في تضادّ صارخٍ مع أفعال الشعراء الذين كانوا خزياً على الإنسانية في المجزرة السورية المفتوحة على ما لا يمكن تصوّره من هول، سواء بمشاركتهم لمرتكبي هذه المجزرة بالتغطية، أو السكوت عنها، يفتح الشاعر الأردني أمجد ناصر، بانكشافٍ رائع ومروّع، أبوابَ الجحيم، في مجموعته الشعرية الأخيرة التي توّجت نهاية حياته باعتزاز: “مملكة آدم”. وهو يتجاوز التعاطف الإنساني البسيط مع الضحايا إلى تمثّلهم كواحدٍ منهم، وإلى وضع الإنسانية أمام مرآة أنيابها من خلالهم، في مملكة آدم الذي يثير سخرية إنزاله لإعمار الأرض، وصفْع هذه الإنسانية بوضع لحوم الضحايا في أطباق موائد الذين يشهدون المجزرة على شاشات التلفزة ويخفون خزيهم بصنوف التبرير:
“لقد رأيتموهم يطيرون بلا أجنحةٍ، لأنَّ السكاكينَ تفضِّلُ الأعضاءَ المنفردة. سهلٌ عليها أن تقطعَ اليدَ أو القدم، أو تحزَّ الحنجرةَ، أو تبقرَ البطنَ من أن تصلَ إلى مصدر الأنين الذي يدلُّ على أنَّ هذه المخلوقاتِ، التي تقطَّعتْ أوصالُها كانت، في الأصل، تمشي على قائمتين. كانت لها يدان تصافحان وتحتجّانِ، وربما كانتا قادرتين على العناق. لا تكذبوا، كلُكُم رأيتموهم. كنتم تتحلقون حول مائدة الطعام فأزعجكَم انعدامُ لياقةِ الذين يرسلون إليكم هذه الأعضاءَ المنزوعةَ من سياقها، خَفَضْتُم رؤوسَكم بدعوى الانحناء أمام الدمِّ المسفوكِ بينما خشيتمْ أن تفسدَ الصرخاتُ والأشلاءُ والقيءُ والدمُ النافرُ من الشرايين شهيتَكم”.
في “مملكة آدم”، على مستوى تأثيرات القراءة، لا يسع القارئ أن يمرّ كسائحٍ دون أن يرى محل بيع اللحوم الساحر في انعكاسات محتوياته، ولا يمكنه تجنّب الاقتراب لرؤية المعلّق على خطّافاته، والمصفوف على طاولاته، كما لا يمكنه تجنّب ما سيعتري قلبه من رعب، لرؤيته أنّ المعلّق والمصفوف هو لحم ورؤوس أطفال، وسط ضحكات البائع الذي يكشف أيضاً عن أسنان زومبي.
ولا يخفي هذا الرعب الذي يطلقه المعنى، تمتّع القارئ بجماليات شكل قصيدة النثر المتألّقة بروح هذا الشاعر الذي لم يختم حياته المنحازة لقيم الحرية والعدالة بصرخة عدالة مدوّية يتردد صداها في مملكة الإنسان التي نخرها الفساد والاستبداد فحسب، بل أيضاً بصرخة شكلٍ جمالي مركّب البنية واللغة والإيقاع ومتنوّع الخطابات، في تجربة شائكة قلّ ما تنجح فيها قصيدةٌ تحمل موضوعاً كبيراً معقداً كالدخول إلى الجحيم، بتوفير مستلزماته الشعرية الفنية، بأكثر الأشكال حداثة.
وفي “مملكة آدم” على مستوى وضعه الإنسان أمام مرآة ذاته، فيما فعل ويفعل بأرضه وبني جنسه، يصيغُ أمجد ناصر قصيدةً واحدة، بموضوع يتشابه مع فعل زيارة الجحيم التي قام بها قبله أبو العلاء المعرّي في “رسالة الغفران”، ودانتي أليغييري في القسم الأول من “الكوميديا الإلهية” المعنون بالجحيم. هنالك أيضاً اختلاف إنزال الجحيم من ميتافيزيقية الدين التي تضعه كمكان لعقاب البشر الخاطئين من قبل الإله في السماء، إلى كون الجحيم هو الأرض نفسها وما يفعل الإنسان ببني جنسه فيها من مجازر. المأساة السورية تتدفق تفاصيلها على طول تدفّق جريان القصيدة، بدءاً من تجسّد الشاعر بالضحايا، كميت حيّ بفعل غاز السارين، مروراً بخطابه للأب باولو دالوليو، وذِكْرِه للمغني الذي جزّ جلاوزة النظام السوري حنجرته في إشارة للقاشوش، ووصْفِه المرعب للنهار الأبيض الذي شهدَ صفّ الضحايا السوريين المختنقين بغاز السارين مقمّطين بأكفانهم، ووصْفِه للجزارين وصنوف مجازرهم عند طلب رؤيته لله:
“قولوا له إني أريد أن أراه./ أريد أن أقول له إني قادمٌ من مملكة مخلوقه آدم حيث صارت الكلمةُ للزومبيين،/ مصّاصي الدماء،/ أكَلة لحوم البشر،/ هاتكي الأعراض،/ مغتصبي الصبية الصغار،/ رجالِ الخازوق والكراسي الكهربائية،/ محوْلي القرودَ إلى بشرٍ والعكس، /عاقّي آبائهم وأمهاتهم،/ الذين يقطعون الرؤوس كدرسٍ سريعٍ في التشريح،/ خَزَنةِ البراميل المعبأة بـ التي إن تيْ والمسامير وأنصال السكاكين.. وغيرهم وغيرهم”.
هذا رغم ورود اسم سورية مرة واحدة في الجزء الخامس من القصيدة في خطاب الشاعر لذاته، كـ “اسم نطقْتَه بعربيةٍ سوريّةٍ فصحى/ النور”.
وفي بلورة موضوعه بزيارة الجحيم، يتماشى أمجد ناصر مع التراث الإسلامي في تصوير جهنّم من سبع طبقات، على غير تصوير دانتي لها بتسع طبقات، لكنه يصنفها أيضاً وفقاً لرؤيته، ويضيف للطبقة السابعة قاعاً هو الأشد ظلاماً، “حيث يتمدد ليل الليل مطعوناً بالبروق والصواعق”، وفي هذا القاع يرى وجوه الشعراء المألوفة له، في أجساد خراتيت، وحيدي قرن، فقمات، فيلة، تماسيح. ويصنّف أمجد في هذا أسبابَ حشرهم، وطرقَ تعذيبهم على جرائمهم، ويضيفُ معهم في قاع الحشر هذا: الرجل الزرافة الذي “كان الزبانية يجزّون رأسه ويتقاذفونه من وادي الأفاعي إلى وادي العقارب، ثم ينبت له رأس جديد فيعيدون جزَّه وتقاذفه بلا توقف”. ويستطيع القارئ تكهّن أسماء بعض الشعراء المحشورين أو اسم الرجل الزرافة، لكنّ هذه الأسماء لا تُنقص ارتقاء المحشورين إلى نماذج إنسانية فنية تتخطّى إخفاقات التحديد.
في خلقِ تناغمات شكله مع هذا الموضوع، يقسم أمجد ناصر بنية قصيدته الطويلة تماشياً مع طبقات جحيمه السبع إلى سبعة أجزاء مرقّمة باللاتينية، يقدّمها بنصّ عن طبيعة نفسه كإنسان فانٍ كان يوماً: “الصوت المرتد بآياته الضالة إلى الدواخل والشروخ”. ويضمّنها في الجماليات الشعرية الأخاذة معاني رؤيته عن مملكة آدم على التوالي:
1 ـ الحيّ الميت بين ضحايا البراميل المتفجرة وغاز السارين.
2 – تجربته في الدخول حياً مع الجثث إلى الجحيم، وطلب مقابلة الله الذي: “لست متأكداً أنه على علمٍ بما يجري، أو ربما نسينا فمن نحن في كونه اللانهائي”.
3 – عرضه اللحم البشري على الموائد، و”رسالة اللاغفران” التي عكستها تحت هذا العنوان مقدمة الناقد السوري صبحي حديدي للمجموعة ضمن دراسة معانيها وجمالياتها: “لا تغفر لهم يا أبتِ/ لأنهم يعلمون ما كانوا يفعلون”.
4 – عرضه الضحايا السوريين كنموذج صارخ عما فعله الإنسان بما نزل ليخلف الله فيه، بمثال القاشوش، المغنّي الذي جزوا حنجرته واحتار: “ماذا أفعلُ بها الآن بعد استئصاُلها وتفريغُها من الضحكات والأغاني. لقد رموها بين الأشجار فالتقطها طائرٌ وجاء بها إليَّ. لا أعرفُ حتى إن كانت حنجرتي، فلا شيءَ يميّزُها سوى ذلك المجرى الذي سالتْ فيه أغنيةُ جعلتُ فيها إلهاً تركع له المسوخ، وتجرّ غيرها كتمرين على مسخرةً على كلِّ لسان”. مع عرض جزاريهم: “الذين يأكلون بيدٍ ويعدّونَ الذبائحَ بأخرى ويشهقونَ ويزفرون كأفضل ما وصلت إليه اللبونياتُ من تطوِّر”.
5 – عرضه الجحيم على الأرض من خلال خطابه للأب الإيطالي باولو دالوليو الذي انحاز إلى الثورة السورية: “قد تفكِّر أنك في الآخرة،/ وهذا خطأٌ/ فأنت لا تزال في الحياة الدنيا/ ولكن تشابهتْ عليك الصور،/ سترى سماءً خفيضةً/ تتساقطُ منها البراميل بدل الأمطار/ فلا ماء لهذه الأرض المُشَقِّقة من العطش”. وعرضه لنفسه كـ: “صوت من الصحراء، نبيّ من دون ديانة ولا أتباع”، في نزع ميتافيزيقية النبوة، وإنزال أساطير الإنسان إلى واقعية الأرضي.
6 – عرضه لطبقات الجحيم، وأشكال عقاب الشعراء.
7 – ختامه لرحلته، ووصف حاله كذئب بين الذئاب، ولكن، بأسنان الحليب: “التي ربتها أمي بالنذور والصلوات”.
ويمكن للقارئ ملاحظة صياغة الشاعر لهذه الأجزاء باستقلالية كل جزء بذاته، مع وحدة الأجزاء كقصيدة متوحدة كما جحيمها وطبقاته.
داخل البنية العميقة لمملكة آدم، تنبض القصيدة وسط الموت الذي تجسّد أشكاله المهولة، بحياةِ جماليات قصيدة نثر ما بعد الحداثة، التي يستخدم فيها أمجد ناصر تقنيّات السرد القصصي الشعري، والمسرحة التي تستدعي خطاب العرافة الذي يُذكّر بمن نزلوا كهوف العالم السفلي بتاريخ الآداب الإنسانية، الإغريقية على وجه الخصوص، وخطاب الجوقة الذي يتردد مع نذير العرافة، وتنوّع الخطاب من الذات إلى الآخر وفق ما تقتضيه تراجيديات القصيدة. ويفعل أمجد ناصر ذلك بلغته الراقية المتناغمة مع الموضوعات، وبتنوّع إيقاعات السّرد الشعري من الطويلة التي تستقر كنص متتابع إلى القصيرة التي تشدّ الأسطر بجمل وكلمات قد تقتصر على واحدة نابضة.
مملكة آدم، قصيدة مدروسة ناصعة، قاسيةٌ وحنونةٌ، موحية وقارعة.
أمجد ناصر: “مملكة آدم“
منشورات المتوسط، ميلانو 2019
82 صفحة.