انطلقت من تونس منذ عشر سنوات المظاهرات الشعبية المطالبة بالكرامة والديمقراطية، وذلك على إثر حرق بائع متجول فقير لنفسه بعد صفعه وإهانته ومصادرة متاعه من لدن عناصر الشرطة. اعتبر الشباب التوانسة ذلك نداء موجها لضميرهم الجمعي من لدن مواطن مظلوم قهره نظام حكم متكبر. استجاب الشارع بقوة لنداء الألم والنار فكانت معارك دموية دامت أسابيع أربعة تواجهت فيها الشرطة والشباب، خصوصا بالمدن المهمشة الصغيرة والمتوسطة.
اقتربت الأحداث شيئا فشيئا من المركز ثم من القصر الرئاسي بتونس العاصمة والذي يسكنه زين العابدين بن علي. أخذ الخوف بتلابيب الديكتاتور فركب طائرته متوجها شمالا، إلا أن باريس وربما حكومات أوروبية أخرى، رفضت استقباله رغم الصداقة السابقة والمصالح المتبادلة…وقع ما لم يكن بالحسبان: المملكة السعودية، الدولة العربية الأكثر تدثرا بالدين والتدين تفتح ذراعيها مرحبة بالحاكم العربي الأكثرعلمانية. فما السبب بل ما الخطب يا ترى!؟
هذه الرغبة في السيطرة والتوسع والتي كان من علاماتها الانقلاب الدموي على الديمقراطية في مصر مع ابتلاع جزر تيران وصنافير والتدخل السياسي أو السياسي-العسكري في اليمن وبلدان عربية أخرى عرفت تحركا للشارع الراغب في التحرر والديمقراطية
إنه تضامن أنظمة الاستبداد العربي أما الورنيش الأيديولوجي سواء أكان ذا مصدر سماوي أو إنسي خالص، فهو لا يعبر في الغالب الأعم عن اقتناع أخلاقي أو التزام مبدئي بل هو موجه للساكنات حتى تبقى سواكن أي هادئة، آسنة،لا تحرك ساكنا.
ويبقى الهدف الشامل «مواطنا عربيا مستقرا» بتعبير علاء الدين الأسواني. هكذا وعند الخطر الماحق الذي أصبح يهدد السلطويات العربية مجتمعة تحولت وبسرعة بعض الاتجاهات الدينية المشاركة في الانتفاضة العربية – والتي أدمجت الديمقراطية في خطابها- إلى عدوة للرياض وأبو ظبي على الرغم من نفسها. هذا رغم التحالفات السابقة، بين الاتجهات الدينية حاكمةً أو معارضة، ضد القومية والعلمانية. هكذا لخبطت الانتفاضة التي عمت سنة 2011 عدة بلدان عربية مهمة المشهدَ السياسي بالمنطقة: شارك المعارضون،علمانيون ودينيون، جنبا إلى جنب في مقاومة الاستبداد بالشارع وصهر الدمُ تحالفهم الجديد، كما قرّب الجزعُ أنظمةً لا يجمع بينها إلا اللغة ولغة الاستبداد، حتى أن بعض الأنظمة الخليجية دعت رسميا وبشكل طارئ المغرب والأردن، لتوفرهما على جيشين قويين، للالتحاق سنة2012 بمجلس التعاون الخليجي كعضوين مكتملي العضوية رغم الفارق الكبير في الثروة والمسافة.
هكذا دفعت الثورةُ التونسية المنتصرة والمنتشرة إلى نوع من محاولة التحالف المقدس يشبه إلى حد بعيد في مراميه وسياقه «الحلف المقدس» الشهير الذي دعا إليه قيصر روسيا سنة 1815 ضد ربيع ديمقراطي آخر، ذلك الذي أطلقته الثورة الفرنسية بأوروبا.
ومن غرائب التاريخ أن روسيا هي من بادرت إلى هذا الحلف باسم وحدة العقيدة المسيحية وكان لها «بروفايل» بأوروبا يشبه ذلك الذي للسعودية الآن بالعالم العربي. كما كانت سان بيترسبورغ تصبو الى دور قاري يشبه الى حد بعيد الدور الإقليمي الذي تصبو اليه الرياض. وحتى يلمس القارئ غرابة تشابه الأدور والأهداف والمتدخلين رغم البعد الزمني والحضاري، نستشهد بما كتبه أحد المتخصصين في تاريخ أوروبا: «كان المتحالفون يشعرون وكأنهم مكلفون من الرب بالحفاظ على السلم والنظام. وكان مبتغى الحلف قطع دابر أية محاولة للتحرر والديمقراطية. وقّعت روسيا وألمانيا والنمسا على وثيقة الحلف المقدس …كما عبرت المملكة المتحدة عن تعاطفها (كما فعلت الرباط) إلا أن وزير خارجيتها الفيوكونت كاسلريه (تماما كالفقيه سعد الدين وزير خارجية المغرب سنة 2012) لم يكن يعتقد أن التحالف فكرة جيدة لأنه كان مقتنعا بالمعنى العميق للتحولات الجذرية التي أطلقتها الثورة الفرنسية في أوروبا مما يجعل هذا التحالف طارئا وغير واقعي، إضافة إلى ذلك أن صاحب الفكرة أليكسندر الأول قيصر روسيا كان معروفا بأطماعه التوسعية والرغبة في السيطرة على السياسة الأوروبية» تماما كما يحاول بعض مسؤولي الرياض الهيمنة السياسية بالمنطقة العربية.
هذه الرغبة في السيطرة والتوسع والتي كان من علاماتها الانقلاب الدموي على الديمقراطية في مصر مع ابتلاع جزر تيران وصنافير والتدخل السياسي أو السياسي-العسكري في اليمن وبلدان عربية أخرى عرفت تحركا للشارع الراغب في التحرر والديمقراطية.
فشل في الأخير الحلف المقدس في أوروبا ولم تمر سوى عقود حتى بدأت الديمقراطية فكرا أو ممارسة تعم شيئا فشيئا القارة العجوز. فهل ستستوعب التاريخَ السلطات العربية لتعرف أن تحالفها إلى فشل وأن الاستبداد والظلم إلى زوال.
كاتب مغربي