درجت في السنوات الأخيرة الورشات الإبداعية الكثيرة والمهمة أيضاً، وعادة ما يقوم بها كتاب محترفون. بمعنى، ناس اختاروا الكتابة في عمقها كممارسة، وعرفوا مخابئها، وأدركوا صعوباتها الكثيرة التي لا يراها الكاتب المبتدئ، ويمكنهم أن يشركوا غيرهم من الناس المنشغلين بموضوعة الكتابة، محن الكتابة، سواء من الناحية التقنية ومن ناحية الاستراتيجيات المختارة، سواء أكانت فنية أو جمالية أو حتى إيديولوجية.
طبعاً، يحتاج الأمر إلى نوع من البيداغوجية التعليمية التي يفترض أن يمتلكها منشط الورشة، يقدم من خلالها معرفة تقنية، وقد تكون حياتية أيضاً في حدود ما تمنحه الورشة من إمكانات للكتابة الإبداعية في تعبيراتها الاجتماعية أو الذاتية. يتعلق الأمر عادة في الورشات بالقصة والرواية تحديداً، لأن للشعر خاصية ذاتية يصبح من الصعب تقاسمها، لأن تقنياتها واضحة مهما كانت التجديدات، فهي تتأرجح بين ثلاثة أنماط مهيمنة: الشعر العمودي، والحر في تنويعات تفعيلاته وقوافيه، والحر المسترسل أو ما يسميه البعض بالشعر النثري، وهي تسمية مهينة للنوع، لأنها تنزع من الشعر هويته العميقة التي هي الحالة الوجدانية الشعرية التي تتجلى من خلال اللغة.
وقد لاحظ جميع المتتبعين في السنوات الأخيرة انتشار الورشات بشكل كبير عبر العالم العربي، بالخصوص في بلدان الخليج، فيها ما هو جدي وعملي وتعليمي وجاد حقيقة، وفيها ما هو عكس ذلك. بعض هذه الورشات مجاني، وبعضه الآخر بثمن معين، والأمر ههنا يكاد يكون طبيعياً، فالتعليمية تقتضي وجود قاعات وكهرباء وتدفئة أو تبريد إلى غير ذلك، وسلسلة من الضرورات المادية التي يجب أن تتوفر. يتم ذلك في العموم بشكل شبه وظيفي، خارج المفهوم الربحي والريعي، إذ يظل جوهر الورشة تعليمياً وأساسياً، وهذا مهم وصحيح، لكنه يتخطى ذلك إلى اقتسام التجربة وتبادل الخبرة.
ومهما كانت خبرة الشباب المتحمس للكتابة قليلة، لكن حساسيته المستفيضة تدفعه إلى الأمام، بالخصوص إذا كان موهوباً. حالة من الحماسة يمكنها أن تدهش حتى المشرف عليها، وهذا مهم في التجربة التعليمية في الورشة؛ لأنه يمنع الكاتب من أن يكون معلماً بمسطرة، بل يكون فناناً يقدم معرفة قد تكون مهمة وضرورية للكتابة، ويصغي نحو الجهة التي يحدثها، يمكن أن تفلت منها أشياء غير موعاة يمكن تطويرها في النقاش. الكثير من الحالات يفرضه الكتاب الشباب المتعلمون، إذ يحددون منذ اللحظة الأولى حاجاتهم الإبداعية الديداكتيكية وينسون أن الإبداع عبارة عن ساعة مليئة بالقطع الصغيرة والناعمة جداً، لو تسقط واحدة متناهية الصغر يمكن للساعة الغالية ثمناً كلها أن تتعطل عن العمل. نعم للتعلم الجزئي، ولكن هذا الجزئي تجب رؤيته في سياق أوسع حتى يتمكن الشاب أن يرى ذلك في الورشة بشكل واضح.
من إيجابيات الورشة هي أنها تفتح الأبواب أمام الشاب المقدم على التجربة الكتابية، فيصطدم بعض يقينه بخبرة منشط الورشة التي قد تجعله يعيد النظر في كثير مما تعلمه، ويعوضه بمكاسب جديدة يشعر الشاب بأهميتها وضرورتها أيضاً. يمكننا في هذا السياق أن نركز على بعض الجزئيات الضرورية في الورشة الروائية.
أولاً. فكرة الرواية. لا توجد فكرة جيدة وفكرة باطلة، كل شيء يصلح لأن يكون نواة للرواية المحتملة. المشكلة الوحيدة هي الاستراتيجيات التي يختارها الروائي؛ كيف تأتي وكيف يتم زرعها وتوطينها في عالمه الذي يشتغل في سياقها، وكيف عليه أيضاً أن يراقبها ويتركها تكبر ولا يغادرها أبداً. وقد تتفرع الفكرة الصغيرة إلى عناصر جزئية، على الكاتب السيطرة عليها منذ اللحظة الأولى وفق آليات تصاحب الكتابة عادة. ويحتاج الكاتب الشاب أن يوليها أهمية قصوى، ويمنحها حريتها التي من دونها سيتم قتلها في لحظاتها الأولى، وبالتالي استحالة وجود رواية بالمعنى الأدنى لهذا الجنس. الحرية في الكتابة هي ماء الأرض وملحها. والمسألة ليست سهلة، لأنها جزء من الكتابة، هي حالة قلق. اللحظة البدئية هي لحظة حاسمة إبداعياً، ليس سهلاً أمر مثل هذا. الكثير من التجارب والأفكار ماتت في بدء الطريق الإبداعي، والكتابة الحقة تقتضي أن تتحول بذرة الرواية إلى موضوعة واعية يتم تشييد الرواية على أساسها.
ثانياً: اتضحت صورة البداية وتوطنت في صلب النص الروائي، وتكبر الحاجة إلى معرفة أكثر، وما كان يبدو مجرد أشكال إيهامية لا إطار ولا روح لها، بدأ يتحول إلى شيء آخر أكثر تعقيداً، يشبه الإنسان في كل مآسيه ومشكلاته الحياتية. يشرع الروائي المشروع في ضخ دم شبه حقيقي يجعل الشخصية، بكل صفاتها الإنسانية، تقاوم شرطية الإنسانية التي وجدت نفسها فيها، إذ وضعها الكاتب في هذه الدائرة فأخرجها من منطق الحياة إلى منطق الرواية. أي أنه لا حياة لها إلا داخل مدارات النص الإبداعي، يوزع الأدوار ويخط المسالك والمصائر وفق منطق واحد ووحيد لا علاقة له بذاتية الكاتب حتى وإن كانت هي المبدعة. كل تصرفات الشخصية محكومة بمنطق الرواية الذي شيده الكاتب، ومن هنا تملك الشخصيات خصوصيتها ولا تشبه الكاتب إذ تصبح كيانات مستقلة عنه. السارق أو المجرم أو العاشق أو النبيل ليس هو الكاتب في كل أدواره واستعاراته، حتى وإن استعان بتجربته الشخصية يظل النص مستقلاً كلياً ولا يفقد أبداً وضعه اللغوي، إذ هو في النهاية ليس أكثر من لغة. حتى ولو وضع بعض صفاته المبطنة ووضعها وضمنها في روايته فلن تصبح الحقيقة الموضوعية هي نفسها الحقيقة الروائية. فشخصياته، حتى في هذه الحالة، ليست هو.
تظل الكتابة فعلاً موازياً للحقيقة الموضوعية، هذه القناعة تسمح للكاتب الجديد أن يستثمر عوالم التخييل بشكل كامل. في النهاية، النص يتحرك في عوالم قام الروائي بتصنيعها ولا حقيقة مادية لها حتى ولو تشابهت بشكل كبير مع المرجعيات السابقة لها. الرواية بقدر ما هي عالم من الترابطات الكثيرة، فهي عالم مشيد ليكون قائماً بذاته، وإلا ستكون الشخصيات كلها بصورة واحدة ومكررة، ومنسوخة أيضاً، المتغير الوحيد فيها فنياً الأسماء فقط. وربما هنا يكمن مقتل الكثير من الروايات الشبابية، طبعاً باستثناء السيرة الذاتية التي تخضع لمنطق آخر، منطق التطابق مع المرجع إلى حد كبير. فالشخصيات تلتقي وتفترق وفق الشرطيات التي وضعت فيها وليس خارجها، وهذا ما يجعلها مقبولة حتى في حالة كرهنا لها، وهذا هو بالضبط ما يسمى بمنطق الرواية، أي النظام المنطقي الذي تتولد عنه الأفكار والذائقة أيضاً. لماذا نحب رواية دون أخرى، خارج النوع؟
في الختام، الورشة لا تخلق الكاتب، ولكنها تدفع الموهوب ليصبح كاتباً.
كتبت ليلى السليماني رواية رفضت دار نشر Le Seuil نشرها، وبعدها كتبت رواية عن مغامرات دومينيك ستراوس كان الجنسية ونشرت. وإضطرت رغم ذلك لتعلم الحرفة في ورشة لكتابة الرواية تنظمها جريدة لوموند الفرنسية مقابل مبالغ ضخمة. وكتبت بعد ذلك رواية Chanson douce التي قبلت دار نشر غاليمار نشرها فورا ودون وساطة وفازت بجائزة الغونكور ! وبعد ذلك هرول الآلآف نحو الورشات لعل وعسى !
نعم ! لا بد من معلم ! وحتى عندما لم توجد الورشات، كان الروائي يتعلم الحرفة بالإتصال المباشر مع المتمكنين. ما كان توفيق الحكيم ليحذق لولا طه حسين و ما كان نجيب محفوظ ليواصل لولا أحمد أمين ، وكان لا بد من فلوبير ليبدع موباسان ! غير أن الورشة لا تغني أبدا عن الموهبة.