كتب غابرييل غارسيا ماركيز مقالا مهما في كتابه «كيف تكتب الرواية؟»، ففي محاولته للإجابة عن السؤال الذي حمل عنوان الكتاب نفسه، يقرر ماركيز بعد مناقشة مطوَّلة، أن (المسألة ليست في كتابة رواية أو قصة قصيرة، وإنما في كتابتهما بجدية)، والأمر يعتمد على قدرة الكاتب وقناعته، بصرف النظر إن حقق النص بعد ذلك رواجا، أو فاز بجائزة أدبية أم لا، وهذه القناعة التي يحدثنا عنها متعلقة بتجربته الشخصية في الكتابة، وزاوية النظر التي يعتقد أنها مناسبة لأولئك الكُتَّاب الذين يعتقدون أن (الأدب فن موجَّه لتحسين العالم).
إلاَّ أن غابرييل نفسه يعتقد أن تلك الإجابة (لا وجود لها) باعتبارها غير مرئية ومُلبسة من الناحية العملية، وهو يسرد لنا ما حدث له عندما مزَّق جزءا من رواية باعتباره ميؤوسا منه، بينما وجده الشاعر خورخي غيتان، الذي أتاه ليطلب منه نصا ينشره في مجلة «ميتو»، فوجد هذا النص في سلة المهملات واعتبره (صالحا جدا للنشر)، على الرغم من أنه فصل انتزعه ماركيز من روايته الأولى (عاصفة الأوراق)، عندما وجده فائضا عن الحاجة، بينما يُقِّر بأنه قام بالتخلص من مجموعة من قصص قصيرة كان قد كتبها عن حياة الأمريكيين اللاتينيين في أوروبا ورماها في سلة المهملات لأنه لم يقتنع بها.
إن مثل هذه الأحداث والمواقف التي تحوِّل بعض النصوص أو الكتابات من مكانة تقديرية إلى أخرى، يكشف ما يسميه جاك رانسيير في كتابه سياسة الأدب بـ(سوء التفاهم الأدبي)، الذي يشكِّل العلاقة بين الدلالات وحالات الأشياء التي ترتكز في الذات المستقلة عن الكاتب نفسه لحظة الكتابة؛ ذلك أن الأدب يدَّعي مقابل ما يرفضه لنا، تقديم خدمات أخرى، إذ يقرأ الأدِّلة المكتوبة، وقد ينزع الدلالات التي يمكن للمتلقي تحميلها إيَّاه. ولأن (الأدب هو الحياة)، كما يقول رانسيير، فإن العديد من الكُتَّاب حاولوا فهم تلك العلاقات التي تربط بين فعل الكتابة والإبداع الكتابي، خاصة من الناحية المهنية الإجرائية، وهي محاولات استطاعت أو كادت القبض على إمكانات الأدب والكتابة الأدبية والتناقض بين حياة النص وحياة الواقع، الذي يمكن للكاتب أن يستطيع من خلالهما تغيير الحياة وتحويل أشكال الرؤية إلى كيان مشترك يجمع نظام الدلالة وتأويل العالم، وتغيير أشكال النظر إلى الممارسات الأدبية التي يمكن أن يخلقها النص أثناء فعل الكتابة. لقد عرَف العالم الغربي مجموعة من المقاربات التي حاولت إيجاد منهج واضح للكتابة السردية، فغير مقال ماركيز الشهير، كتبت نانسي كريس (تقنيات كتابة الرواية. تقنيات وتمارين لابتكار شخصيات ديناميكية ووجهات نظر ناجحة)، وكتب لورانس بلوك (كتابة الرواية. من الحبكة إلى الطباعة)، ناهيك عن تلك الكتب التي تفصِّل الحديث عن النص السردي، خاصة الرواية أشهرها «فن الرواية» لميلان كونديرا و»الخطاب الروائي» لميخائيل باختين و»اعترافات روائي ناشئ» لأمبرتو إيكو وغيرها الكثير.
أما في العالم العربي فلم تكن تلك المقاربات متوَّفرة إلا في بعض البحوث التحليلية التي حاولت تفكيك النص الروائي لسبر مكوناته وأغواره، منها على سبيل المثال كتاب «في نظرية الرواية.. بحث في تقنيات السرد» لعبد الملك مرتاض و»تقنيات الفن القصصي عبر الراوي والحاكي» لأحمد درويش و»تقنيات السرد الروائي في ضوء المنهج البنيوي» ليمنى العيد، و»بين صوتين.. فنيات كتابة الحوار الروائي» لبثينة العيسى وغيرها، وهي محاولات تقترب من التحليل أكثر منها إلى منهجية الكتابة السردية من الناحية الإجرائية، التي يمكن الاعتماد عليها في تدريب المبدعين المبتدئين والناشئة. ومن تلك المحاولات كان كتاب «منهج الكتابة الإبداعية.. كيف تكتب قصة قصيرة أو رواية» للكاتب والروائي طالب الرفاعي، الذي يُعد أحد أهم الكتب العربية التي تتأسس وفق علاقة الكتابة الإبداعية بالكاتب، باعتبارها فنا قادرا على إنشاء سياقات تواصلية ليس على مستوى جدية النص وحسب، بل أيضا على مستوى خلق نص جديد تجريبي بمستويات بنائية قادرة على الولوج عبر الأزمنة، إلى أشكال سردية تفتح مجالات تأويلية تعكس الفكر الحديث الذي ينطلق منه الأدب. يبني الرفاعي منهج الكتابة الإبداعية وفق مجموعة من المعطيات هي:
أولا: الفن، باعتباره (صنيعة وعي الإنسان وخبرته الحياتية وموهبته) حسب تعبيره.
ثانيا: الإبداع، كونه الموهبة التي تقوم عليها الكتابة، والتي تربط بين مجموعة من الموجودات مثل المخيال واللغة والواقع.
ثالثا: الواقع المعيش، في علاقة الكاتب بما حوله، وبما يشكِّل أساس الاستكشاف للأفكار والآراء والعواطف، إضافة إلى تشكلات الواقع الحديث وارتباطه بالتقنيات وأثرها في خلق الأنواع السردية.
إن اللافت في كتاب «منهج الكتابة الإبداعية»، أنه اعتمد على خبرة كاتبه في الكتابة السردية، ما جعله قادرا على إيصال الأفكار والشروحات بسلاسة ويُسر من ناحية، وبصدق وشفافية من ناحية أخرى، إنه كتاب يعتمد على محاولة سبر أغوار النص السردي، وتقديم مادة أكاديمية وتعليمية وتدريبية في آن واحد.
ينطلق المنهج الذي اعتمده الكاتب منذ المدخل على أن الكتابة الإبداعية (تعبير كتابي شخصي، يعتمد على الابتكار والخيال وليس التقليد)، وهو مبدأ يقوم على غايات الكتابة، ومحاولة ابتداع نص يقرأ التناقضات والوقائع، ويعمل على تمثيلها وفق جانب إبداعي قادر على بناء عالم مختلف يصنع ذاته وفرادته، حسب ذلك التعبير الشخصي، في محاولة تحقيق ما يسميه إيكو بـ(الاختمار الأدبي)، فالكتابة هنا لن تتحقق إلا وفق محددات الابتكار والخيال، اللذين يتشكلان عبر مجموعة من الممارسات حتى تصل بالنص قبل الكتابة إلى ذلك الاختمار.
يقدِّم الكتاب منهجا قائما على التجريب في التعامل مع فعل الكتابة، بدءا من التخطيط الأولي للكتابة الإبداعية، باعتبارها فكرة قادرة على التشكُّل لحظة الإبداع والانفلات من ربقة الاختمار إلى فضاءات الكتابة الإبداعية، والبدء في تشكُّل تلك الفكرة وانطلاقها بوصفها (الحافز والدافع والمحرِّك الأهم لأي كتابة إبداعية) بتعبير الرفاعي، لتبدأ بعدها المغامرة الكتابية في التخييل والاستحضار وإعداد المخطط الأولى للأحداث، وإبراز ملامح الشخصية، ثم (الانتباه) إلى الوصف والحوارات، والعقدة. يعتقد الرفاعي أن (الكاتب المبدع ليس من يكتب مشهدا حزينا، لكنه ذاك الذي يجعل القارئ يشعر بالحزن وكأنه يمس روحه)، ولهذا فإنه يحث على محاولة كتابة الحدث وليس الكتابة عن الحدث، بتعبيره. إنها محاولة الولوج إلى داخل النص، والشعور بالحدث، والتمثُّل به حتى يكون الكاتب جزءا من الحدث نفسه، الأمر الذي سيوصله إلى إيلاج القارئ إلى نصه بسهولة، ليكون النص (مفتوحا) بتعبير إيكو، منفتحا على تأويلات المتلقين، بل ومشاعرهم وتعاطفهم.
يعمد الفصل الخامس من هذا الكتاب (مكونات الكتابة الإبداعية) إلى الربط بين القراءة باعتبارها أساسا في تشكيل فكر الكاتب وقدرته والتخييل بوصفه بوابة العبور من وإلى الكتابة، ولعل هذا ما جعل الكاتب يصف الخيال بأنه (الحاضر الخفي الذي نستطيع من خلاله تلوين قراءاتنا)، فهو الإمكان الذي يمكن من خلاله القبض على الفكرة والبدء في تخييل مسارات الأحداث التي توصل إلى تشكُّل النص؛ فالقراءة هي الأساس الذي تعتمد عليه تنمية اللغة والتخييل الأدبي. إن الكاتب هنا يقود المبدع المبتدئ من لحظة تشكيل الفكرة واختمارها إلى (السطر الأول) من الكتابة، في لحظة واعية قادرة على تحقيق ميلاد لنص (جدِّي)، فالسطر الأول (يؤسِّس الصوت السردي منذ البداية) حسب الرفاعي، فهو التشويق، والوعد، اللذان يجذبان القارئ إلى النص، وهما المسؤولان عن تأسيس الجو العام للنص، والقادران على فتح مقاصده، والكشف عن التجارب الإبداعية التي يمكن للقارئ ولوجها عبر أمكنته وأزمنته.
هكذا يتنقل بنا الكاتب بين آليات خلق الراوي، والحدث والحوار والوصف، والشخصيات، وإحداث التشويق، وصولا إلى ما يسميه (كتابة سردية معاصرة)، التي يركِّز خلالها على (التجريب)؛ إذ يربط بين الكتابة المعاصرة والتجريب ضمن سياق النهج الجديد المبتكر للخيال واللغة والسرد والحوار والأحداث والحبكة، إضافة إلى (إشراك القُرَّاء) و(توسيع حدود السرد التقليدي) بتعبيره، فالتجريب هنا أساس يتَّخذ أشكالا جديدة من الكتابة، سواء في البنية السردية التي يمكن أن تقوم على تقنية التذكُّر والاسترجاع، أو استخدام الرواة المتعددين، أو اعتماد أفكار جديدة من قبيل (مزج أنواع أدبية مختلفة في القصة أو الرواية)، وغير ذلك.
يُخصِّص الرفاعي الفصلين السادس والسابع لآليات الكتابة السردية، فيفرد فصلا خاصا بالقصة القصيرة، وآخر للرواية، والحق أنهما فصلان يعمدان إلى التعريف بمكونات كل نوع أدبي وعناصره التي تؤسس بنيته السردية وخطابه الأدبي، ضمن الوحدات التأليفية والأسلوبية المكوِّنة للنص، والتي تشكِّل نوعه الأدبي، فيأخذنا الكاتب إلى تفاصيل تلك المكونات والعناصر، والعلاقات المتداخلة التي تؤسِّس لبنيتها، وقدرة كل منها في تحيين لحظة الكتابة والتشكُّل الفني للنص، وصولا إلى ما يسميه كونديرا بلحظة (إدراك الأنا في الفعل) الأدبي. إنها لحظة التميُّز والتفرُّد التي ينطلق إليها النص في شكله ومضمونه وخطابه الذي يقدمه للمتلقي، ليكون بذلك نصا قادرا على الانفلات من ربقة الكاتب إلى الانفتاح على التأويل.
وكما حدثنا ماركيز عن قدرة الناشر وعلاقته بالكاتب من حيث إمكانات الطباعة والتسويق للنص، بل حتى اختيار الأفضل منها، حسب ذائقة المتلقي، فإن منهج الكتابة الإبداعية يُخصِّص فصله الأخير في تبيان تلك العلاقة بين (الكاتب والناشر)، ابتداءً من (حلم النشر المغوي)، الذي يمثِّل البريق الساطع نحو الشهرة، غير أنه يحذِّر من الاستعجال، ويدعو إلى اختيار الأفضل للنشر، وخوفا من الوقوع في ما أسماه رانسيير بـ(سوء التفاهم الأدبي)، ولذلك فإن الكتاب يفصِّل القول في علاقة المبدع بعقد النشر والوكيل الأدبي، الذي يمكن أن يقوم بدور أساسي في ذلك الاختيار.
إن اللافت في كتاب «منهج الكتابة الإبداعية»، أنه اعتمد على خبرة كاتبه في الكتابة السردية، ما جعله قادرا على إيصال الأفكار والشروحات بسلاسة ويُسر من ناحية، وبصدق وشفافية من ناحية أخرى، إنه كتاب يعتمد على محاولة سبر أغوار النص السردي، وتقديم مادة أكاديمية وتعليمية وتدريبية في آن واحد، ولذلك فهو من الكتب القليلة التي يمكن اعتمادها باعتبارها مرجعا أساسيا في تصوير السرد الأدبي، باعتباره فنا؛ فالرفاعي في هذا الكتاب قدَّم بحق خلاصة تجربته، كاشفا عن آفاق واسعة للمبدع، خاصة المبتدئ للتجريب الأدبي، فاتحا أمامه سبل هذا التجريب، محفزا إيَّاه لولوج عالم القصة والرواية، حاثا إيَّاه بعد ذلك على أن يمضي قدما في طريق الإبداع، مخاطبا له:(فوحدك من تسير في طريقك، تكتب جملة وتتعثَّر بأخرى، تُحرِّك عربات كلماتك المتصلة بفكرك وخيالك ولغتك، وقد تصنع مجدك).
كاتبة عمانية