تشغل المنامات في الثقافة الإسلامية حيّزاً مُهمّاً من حياة الناس، وأكثرهم يتعامل معها بجدّية، خصوصاً تلك التي يرونها في خضمّ الأزمات الشّخصية والعامّة الكبيرة، وفي حالات محفوفة بالخطورة بنسبة عالية، وأشهر مفسّري الأحلام من المسلمين هو ابن سيرين.
احتلت المنامات في حرب الإبادة الحاليّة مكانة هامة جداً، نتيجة للخلفية الثقافية الدينية التي تسود بنسبة عالية جداً بين أهالي قطاع غزة، حيث البيئة متفهمة ومتداوِلة للمنامات وتفسيرها والتعامل الجدّي معها، بحيث لا تستطيع أن تتحدث عن الحياة في ظل الحرب وضحاياها وأحداثها من دون التطرّق إلى هذا الموضوع الهام.
في حديث للرسول (ص): «إذا رأى أحدكم رؤيا تسرّه فإنما هي من الله تعالى فليحمد الله عليها وليحدّث بها، فإن رأى غير ذلك مما يكره فإنما هي من الشيطان فليستعذ من شرّها ولا يذكرها لأحدٍ لأنّها لا تضرّه». وهنالك من يتعوّذ ويتفل ثلاث مرات على شِماله.
منامات أهل غزّة ومن يهمّه أمرهم وتفسيراتها، موضوعٌ يستحق البحث والدّراسة، لما لهذا من أهمية أسهمت وتُسهم في التكوين النفسي للناس وشخصياتهم، وبالتالي فهمهم للأمور وردود فعلهم لما يجري لهم ومن حولِهم.
في مثل هذه الظروف غير المسبوقة، حيث يعيش الناس مع الموت وإلى جانبه ويرَوْنه مارّاً من أمام أعينهم، إلى جانب ما يرونه من مقاومة وتضحيات غير مسبوقة، تصبحُ للرؤيا مكانتها الهامة أكثر من الأيام العادية وحالات السِّلم، خصوصاً إذا رآها إنسان معروف بصدقه وتقواه، سواء أكان خيراً أم شراً، إلا أنّ المنام المُريح يمنح الناس أملاً في الخلاص من الجحيم الذي يعيشون في أتونه لحظةً فلحظة.
بعضهم يتفاءل بانتصار المقاومة من خلال رؤيا طيّبة رآها هو، أو رآها آخر قد صار شهيداً، أو عن رؤية شهيدٍ مستبشر ضاحك، مما يخفف من آلام الفقد، ونزعه من المادّية الصّرفة لما يجري من دمار وقتل وتشريد.
يصبح الحديث عن الجنّة، وما فيها من مُتَع وجمال، وشفاعة الشَّهيد لسبعين من أهله، الموضوع والمكان الموازي للمعاناة الأرضية المادّية، والعكس صحيح، فالبعض يتشاءَم، إحداهن كتبت عن رؤيا كانت قد كتمتها، وقد رأتها تتحقّق، عندما أصر والدها على أن يوصلها إلى بيتها في الليل، ولم يسمح لها بالبقاء في بيته، وهو يقول، لا أريد أن نبقى كلّنا في مكانٍ واحد، ومنحَها ما معه من نقود، وكان تصرَّفه يرعبها، لأنّه كان يطبّق ما رأته في منامها قبل هذا بيوم، وقد تحققت بقية المنام، بأنّ قُصف بيت ذويها، ومات كل من كانوا فيه بمن فيهم والدها.
ما دفعني لكتابة هذا الموضوع هو طفلٌ في إحدى وسائل التواصل، ربّما في السّابعة أو الثامنة من عمره، يحكي لوالدته بأنّه رأى الرّسول يسقي بكفيه والده الشّهيد العسل والماء الزلال، وتسأله والدته.. هل كان والده سعيداً، فيرد الطفل وهو مرتاح ومطمئن، كان مرتاحاً ويشرب عسلاً وماء من يد الرسول، وسقاني منه، وكان يشبهني وشعره مثل شعري وعيناه واسعتان مثل عينيّ.
هذا ذكّرني بطفل منذ سنين بعيدة سألته ماذا يشتغل والده، فردّ وهو مبتسم: «والدي في الجنّة».
علاقة الإنسان بالأحلام قديمة جداً، ومنذ صار يدرك أنّه رأى مناماً، حاول تفسير أحلامه منذ الحضارات القديمة المختلفة، ومنها ما كان يجعل الرائي يتصرّف بسلوك مختلفٍ عما كان قبل الرؤيا التي تأتي كتحذير أو بُشرى ينتظرها.
وأكثر ملوك الأزمنة القديمة كانوا يتّخذون مفسراً خاصاً لأحلامهم. (بعض المعاصرين يذهبون إلى العرّافين، وهذا موضوع آخر تستنكره العقيدة).
حاول العِلم الحديث أن يجد تفسيرات قاطعة للأحلام، أهمها أو أكثرها شهرة تفسيرات العالم النفسي سيجموند فرويد، الذي تختلف تفسيراته المستندة إلى البحث العلمي عن التفسيرات الدينية، سواء الأوروبية أو العربية الإسلامية، فهو رأى أنّ الأحلام انعكاس لرغبات العقل اللاواعي للإنسان.
تختلف الرؤيا باختلاف ثقافة الإنسان نفسه وباختلاف المحيط الثقافي الذي يعيشُ فيه، في الثقافة الإسلامية إنّ إبراهيم الخليل أراد أن يَذبح ابنه إسماعيل، ولهذا يأتي تفسير ابن سيرين بأنّ من رأى أنّه يُذبح، فهو يُظلمُ، وتختلف رؤيا الفرح والحزن وغيرها من شعب وثقافة إلى أخرى، وكذلك لأدوات العمل والمنزل وغيرها من تفسيرات كلّها نابعة من ثقافة المجتمع، مثل الصداقة والإيمان والشّرف أو الانحراف الأخلاقي والنّميمة والتّجارة والربح والخسارة ومكانة المرأة وغيرها.
ذُكرت المنامات في القرآن الكريم عدّة مرّات، في سورة يوسف، وفي سورة الإسراء، وفي سورة الصّافات، وفي سورة الفتح.
هكذا نحن نعيش حياة مزدوجة، جزءٌ منها حقيقي وواقعي ومادي ملموس، ولكنّه يصبح كالحلم بعد مروره، وبعضها لا ندركه بالحواس إنّما بالحَدس، مثل المنامات والتخيلات، التي تتساوى مع كان واقعاً قد مضى، ففي المنام، يمكن أن تشعر حقيقة بفرح أو لذّة تتمنى استمرارها ولا تختلف عن متعة مادية ملموسة، في يوم ما عُدت مريضاً مُسناً، ورأيته فَرحاً مبتسماً، وتوقعت أن هذا بتأثير الأدوية، ولكنه أخبرني «لقد رأيت امرأة غاية في الجمال، وما أفرحني أنني كنت قادراً على مضاجعتها وهممتُ بذلك، وحينئذ استفقت، أغمضت عينيّ وحاولت الاستمرار في المنام ولكن عبثاً، هربت منّي. كان المُسن فرِحاً لشعوره بأنّه قادر على فعل ذلك، كأنه حقيقي رغم أنها كانت آخر أيامه».
قد يكون التفسير العلمي لهذا هو أنّ مصدر اللذة والألم هو الدّماغ، فأحدهم قد يشعر بأنّ ظاهر يده يرعاه، ولكنه لا يستطيع أن يحكّه، لأنّ يده مقطوعة أصلاً.
يحتل الجانب الرّوحي حيِّزاً طردِياً مع قساوة الحياة المادّية، إذ يجري تعويض هذا بالأحلام والرؤى والتخيلات، كما يحدث في القصص ذات النهايات الجميلة، التي تبدأ بأسرة فقيرة بائسة وتنتهي بسعادة وزواج الفقير من الأميرة، أو البنت الفقيرة من أمير.
ويقول ذوو التّجربة، إنّه كلّما كان الذِّهن أكثر صفاءً، والجسدُ طاهراً بالمفهوم الإسلامي للطهارة، كانت الرؤيا أوضح وأصدق، ويقول من جرّبوا هذا وأكّدوه، إن المنامات الصادقة تأتي عادة بعد صلاة الفجر، وقراءةِ شيءٍ من القرآن الكريم «إنّ قرآن الفجر كان مشهوداً».
سيقول البعض إنّها خدعة من الدّماغ، يردّدها الناس بعد وقوع الحدث، يوهمهم الدماغ بأنّهم رأوا هذا من قبل في منام أو في يقظة، ومن الغريب مثلاً أنّ هناك أناساً يقولون إنهم لا يحلمون أبداً، وأشكّ في صدق هذا، لأنّ الأحلام تأتي إلى جميع أبناء البشر، كجزء من بنية الإنسان الجسدية والعقلية والنفسية.
يحتل الشُّهداء المكانة الأبرز من منامات أهل قطاع غزة، فالحديث عن رؤية الشّهداء الذين أسلموا الروح وهم يبتسمون أو وهم يتشاهدون أو ممن رآهم الأحياء قبل أو بعد استشهادهم، حديث لا ينتهي، وهناك تسجيلات كثيرة، لمن تنبّأوا باستشهادهم القريب، أو لأولئك الذين سجّلوا أو سُجّلت آخر لحظاتهم، وهناك شهيد كان يقول وهو يلفظ آخر أنفاسه: «ليتكم ترون ما أراه الآن من نعيم».
هذا يطرح سؤال قوة العقيدة التي تمنح من يؤمنون بها قوة روحيّة داعمة، لا يدركها أولئك الذين يرون في الحياة فُرصة للملذّات والمتعة لمرة واحدة، تنتهي بالموت وتحلّل الجسد.