ما من حقل معرفي إلا ويمارس تأويله الخاص لأسئلة التاريخ، بما في ذلك الحقل التاريخي ذاته، والمتميز هو أيضا، بتباين وتنوع ما تخوض فيه منهجياته، من قضايا وإشكالات، حيث ينتبه الباحث إلى أنه بصدد معاينة اختلافات قد تكون جزئية أو جذرية، كما قد تكون مضمرة أو معلنة، تشمل المقاربات كافة التي تتخذ منه إطارها المرجعي، سواء تعلق الأمر بالمقاربات الفلسفية، أو بمرجعيات الكتابات الشعرية، فضلا عن الكتابات التاريخية.
ولعل مرد ذلك، يعود من وجهة نظرنا إلى تداخل وتشابك مفهوم التاريخ، بمفهوم آخر أكثر إثارة للجدل، ألا وهو مفهوم الزمن، الذي يجبر الكائن على الإقرار بغموضه وتعقيداته المتعددة الأبعاد والدلالات، حيث ما من شيء، إلا ويبدو محاطا بغلالة الزمن، بما تعنيه هذه الغلالة من تحجيب رمزي ومانع، يحول دون استكناه أسراره وحقائقه. فمن قلب هذا الانطباع القاسي الذي يلقي ظلاله الثقيلة على حياة الكائن، ينتصب الماضي التاريخي بعنفه الصاعق، إنه انسحاب وقائع وأحداث، كانت من قبل المحرك الفعلي لحيوات فردية وجمعية، تراوح إيقاعاتها بين حالات التوازن والاطمئنان، وحالات السقوط والانتكاس، داخل شرنقة «ماض» استأصل من الحياة ما أمكن من أوصالها، لينسحب بعيدا عن الأنظار، دون أن يختفي، ورغم إكراهات اليومي التي تصرفنا عن التفكير فيه، إلا أنه بوصفه الخزان الزمني للتاريخ، يظل /الماضي المعيار المعتمد في الفصل بين الهمجي والإنساني، وما يجب وما لا يجب. بمعنى أن حركيته تتجسد في تعدد مستويات وأشكال امتداداته في الواقع، إن على مستوى استعادة محكياته، أو على مستوى تأويل وتفسير ما تومي إليه هذه المحكيات، التي يحدث أن تكون ملطخة بالدماء، أو مضمخة بالطيوب. ما يدعو الشاعر، أو المؤرخ لاستعادتها ليس فقط باعتبارها محض أحداث ووقائع أمست في حكم الزوال، بل باعتبارها حياة قائمة ومؤطرة بقانون المسافة الفاصلة بين لحظة الاستعادة، ولحظة الحدوث. بمعنى أنها وقائع وأحداث، تمارس حضورها الحي، على ضوء تعدد وتباين طرائق الاستعادة.
وإذا ما سلمنا سلفا بأن عمر الإنسانية يقاس مبدئيا بعمق وحركية تاريخها، فإن عمر الكائن البشري سيكون أيضا امتدادا لعمر السيرورة الإنسانية التي ينتمي إليها. وضمن هذا التصور، يصبح التاريخ كائنا بآلاف الأقنعة وآلاف الألسنة، ما يقلل من شروط التواصل معه على أرضية الحد الأدنى من العقلانية والموضوعية المطلوبة.
من هنا يمكن القول، إن تركيز المقولات الحداثية على الرؤية المستقبلية للعالم، يتضمن عمليا هاجس التخلص من ثقل الماضي، ومن عدوى امتداده في الحاضر، توخيا للتخلص من وطأته، والسعي إلى استبداله بمقوم «خفة» تليق بهوية الكائن الجديد. وإذا كان من الضروري تلخيص معضلة هذا الثقل، فسنكتفي بالقول، إنها تتجسد في التكريس الدائم للمقولات التي استخلصها الإجماع من مجرى الأحداث والوقائع، بما تعنيه من أعراف، ومن كوابح تحول دون ممارسة الكائن لحقه في الاختيارات الجذرية، وفي تجريبه للبدايات البكر، وكذلك في الانتشاء بلعبة المحو التام للجاهز والمسكوك.
إن تركيز المقولات الحداثية على الرؤية المستقبلية للعالم، يتضمن عمليا هاجس التخلص من ثقل الماضي، ومن عدوى امتداده في الحاضر، توخيا للتخلص من وطأته، والسعي إلى استبداله بمقوم «خفة» تليق بهوية الكائن الجديد.
والملاحظ أن ترجيح فكرة الانفتاح على المستقبل، يتماهى إلى حد ما، مع روح جوهر الزمن التقني، المشتغل أساسا بالاحتمالات والفرضيات، والمتطلع مبدئيا إلى «ما سيأتي» عبر الطي المنهجي للراهن، تلافيا لعقم المراوحة الدائمة فيه، استنادا إلى رؤية تجريبية، متضمنة مؤقتا ليقين مؤجل، ومهيأ في الوقت نفسه للتحيين، على ضوء ما سيعد به المستقبل. علما بأن الالتزام بتبني الرؤية المستقبلية، يستدعي توافر شروط الوعي الموضوعي بإوالياتها، التي لن يكون ممكنا دونها التخلص من عبء الزمن التاريخي، والفوز بتلك «الخفة» المحتملة، والكفيلة بالارتقاء بصاحبها إلى آفاق الانفتاح المعرفي المتجدد والمغاير. ذلك أن الجهل التام والمطلق بمفهوم التاريخ، نتيجة سريان داء الأمية في أوصال الذات المجتمعية، كاف لإنتاج مخلوقات معطوبة، ينعدم في تطلعها المستقبلي أي بصيص أمل، يوحي باحتمال حضور ضوء الممارسة العقلانية. وهي الحالة التي ينصرف فيها اهتمام الشرائح المجتمعية إلى تحقيق آمال وأحلام متطابقة مع بؤسها المعرفي، الشيء الذي يضعنا أمام واقع يستند أساسا إلى مسلكيات النهب وفظاعاته، بمختلف ما يحمله النهب من دلالات الهيمنة والحجر والإقصاء.
والقول بهيمنة شعار النهب، يعني تلقائيا هيمنة قانون الغاب، الذي تتعدد وتتباين فضاءاته، انسجاما مع تعدد وتباين مجالاته وفصائله، لا فرق في ذلك بين القبائل المتربعة على القمة، وتلك المكدسة في أقبيتها ودهاليزها، فالهاجس المشترك كي لا نقول الوعي المشترك، يتلخص في الاستماتة من أجل الفوز بأكبر حصة من إغراءات الوليمة، ذلك أن الجوع التاريخي المهيمن على ساكنة الغاب، لا يسمح برؤية أي مستقبل آخر، عدا مستقبل الفوز بالفريسة وبمباركة مبيتة من دواليب السلطة، وهو إطار لا يتسع لإمكانية وضع الماضي في سياقه التأملي قصد الاستفادة من مخزونه الثقافي والحضاري، الكفيل بإضفاء نوع من العقلانية على التعامل مع الحاضر، حيث لا يبقى سوى إعداد العدة للفوز بما أمكن من غلال المستقبل، بصرف النظر عن التداعيات الكارثية الملازمة لهذا الفوز.
علما بأن العبرة لا تكمن في التعرف على ما حدث هناك، أو على ما يحدث هنا، بقدر ما تكمن في الإحاطة بدواعي الحدوث وتداعياته، باعتبار أن هذا المنحى، هو المؤثر في تشكل آفاق الرؤية المستقبلية للوجود، والتي يتوقف فيها التاريخ عن الإحالة على ما أمسى بقوة النسيان والتجاوز، في حكم العدم. وهنا تحديدا، تكمن أهمية الاستعادة الزمنية المستبعدة لجدوى المعايشة الآلية للأحداث وملحقاتها. باعتبار أن غواية الإنصات إلى سردياتها، ستصرفك حتما عن تقصي ما يتمفصل بين تضاعيفها من تعالقات.
وبالنظر إلى وعي الأنظمة المتسلطة بهذا الإشكال الذي قد يتخذ بالنسبة لها منحى انقلابيا، فإنها تحرص على إخضاع حركية الماضي، بالحذف والتشويه وإعادة التصفيف، كي لا تبوح أحداثه ووقائعه، بما يتعارض مع راهنها الهيمني. وتأسيسا على ذلك، سنأخذ بعين الاعتبار، ثقل وتفاعل أحداث الأزمنة المتعاقبة في الذاكرة الفردية والجماعية، وهي تراوح بين حدها السلبي والإيجابي، انطلاقا من مستويات تمثل الذاكرة لها. فتدبير الحاضر لما «تمت معايشته» من قبل، لا يتحقق عبر استعادة محكياته، بقدر ما يتحقق من خلال استعادة جوهر وجدلية حركيته. فجوهر المحكي المحيل على قوانين اشتغال الحدث، وتداعياته، وحده يشتغل، دون أن تكون الذات بالضرورة على علم بحضوره. إنه الجوهر الحاضر، والمتحكم في مسلكياتنا، بصيغة لا واعية، ودون أن يسفر عن وجهه، مستغلا بذلك انهماكنا الآلي في تدبير مشاغل اليومي التي تصرف الذاكرة عن تبين وقائعه وأحداثه، وقد أمست متناسخة بشكل أو بآخر في نظائرها وأضدادها. بمعنى أن الأمر يتعلق باستيطان شحنات الأنساق الزمنية لذواتنا – بفعل تحويلها إلى إطار حيوي للتمثل الفكري والشعوري. وهي الأنساق ذاتها التي تتشكل بها المرجعيات الشعرية، على ضوء رؤيتها الفكرية للزمن التاريخي، ولدلالاته وأبعاده، منتجة بذلك زمنها المهجن بالمفهوم الجمالي والشعري للكلمة، حيث يتخلى التاريخ عن رصانته المفتعلة، فور وجوده داخل زمن القصيدة، كي يمارس شطحاته بكل حرية هناك، بعيدا عن أي رقابة قبلية.
شاعر وكاتب من المغرب