الناصرة – “القدس العربي”: تواصل منظمة “ذاكرات” الإسرائيلية الكشف عن فظائع صهيونية وتستعيد رواية الأحياء الفلسطينية في الشطر الغربي من القدس، بيوتها وطرد أهاليها في النكبة في مثل هذه الأيام من العام 1948 ممن يحرمون من استعادتها وأحيانا من مجرد مشاهدتها من الداخل، وفي المقابل يستولي مستوطنون على بيوت في الشيخ جراح بدعوى أنها كانت مملوكة من قبل يهود.
ففي ندوة نظمتها “ذاكرات” في تل أبيب قدم الباحث اليهودي مناحم كلاين محاضرة عن بيوت القدس استنادا لكتاب باللغة العبرية صدر عنه في الماضي بعنوان “مرابطون”. ويستعيد كلاين قصة سيرين حسيني – شهيد مع أخواتها وأمها اللواتي زرن بيت العائلة في حي المصرارة عام 1972: “في البداية رفضت فكرة والدتها بزيارة البيت خوفا من عدم تحمل الصدمة لعلمها أن عائلة إسرائيلية تسكنه لكن الوالدة صممت وهذا ما حصل”. وينقل كلاين عن الكاتبة المقدسية الراحلة سيرين حسيني- شهيد(1920-2009) ابنة القيادي الفلسطيني جمال الحسيني ما جرى في اللقاء بين أصحاب البيت وبين من سطوا عليه واستنادا لكتابها “ذكريات مقدسية: “عندما كنا في باب العمود خرج القلب نحو البيت ولكن عندما وصلت السيارة ساحته تجمد الدم في عروقنا وحاولنا إخفاء دموعنا وإبقاء الحزن مكبوتا. نظرت نحو بيتنا فكان كما هو: الشرفة ذاتها والنوافذ المطلة على دير الدومينكان، شجرة السرو في مكانها. ارتعش جسدي. في جوار بيتنا شاهدت بيت جارنا توفيق كنعان وبدا مدمرا واستبدلت الأشجار المحيطة به. أمي الوحيدة بيننا الخالية من أي شعور بالخوف خرجت من السيارة وبدأت تعتلي الدرج نحو المدخل متكئة على عكازها فتطرق الباب ثلاث مرات. أطلت سيدة يهودية ومن داخل السيارة كنا نسمع أمي تقول بأدب وحزم: بعد إذنك أرغب بدخول بيتي لمشاهدته”. وردت الساكنة اليهودية في البيت: ماذا يعني بيتك؟ لقد اقتنينا البيت” وردت أمي:”لم أبع بيتي أبدا”. كانت اليهودية تتحدث بلهجة عراقية وعندما أدركت ماهية اللقاء قالت: فليذهبوا للجحيم. في العراق امتلكنا بيتا ولم يكن علينا أن نأتي إلى هنا لنواجه مثل هذه الوضعية”.
ذكريات مقدسية
وتستذكر سيرين حسيني- شهيد أن السيدة اليهودية دعت والدتها لدخول البيت فنظرت أمي للخلف لكن أي واحدة منا امتلكت الشجاعة للانضمام لها؟ دخلت الوالدة وحدها وسمعنا باب البيت يغلق. بقينا في السيارة في حالة صمت وترقب في انتظار عودة أمنا. فتح الباب وخرجت أمي والسيدة اليهودية وهما تتحدثان وكأنهما عرفا بعضهما البعض منذ زمن بعيد وكانتا تدوران حول البيت هي في المقدمة ووالدتي تتبعها. سمعنا والدتي تشكرها وهي تنزل الدرج نحونا ودخلت السيارة وقادت شقيقتي نجوى السيارة وابتعدنا ولم نتحدث ولا كلمة واحدة وبدا كأن السيارة توشك على الانفجار جراء التوتر.
في نهاية المطاف سألت واحدة منا أمنا عم تحدثت مع اليهودية فروت القليل فقط وقالت إنها سألتها ما إذا كانت هي وأسرتها فقط يقيمون داخل البيت فأجابت السيدة اليهودية: “فقط نحن؟ وضحكت ضحكا مرا. وتابعت: في كل غرفة تقيم هنا عائلة. وقالت والدتي إنها سألتها عندئذ: وأين تطبخين؟ فقالت: “هناك خلفك” وهي تشير لشرفة النافذة ثم سألت: من بنى البيت؟ فقالت والدتي إن والدها هو من شيد البيت فسألت اليهودية مجددا: وهل كانت العمارة معدة لتكون مدرسة ؟ فقالت والدتي إن والدها بناه منزلا للعائلة. وينقل كلاين عن سيرين حسيني شهيد قولها عن تتمة التجربة الفريدة: “انخفض منسوب التوتر واستبدل بالانفعال من قوة روح والدتنا فما فعلته هو مثال للشجاعة.
في الأسابيع التالية صرت وحدي تارة ومع شقيقاتي تارة أخرى ألف في المدينة والتعرف عليها مجددا بعد فراق قسري طويل وفي كل زاوية اصطدمنا بالاحتلال العسكري الإسرائيلي، وفي كل زاوية طافت الذكريات وكان الصمت ملاذنا وقد أدركنا أنه علينا امتصاص ومراكمة الذكريات في دواخلنا فالأقوال الانفعالية تصرف أنظارنا.
وحسب رواية كلاين كان قسطنطين سلامة أحد أثرياء الشعب الفلسطيني وتم تهجيره في نكبة 1948 من بيته الجميل في حي الطالبية في الشطر الغربي من القدس المحتلة. قبل نزوحه كان توصل الى اتفاق مع القنصلية البلجيكية استأجرت بموجبه حكومة بلجيكا بيته في محاولة لصيانة ملكيته عليه لكن إسرائيل سارعت لتسجيله باسم ما يعرف بـ “الوصي على أملاك الغائبين”. وبعد توقيع اتفاق كامب ديفد مع مصر، وفي 1983 طالب سلامة الحكومة الإسرائيلية بتسديد تعويضات عن بيته بحكم جنسيته المصرية التي حاز عليها بعد هجرته للقاهرة. ويتابع كلاين” عرضت عليه حكومة إسرائيل 700 ألف دولار فقط مقابل البيت الفخم شريطة أن يتنازل عن بقية مطالبه فرفض. في2001 باعت إسرائيل بيته لرجل أعمال يهودي من لندن يدعى دافيد سوفير وفي نص الاتفاق كتب أن سوفير لن يستطيع تقديم دعوى على حكومة بلجيكا ( التي واصلت استئجاره) لاستخدامها البيت دون موافقة وزير القضاء”. في 2008 صادق وزيرا القضاء والخارجية الإسرائيليان على طلب سوفير بالحق بالتوجه لمحكمة في القدس بعدما رفضت الحكومية البلجيكية الاعتراف بشرعية الخطوات الإسرائيلية وأجابت بالسلب على دعواه المالية بالحصول على 2.2 مليون دولار لقاء استئجاره البيت في الفترة التي انتقل بيت سلامة لملكيته هو(سوفير). وقررت المحكمة الإسرائيلية إلزام بلجيكا بالدفع 3.8 مليون دولار أما مالك البيت الحقيقي فبقي محروما بعدما اعتبرته إسرائيل “غائبا” وأملاكه الكثيرة في الطالبية بمثابة “أملاك غائبين”.
يقول كلاين في محاضرته إن شولميت هارايفن جندية إسرائيلية قاتلت عام 1948 في القدس ولاحقا صارت كاتبة منوها أنها شاركت في احتلال البيت الفخم التابع لأنطون عواد رجل أعمال مقدسي في حي الطالبية داخل الشطر الغربي للقدس المحتلة منذ 1948. وهي تقول في مذكراتها:”دخلنا بيت أنطون عواد. فتحنا الثلاجات والخزائن، أكلنا وشربنا كل ما وجدناه. أحد الجنود قاس بدلة العروس الخاصة بزوجة أنطون. جندي آخر لم يحتمل مشاهدة التمثال الحجري المنحوت على هيئة فتاة فقام برسم شوارب فوق شفتها. وجدنا خزانة فيها عشرات الأحذية لأهل البيت. قدم الجندي موشيه كانت صغيرة فلم يلائمه سوى صندل السيدة أنطون. رؤوفين انتعل حذاء الكعب العالي وصارا يسيران داخل الدار. أنا دخلت غرفة النوم. وجدت على المائدة كتاب لشكسبير فأخذته. وينقل عنها قولها إنها بعد 1967 ومع سقوط أسوار القدس التي حالت دون أنطون في الشطر الشرقي من المدينة وبين بيته في الشطر الغربي بدأ يساورها شعور بعدم الراحة: فتشت عن أنطون عواد بدفتر تلفونات القدس وما لبثت أن سافرت إليه لأنني لم احتمل هذا الشكسبير. ذهبت لأعيد الكتاب لأنطون وأعيد النظام لسابق عهده. دخلت بيته الجديد وقلت: قدر الحرب جاء بهذا الكتاب الذي يرد اسمك عليه. أنطون لم يفهم. فقلت: جئت لأعيد لك كتابك الذي كان في بيتك السابق. من هذه اللحظة تطور الحوار المؤدب بيننا لحديث مر وموجع. وتتابع “لم ينتج لقاء حقيقي بيننا فكل واحد وقف خلف متراسه. لم أجرؤ على الحديث عن أسرار العائلة التي انكشفت أمامي يوم دخلنا بيتها عام 1948 وقرأت على نور شمعة يوميات كتبها جوزيف ابن أنطون. يوليوس قيصر تم أخذه عنوة من بيت فلسطيني لبيت يهودي وكدت أعيده لصاحبه لكن ليس للبيت الذي أخذ منه وحيث كان على مائدة غرفة النوم. ردة فعل أنطون كانت صعبة: “بيتي السابق؟ لا أريد سماعك. فلتعيدوا لي كل شيء. سرقتم عشرات آلاف الجينهات من البيت بل كل ما كنت أملك والآن تريدون إعادة كتاب واحد؟ ما هذه النكتة السوداء؟ بفعلكم صرت إنسانا عصبيا وكل مرة يفتح أحدهم معي هذا الموضوع فكأنه يفتح جرحا لم يندمل”. ويوضح كلاين أن أنطون رفض استلام الكتاب من شولميت ويرجح أنه بسبب رمزيته لم يتمكن صاحب البيت المسلوب من اعتبارها شخصا عاديا حركه ضميره بل رأى فيها رمزا ومندوبة دولة استعمارية دمرت عليه عالمه وخربت بيته.
يشار الى أن منازل الأحياء الفلسطينية في القدس الغربية شيدت في عشرينيات وثلاثينيات القرن الماضي بتصميم عمراني جمع بين الطرازين الشرقي والأوروبي، سكنتها الطبقة الوسطى المقدسية خارج أسوار القدس في نهاية الحكم العثماني. ويقيم في هذه البيوت المسطو عليها محامون وأطباء ومهندسون ومثقفون وأكاديميون (وأساتذة الجامعة العبرية) إسرائيليون وفي واجهة كثير منها لوحات رخامية حفرت فيها مخطوطات عربية : “هذا من فضل ربي” أو أسماء أصحابها. وفي كثير منها ما زالت شجرة التوت في ساحة الدار يانعة تزهر وتثمر للمرة التاسعة والستين تنتظر بصبر عودة أصحابها وقصة منزل أنطون عواد واحدة من عشرات القصص المشابهة الواردة في كتاب كلاين.
ازدهار معماري
تاريخيا، دأب المسيحيون الفلسطينيون على البناء والسكن في الناحيتين الجنوبية والغربية من البلدة القديمة قريبا من مدينة بيت لحم، حيث بدأت الكنيسة الشرقية ببيع قسائم بناء بعد الثورة البلشفية في روسيا. أما العائلات الإسلامية الغنية فاتجهت، وفق حديث خليل تفكجي للقدس العربي” إلى بناء منازلها خارج البلدة القديمة في ناحية شمالها، مشيرا إلى أن هذه البيوت من تصميم مهندسين أجانب وفلسطينيين، أما البناؤون والنقاشون فكانوا من مدينة بيت لحم، وحجارتها الفاخرة المتميزة بصفاء بياضها وقسوتها كان معظمها من منطقة دير ياسين.
وتعرضت منازل الأحياء الفلسطينية في القدس الغربية لسلب محتوياتها فور احتلالها، وتم تفريغها – على سبيل المثال – من مكتباتها العامرة، ومنها مثلا بيت الخبير التربوي الراحل خليل السكاكيني في حي القطمون، الذي يستخدم اليوم روضة أطفال. كما يستخدم بيت المفكر الراحل إدوارد سعيد في حي الطالبية اليوم مقرا للقنصلية اليونانية، وفق تأكيد تفكجي، وهو صاحب كتاب “الازدهار المعماري العربي في القدس العربية المحتلة”. ومن المشاهد التراجيدية الماثلة في المنازل العربية أن تجد في واجهة بعض البيوت المسلوبة ألواحا رخامية مثبتة نقشت عليها عبارات من قبيل “هذا من فضل ربي” أو “الملك لله الواحد القهار” التي يشتهر بها الفلسطينيون عموما.
يروي الفلسطيني من أصول يونانية أنسطاس دوميانوس أبو جورج (82عاما) لـ “القدس العربي” أن مستوطنا يهوديا يدعى موشيه تورنيتسكي أخبره أنه بقي طيلة ثلاث سنوات من إقامته في بيت فلسطيني مسلوب يبحث عن صاحب البيت، حتى وجده في لندن، ودفع له ثمن المنزل الذي طُرد منه عام 1948، لكنه يقول إن هذه الحالة نادرة جدا “فبقية البيوت وقعت ضحية السلب والاستيلاء بعد طرد أهلها”. في كتابه “أحياء القدس” يذكر الباحث الإسرائيلي دافيد كروينكر أن الأحياء الفلسطينية، خاصة حي الطالبية، كانت مطلوبة جدا من قبل أساتذة الجامعة العبرية بعد النكبة وذلك لقربها من عمارة تيراسانطا التي استخدمت مقرا للجامعة في السنوات الأولى بعد النكبة.
ويشير إلى أن الكثير من المستوطنين الذي يحتلون البيوت محاضرون وباحثون ومؤرخون وأدباء ومحامون وأطباء وقضاة وموظفون حكوميون كبار، وغير ذلك ممن استوطنوا منازل العرب في هذه الأحياء. ومن أبرز القاطنين في البيوت العربية الفيلسوف اليهودي مارتن بوبر، والمؤرخ المختص بالحروب الصليبية يهوشع برافر، والأديب حاييم غوري، ورئيس الكونغرس اليهودي نحوم غولدمان.
وصدر عن “ذاكرات” قبل سنوات ألبوم صور تاريخي يشمل صور عشرات البيوت في أحياء القطمون، الطالبية، البقعة والمصرارة وهي ما زالت تبدو كالقصور لجمالها وضخامتها، التقطتها عدسة تساحي أوسترابسكي، فيما كتبت النصوص وشهادات أصحابها بقلم الباحث حاييم هنغبي.