من المميزات المهمة للثورة السودانية، التي اندلعت في الأيام الأخيرة، وأسقطت نظاما كان يعد راسخا حتى عهد قريب، كما يقول مؤسسوه، وكما تقول الحسابات التي أبقته ثلاثين عاما، تحكم فيها في كل شيء في السودان، من مميزات تلك الثورة، أنها أعادت للمجتمع كثيرا من الإيجابيات التي كانت سائدة في الأزمنة الماضية، أو الأزمنة الجميلة كما نسميها دائما، وأعني هنا التماسك والوحدة بين الناس، والفزع لنصرة المحتاج، وكل تلك الإيجابيات التي اختفت مع بروز واستعارة أدبيات أخرى، مثل الجشع والأنانية، وعادات جديدة لم يكن يعرفها المجتمع السوداني.
حقيقة كان عهد الإنقاذ، هو عهد الدولة التي تركت لتصبح عميقة بهذا الشكل، وممعنة في العمق وطاردة لكل خصومها، وترتب على ذلك أن اختفت كما قلت أشياء كانت تميز المجتمع السوداني عن غيره، أو لنقل تهالكت تلك السمات تحت ثقل الفقر، وانعدام الموارد، ووصول الأمر في الأيام الأخيرة إلى انعدام حتى الحق، الذي يملكه الناس، ولكن لا يستطيعون الحصول عليه، مثل أن تكون لديك نقود كثيرة في حساب بنكي، ولا تستطيع أن تسحب قرشا واحدا، فالنقود ليست لك ولا لغيرك من الذين يصطفون ساعات من أجل الحصول على رواتبهم، ولا يحصلون على شيء في النهاية.
في الماضي ومهما صعبت الحياة، كنت لا تدخل بيتا وتخرج منه بلا ابتسامة في وجهك أو لقمة تسد جوعك إن كنت جائعا، أو تجد من يوصلك إلى حيث تريد، إن كانت ثمة سيارة متوفرة في البيت، من دون أي إحساس بأنه يقدم خدمة، وقد قضينا الكثير من زمن شبابنا المبكر في توصيل زورانا الذين يسكنون في الأحياء البعيدة، في كل زيارة لنا، وكانت الزيارات كثيرة، بحكم أننا كنا نسكن بجوار المستشفى الكبير في مدينة بورتسودان، وكانت زيارة المستشفى عادة متأصلة لدى الناس، والمريض يختنق من كثرة زواره، هذا أيضا يذكرني بأننا كنا مكلفين بحمل الطعام البيتي للمرضى الراقدين من الأهل، بشكل يومي، حتى لو رقدوا أشهرا، وقد ذكرت في سيرتي المبكرة «مرايا ساحلية»، التي كتبتها عن بورتسودان في فترة الطفولة والشباب، كيف كان جوار المستشفى مرهقا وكئيبا وضارا بمدخرات العائلة، لكن لا أحد يفكر في ذلك، كان كل شيء يؤدى بابتسامة وعن طيب خاطر.
يحس الناس حاليا بالجمال والنشوة، وأنهم قريبون من إرثهم القديم، قريبون من أجدادهم الذين قاوموا المستعمر، والذين قاوموا صعوبة العيش وعاشوا ليبنوا وطنا جيدا، اختفى معنويا سنوات طويلة وأعيد، وسيرمم من جديد.
الثورة جاءت بأدبياتها العديدة، جاءت بلغتها الخاصة، واستدعت حسنات الزمن القديم، وترى كيف كان الشباب يساعدون بعضهم أثناء المظاهرات، كيف يهتفون بصوت واحد، هو الصوت الذي لم يتعمد أحد صياغته، لكنه صاغ نفسه بنفسه، وكيف تستطيع وأنت معتصم أمام قيادة الجيش، أن تأكل وتشرب وتحصل على الحماية من قوات هي في النهاية أهلك الذين عادوا إلى صوابهم، واستيقظوا ليكونوا حماة لك وللوطن، وعندي رأي في مسألة الجيش الذي يتحسس كثيرا من الناس من نواياه، وبعضهم يظن أنه خلق لخنق الأوطان، والحقيقة الجيش يتحمل عبئا كبيرا في حماية الوطن، إن استدعى الأمر ذلك، ويعيش أفراده أياما حالكة في الحروب والحاميات البعيدة عن المدن الآهلة، وأذكر أنني حين عملت في الحدود الإريترية، اختلطت بعسكريين يعملون في حرس الحدود، وكانوا مواطنين صادقين، ويمكن الاعتماد عليهم. صحيح يوجد دائما مغامرون يتطلعون بنهم للسلطة، ولكن هؤلاء المغامرين موجودون حتى في الحياة المدنية، ومنهم من يأتي ممطيا ظهر مغامر عسكري. عموما، يحس الناس حاليا بالجمال والنشوة، وأنهم قريبون من إرثهم القديم، قريبون من أجدادهم الذين قاوموا المستعمر، والذين قاوموا صعوبة العيش وعاشوا ليبنوا وطنا جيدا، اختفى معنويا سنوات طويلة وأعيد، وسيرمم من جديد.
أيضا عرف الناس لأول مرة حين تعرفوا إلى الشابة آلاء صلاح، الأيقونة كما عرفت بعد ذلك، أن لدينا في التراث نساء قويات ومتمكنات، لدينا كنداكات قديمات، أعادت الفتيات المعاصرات سيرتهن إلى الوجود، لدينا رجال فتحوا البلاد البعيدة، بجيوش وصبر، ولدينا أغنيات تمجدنا كشعب، كانت المحلية تخفيها عن العالم، لتلمع بلمعان الأيام الماضية، ولطالما كان انغماسنا في محليتنا رغم كونه أصالة، إلا أنه يخفي ذلك الكم الهائل من الإبداع لدى شعبنا، ولو نظرنا فقط لغناء الحكامات، أو النساء الممجدات للمجتمع ورموزه، أحياء وأمواتا، لعثرنا على كثير من الصفات، والاستعارات والتشبيهات، ربما أكثر غنى مما يوجد في أي شعر مماثل.
ولو أحصينا عدد الشخصيات التي لعبت دورا في الحياة المدنية، لعثرنا أيضا على شخوص يمكن كتابتها في أعمال ملحمية، فقط تكمن الصعوبة في عدم وجود مصادر كثيرة، ومعظم ما نعرفه، نجده شفاهيا تمت روايته من جيل لجيل. وأظن أن الإنكليز وثقوا لبعض الأشياء، وتوجد في كتب صيغت بلغتهم، لكن لم تترجم مع الأسف، أو ترجم بعضها مثل كتاب «حكايات كنتربري»، الذي يتحدث فيه كل مسؤول عمل في السودان عن موقف صادفه، ونستطيع من خلال الكتاب أن نتعرف إلى شيء من سمات الحياة آنذاك.
بالنسبة للتكاتف الذي ذكرته، فقد كنت أرى العربات المحملة بالماء والطعام، تأتي من حيث لا يعلم أحد، أرى آنية تلقى فيها النقود لإعانة من يحتاج ولا أحد يأخذ منها، أرى مستقبلا مستمدا من الماضي البعيد جدا، وليس الذي عشناه، في الفترة الماضية وجفت فيه الحياة كثيرا.
٭ كاتب سوداني
استاذي واخي امير : انا من المتابعين لطروحاتك الادبية ولكن من المقلين بالردود والتعقيبات لمقالاتك!!
بقرائتي لمقالتك هذه, اثرت بي الشجن لزمنٍ غَبَر ولحدثٍ عَبَر, وتمازج الزمان والمكان بوصفٍ شيق واسلوبٍ لبق, شعرت وأنت توصف الرجال السودانيين في بورتسودان وطيبتهم, شعرت وكأنك تتحدث عن طيبة العسفاويون(نسبةً الى عسفيا احدى بلدات جبل الكرمل من فلسطين) احسست وانا منساب مع طراوة وحلاوة وصفكم,كأنك تروي قصة جدي وحكاية والدي, تخيلتُ انك انت اخي الذي هو من ينفخ في مشاهيب نار قدرتنا لاطعام زائر حل بغير ميعاد؟!!
واخيرًا نأمل للشعب السوداني نيل حريته لتشمل بطيبته جميع السودانيون ,واخيرًا لا بد من اسماع صرختي كفردٍ مستضعف لعل بذلك اوصلها لكل المستضعفين من اجل تحريرهم ونيل حقوقهم والسلام.
لك التحيه استاذ أمير وانت من وجوه بلادي المشرقه في المهاجر نسأل الله يرد غربتكم لتساهمو في بناء الوطن وتعزيز القيم والتراث الحضاري السوداني الجميل التي كبت منذ الاستقلال
كل ماتطرقت اليه في مقالك هذا يااستاذ يشبه لحد كبير عادات وتقاليد الشعب الصحراوي الذي يتعرض بدوره للاحتلال المغربي الغاشم .