منطقتنا بين الأيديولوجيات النكوصية والحاجات المستقبلية

الحدود الحالية التي تفصل بين دول منطقتنا وشعوبها لا تراعي رغبات السكان بانتماءاتهم القومية والدينية والمذهبية المختلفة. والسبب في ذلك هو أنها قد رُسمت واعتُمدت بناء على مصالح القوى المنتصرة في الحرب العالمية الأولى؛ وبعد مباحثات ومماحكات مطولة مع القوى الإقليمية، خاصة مع تركيا التي اُعتبرت وريثة الامبراطورية العثمانية التي كانت قد هُزمت في الحرب، وكان عليها أن تسلًم بالأمر الواقع، وتوافق، أو على الأقل تصمت، في مواجهة عملية توزيع الأراضي التي كانت تسيطر عليها على مدى قرون بين الدول المنتصرة في الحرب. وظاهرة تعديل الحروب، وإعادة رسم الخرائط عبر سلخ مناطق وضم مناطق، وتشكيل كيانات جديدة هي ظاهرة تحدث عادة في اعقاب الحروب الكبيرة؛ وهي ظاهرة مألوفة في منطقتنا منذ بدايات العصور التاريخية، مروراً بكل المراحل التاريخية اللاحقة.

ولكن الجديد الذي حصل في مرحلة ما بعد الحرب العالمية الأولى، هو أن القوى التي فرضت عملية إعادة هيكلة المنطقة كانت قد بلغت درجة من القوة العسكرية والاقتصادية، فضلاً عن التقدم التكنولوجي والقدرة على التنظيم والمتابعة، حداً كان في مقدورها بموجبه ممارسة الهيمنة شبه المطلقة على تفاصيل أوضاع مجتمعاتنا، وتحديد مساراتها، وذلك سواء عبر الاستعمار المباشر، أم غير المباشر الذي تكيف في شكله باستمرار مع طبيعة المتغيرات، ونوعية الأهداف.

هذه الوقائع يعرفها ويقر بها الجميع، لأنها وقائع تاريخية حدثت، وما زالت آثارها فاعلة مستمرة. ولكن الأمر الخلافي بين شعوب المنطقة، أو بتعبير أدق بين نخبها وقواها التي اتخذت من العمل العام، والانشغال بقضايا الحكم والإدارة صنعة لها، هو كيفية التعامل مع هذا الواقع الذي لا ينسجم، كما أشرنا في البداية، إلى رغبات وتطلعات شعوب المنطقة ومكوناتها المجتمعية. ونتيجة ذلك برزت جملة من الأيديولوجيات الشعبوية التي كانت تستهدف في أصلها التجييش ضمن مشاريع كبرى، كانت في غالب الأحيان مجرد تغطيات شعاراتية، الغاية منها تضليل الناس، وإيهامهم، والحيلولة دون اطلاعهم على ما يجري في واقع الأمر. ويُشار هنا بصورة خاصة إلى الأيديولوجيتين القومية والدينية. إذ طالبت الأولى بالوحدة العربية، وتأكيد رسالتها الخالدة. بينما سعت الثانية من أجل الوحدة الإسلامية، وتجديد الخلافة. وما يجمع بين الأيديولوجيتين هو انطلاقهما من النزعة الماضوية النكوصية بصيغها المختلفة، إلى جانب عدم اعترافهما بالحدود القائمة. ومع إخفاق المشروع القومي العربي لأسباب كثيرة لا يتسع المجال هنا لتناولها، والتفصيل فيها؛ وكذلك فشل المشروع الإسلامي السني تحديداً لأسباب كثيرة لن نبحث في تفصيلاتها هنا؛ برز المشروع الإيراني الشيعي، إذا صح التعبير، ليتخذ من المظلومية الشيعية ذريعة للتواصل والتدخل والتمدد، ومن ثم التحكّم.

وإذا طبقنا نظرية ابن خلدون حول تشكل الدول والكيانات وانحلالها، مع شيء من التعديل، سنصل إلى نتيجة فحواها أن المشروع الإيراني بدأ يدخل مرحلة الفساد وانعدام التوازن التي عادة ما تكون مقدمة للزوال أو الانهيار. وانهيار المشروع ليس معناه بطبيعة الحال زوال إيران كدولة التي تظل قوة إقليمية هامه لها تاريخها، ولها دورها على مختلف الصعد، لا سيما الجيوسياسية والاقتصادية منها.

فمرحلة العصبية قد انتهت، إذ لم تعد المظلومية الشيعية وحدها قادرة على شد عصب المجتمعات الشيعية في بلدان المنطقة، وهي في الأساس جزء أصيل من النسيج المجتمعي الوطني لهذه البلدان، وذلك بعد أن تبين لها بالدليل القاطع أن كل ما جرى إنما كان بهدف تأمين التمدد الإيراني، وإشغال مجتمعات المنطقة بالحروب، والمشكلات المستعصية، وسلخ المواطنين الشيعة عن مجتمعاتهم الوطنية. ولم يكن ذلك ممكناً لولا تعاون، بل وتماهي مجموعة محدودة من الشيعة المحليين مع المشروع الإيراني المذكور، مقابل مال فاسد؛ حصّلوه بطرق شتى، ومن مصادر شتى، أبرزها خزينة دولهم نفسها بعد ان تمكنوا من السيطرة عليها بسيوف النظام الإيراني؛ هذا النظام الذي وجد من جانبه أن الحفاظ على وضعية التخلف والفساد والضياع في المجتمعات المحيطة به، يبقى أفضل الطرق، وأقلها تكلفة، بالنسبة إليه، للحفاظ على ذاته في الداخل الإيراني الذي لم، ولن، ينسجم مع سياسات وممارسات نظام يحكمهم بعقلية لم تعد تتوافق مع روح العصر وقيمه.

ومن أبرز مؤشرات تداعي المشروع الإيراني، هو الحراك الذي يشهده كل من العراق ولبنان منذ نحو شهرين. فهو حراك عابر لحدود الطوائف، ويؤسس لمشاريع وطنية تقر بواقع الحدود الحالية المفروضة بإرادات دولية، وهي حدود تفاعلت معها المصالح والحسابات الإقليمية، كما أنها ولّدت وضعيات مشخصة في كل بلد، تشمل الجوانب الاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وحتى النفسية الروحية، الأمر الذي لا يمكن تجاوزه بسهولة، بل يمكن البناء عليه، وتطويره.

هذا إذا انطلقنا من الحدود القائمة، وحرصنا على تحسين قواعد العيش المشترك بين جميع مكوناتنا المجتمعية، واحترمنا قواعد الاختلاف، وبدأنا ببناء الأحزاب الوطنية القادرة على اختراق الأسوار والحواجز والخنادق الدينية والمذهبية والقومية، أحزاب تجمع بين كل المكونات المجتمعية على قاعدة برامج وطنية تطمئن الجميع من خلال احترام سائر الخصوصيات والإقرار بالحقوق. أحزاب تجمع بين وطنيين من مختلف الانتماءات المجتمعية، يعشقون شعوبهم وأوطانهم، ويثبتون بالممارسات الفعلية، لا المجاملات الخاوية الخادعة، أنهم يعتزون بكل أبناء وبنات الوطن من دون أي استثناء؛ ويعملون على النهوض بالبلد وأهله بعيدا عن نزعات التشفي والحقد والكراهية، والعقلية الثأرية. فمن شأن هذه الأحزاب أن تضمن الاستقرار لبلدانها ولإقليمها، وذلك بالتعاون مع الهيئات والمؤسسات الفاعلة سواء في المجتمع المدني أم المجتمع الأهلي. ويمكن للأحزاب المتقاربة من ناحية البرامج والتوجهات في مختلف البلدان أن تمهد الأرضية أمام تفاهم بين شعوب المنطقة ودولها، وتساعد على حل المشكلات المستعصية بابتكار حلول ابداعية تتجاوز قاعدة الحلول الوسط، وعقلية لا غالب ولا مغلوب، وتأتي بحلول تكون في صالح الجميع، وتفتح الآفاق نحو مستقبل يضمن للأجيال المقبلة كل مقومات التقدم والإبداع. ولنا في تجارب الشعوب الأوروبية التي عاشت ويلات حربين عالميتين، وتعرضت لكوارث غير مسبوقة، أمثلة غنية يمكن أن نتعلم منها الكثير. فقد استطاعت هذه الشعوب في نهاية المطاف تجاوز العقد المستعصية، وتمكنت من جعل الحروب صفحة من الماضي غير المرغوب.

ومن الطبيعي أن تركز الأحزاب الوطنية التي تحتاجها مجتمعاتنا اليوم أكثير من أي وقت مضى، اهتمامها على الأوضاع الداخلية، على هموم الناس. فالأولوية تكون لإلزامية التعليم في المراحل الأساسية، ولتحسين مستوى هذا التعليم، ولرفع كفاءة الجامعات ومراكز البحوث، ولربط الجامعات بالمجتمع؛ وتحسين مستويات الرعاية الصحية، وتأمين الضمان الصحي للجميع؛ واحترام الشيخوخة وضمان الحد المقبول من الدخل في مرحلة التقاعد؛ والاهتمام بمشكلات الجيل الجديد، ووضع البرامج المناسبة لأوقات الفراغ الخاصة باليافعين والشباب؛ ومعالجة مشكلات السكن والمواصلات والبيئة؛ وتطوير القطاعات الاقتصادية لامتصاص البطالة من جهة، والنهوض بالمجتمع من جهة أخرى.

أما بالنسبة إلى برامج أحزاب “القضايا الكبرى”، فقد كانت وسيلة للتعمية والتمويه، استخدمتها الزمر الحاكمة للتستر على عملية انقضاضها على الأوطان وأهلها، وتحويل المجتمعات إلى ما يشبه الثكنات العسكرية التي اشغلت، وتشغل، الناس بتمارين وتدريبات عقيمة مستمرة استعدادا لمعارك إيهامية، يتغنى إعلام زمر الحكم والتحكّم بانتصاراتها المزعومة، سواء تلك التي كانت، أم تلك التي يُبشر بها؛ وهي الزمر التي تشرعن نفسها بقوة الأجهزة المخابراتية، وديماغوجية أيديولوجيات شعبوية سادت في أجواء تكاد تخلو بصورة شبه تامة من الملكة النقدية لدى قطاعات واسعة من الناس، وذلك نتيجة عقود من التسطيح المنهجي الذي مارسته الأنظمة والأحزاب الأيديولوجية الدائرة في فلكها، والمتداخلة عضويا معها في ميادين التعليم والثقافة والإعلام.

وحتى لا يأخذنا التفاؤل والتمني بعيداً عن الواقع العياني الذي نعيشه راهناً، نقول: إن ما يجري في لبنان والعراق، وحتى إيران؛ وما كان، وسيكون، في سوريا ومصر وغيرها من دول المنطقة، قد غير الكثير، وأعاد النظر في جملة من المسلمات الزائفة، وكل ذلك هو تمهيد ضروري لا استغناء عنه، يؤسس للمستقبل، وذلك بعد أن تبين للجميع خواء المشاريع القوموية والمذهبية، هذا مع احترامنا لجميع القوميات وسائر الأديان والمذاهب.

فقد تجاوز الجيل الشاب الجديد الهواجس المصطنعة، كما تحرر من عقد الخوف التي فرضتها العسكرتاريا الميليشياوية بأسمائهما المختلفة، وتيقن من الطبيعة التضليلة لشعارات القومويين، خاصة اليساريين منهم، التي تكون غالباً مجرد ستار للتغطية على ممارسات وجرائم أنظمة الفساد والاستبداد.

ومن نافل القول إن نشير هنا إلى أن الأمور لن تحل بطريقة سحرية سريعة، وانما ستأخذ مداها الزمني الكافي، تتفاعل خلاله الآراء، ويتم تبادل الخبرات، والاستفادة من التجارب.

ولكن إرهاصات العملية التغييرية الحقيقية المطلوبة قد بدأت، وهي ستعطي نتائجها إذا استمر طلاب التغيير في خطهم الصحيح، وطوروا قدراتهم التنظيمية، وأكدوا باستمرار عزمهم على المضي قدماً من أجل تحقيق أهدافهم.

ولكن مع ذلك علينا ألا نتجاهل قوة وقدرة الأنظمة القديمة، فهي ستعمل من خلال أذرعها وأتباعها على بث روح اليأس واللامبالاة، وستعزف على وتر مصالح الناس، والتحذير من المؤامرات الكونية، والادعاءات الدونكيشوتية بمعارك مصيرية وهمية. فهذه الأنظمة تتبادل المصالح مع مجموعات الفاسدين المنتشرين بين مختلف المكونات، بل وفي مختلف أنحاء العالم، وستعمل على التعاون معهم من أجل قطع الطريق أمام امكانية أي تغيير حقيقي مطلوب.

غير أن الأوضاع قد تحركت، وفي الحركة بركة ما يقال؛ وباتت العودة إلى مربع الهوان والذل من الاستحالات، خاصة بعد أن طفح الكيل، وتجرأ الناس على البوح بالمحظور المعبر عن تطلعاتهم واراداتهم.

*كاتب وأكاديمي سوري

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية