جلود الحيوانات والزواحف المختلفة، وفيها صياغ، وباعة إلكترونيات، وباعة أقمشة لكل المناسبات، وباعة جلابيب بلدية، وفيها صيدليات معروفة بقدمها في مجال بيع الدواء، وغالبا تجد فيها علاجات تكون دخت من أجل العثور عليها.
كل ذلك كان موجودا وبكثرة، لكن لا أحد يعرف ناصر بائع الكتب القديمة، وذلك لسبب بسيط جدا، أن تجارة الكتب سواء أن كانت قديمة أو جديدة، غير مهمة، ولا تأتي بربح طيب، والناس الهائمون في السوق بتلك الأعداد الكبيرة، قد لا يكونوا سمعوا بأبي الطيب المتنبي أو طه حسين أو أبي تمام حتى.
كان محل ناصر عبارة عن كشك ليس كبيرا وليس صغيرا أيضا، في مكان ما وسط السوق، وبجانبه عدد من الأكشاك الأخرى التي تبيع السجائر، والبسكويت، والعطور المستهلكة. وكان ناصر موجودا، في المكان، ليس لديه أحد، ويحمل منفضة من الريش، يعارك بها الغبار المتراكم على الكتب. إنه في منتصف العمر، ملامحه جادة بعض الشيء، ولا يبدو بائعا للكتب القديمة، كان أقرب إلى رجال الشرطة أو الجيش، كما بدا لي. حييته باحترام يليق برجل يوفر المواد النادرة، كما أخبرني صديقي، ورد باحترام أكثر. سألته عن تجارته، وهل هي تجارة جيدة وسط ذلك الطوفان من السلع الاستهلاكية، قال: طبعا، هناك كتب نادرة يبحث عنها الناس ويدفعون فيها الكثير.
كنت أحدثه، وعيناي تتجولان في رفوفه التي خلت من الغبار، وتنزحان إلى الأركان البعيدة، التي ما زالت مغبرة، بحثا عن كتابي الذي جئت من أجله. لم أكن أريد أن أبدو باحثا عن كتاب نادر، حتى لا يبالغ الرجل في سعره، وأردت أن يكون الأمر مصادفة أنني مررت بمحله أثناء تجوالي في السوق. لكن النظرات الفاحصة، لواحد اعتاد ملاقاة الغرباء الباحثين عن الغرابة، التقطتني. لقد فاجأني حقيقة، حين دس يده في أحد الرفوف، وأخرج نسخة غلافها ممزق من رواية «أرض السودان – الحلو والمر» التي كتبتها، منذ سنوات عن شاب إنكليزي قام برحلة استكشافية للسودان. قال وقد تبدلت جديته إلى ابتسامة: اكتب لي إهداء عليها، لو سمحت، وسأخفض لك من سعر كتاب «حرب النهر» الذي جئت تبحث عنه، ولدي كتب كثيرة، قطعا تريدها.
نعم الكتب القديمة ممالك كما بدا لي الأمر في تلك اللحظة، ممالك لها حراسها وملوكها، ولها أعين تتلصص لتحميها، كان الرجل يعرفني، ويعرف أنني أبحث عنه، وأنني سآتي إليه، فجهز روايتي كفخ مبهج لي، ومدّ يده الأخرى، أحضر لي من تحت الكتب، ما جئت أبحث عنه.
ما حيرني أنني لم أهتد إليه بسهولة، ولم يعرفه كثيرون سألتهم، والرجل الذي أرشدني إليه، قال إنه يجهل مكانه، ولا يعرف رقم هاتفه، وبالرغم من ذلك كان الرجل في انتظاري.
أخذت الكتاب، وكتبا أخرى في التاريخ السوداني أحتاجها في عملي الكتابي، وفيها الكثير من المتعة، وتوفير خامات الكتابة كما أسميها، من بينها كتاب «حياتي» في جزئين للراحل بابكر بدري، رائد تعليم البنات، وكان سيرة ذاتية جريئة، لم أتوقع ما قرأته فيها من ذكريات لا تروى في السير العربية أبدا. وأيضا كتاب «تاريخ السودان» الضخم لسلاطين باشا، وكنوز أخرى بديعة، وخرجت من عنده مزهوا بما غنمته، ولم ألتفت لما دفعته في تلك الكنوز.
الآن وقد اندلعت في بلادنا حرب عبثية غبية، غير منصفة، قضت ليس على الأخضر واليابس فقط، ولكن اخترعت يابسا آخر قضت عليه أيضا، وضاعت سوق أمدرمان مع القيم والمفاهيم الكثيرة، والعلامات المبجلة التي ضاعت، قطعا لم يتسن لواحد مثل ناصر وقت لينقذ كنوزه من الاحتراق بتلك النيران الغادرة. أعتقد أن كشكه بلا وجود الآن، وكل أكشاك البيع الأخرى غير موجودة، والبلاد كلها في قبضة اللاوجود، ما لم تحدث معجزة، ويعود شيء ما.
*كاتب من السودان

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية