ضمن مطبوعات الاتحاد العام للأدباء والكتاب في العراق لسنة 2021 صدرت الطبعة الأولى من كتاب حمل عنوان «من أصداء الماضي. مذكرات د. شجاع مسلم العاني) زينت صدر الكتاب مقدمة متألقة مسهبة للباحثة والناقدة نادية هناوي.
والكتاب الذكرياتي هذا الذي يقع في مئة وثمان وعشرين صفحة، كتبها الناقد شجاع مسلم العاني، أيام ضربت الجائحة الكورونية العراق والعالم في ربيع سنة 2020، انشغالاً بما يفيد، وقد أحسن الناقد شجاع صُنعا إذ سطر هذه الذكريات، استجابة لحث نادية هناوي وإلحافها عليه، ونحن في العراق والوطن العربي نعاني قلة في تدوين مذكراتنا وذكرياتنا.
وإذ جاءت هذه الانثيالات الذكرياتية من غير ترتيب زمني، بل هي خواطر تعنّ على الذاكرة، فتأخذ سبيلها نحو الورق، وحين بدأت بالكتابة – كما يقول الناقد شجاع- لم أفكر بترتيب هذه الأصداء، وإنما كنت أدونها حسب ورودها على الذاكرة، مقدماً شكره لنادية هناوي؛ التي كانت تحثه على الكتابة وعلى إكمال هذه المذكرات.
في هذه الصفحات التي زادت على المئة، لقطات ومثابات في الشأن الثقافي العراقي على مدى نحو نصف قرن، منذ أن ذهب الناقد شجاع إلى القاهرة لمناقشة بحثه لنيل درجة الماجستير من جامعة عين شمس، أواخر سنة 1967 الموسوم بـ«المرأة في القصة العراقية» وحتى مغادرته التدريس الجامعي غب إحالته إلى التقاعد سنة 2011 وقد أحسن صُنعاً إذ جعل هذه الذكريات تدور في الشأن الثقافي العام، مع مس خفيف بالشأن السياسي، متحدثا عن بعض الشخوص والزملاء، وأشهد أن العاني كان عَفّ اللسان، غافرا عداوات بعضهم، تاركا الأمر لتاريخ الأدب كي يقول قولته فيه.
البياتي والجواهري
يحدثنا الناقد شجاع حديثا لعله أطول أحاديث الكتاب، عن الشاعر عبد الوهاب البياتي الذي يلتقي به يوم ذهب لمناقشة رسالته في الماجستير في جامعة عين شمس، ويستغرب من الوقت الذي يمضيه في القهاوي والمشارب، ولا يعود إلى شقته في حي الدقي إلا فجراً، ولا يقرأ سوى الشعر والتاريخ، والذي يكوّن رأيه في أمر ما من خلال رأي الآخرين؛ يسأله البياتي مرة عن أهم ما كتبه نجيب محفوظ، فيجيبه شجاع، إنها رواية «اللص والكلاب» ويظل عبد الوهاب يردد هذا الرأي، كلما سأله سائل عن ذلك، أو كلما ورد ذكر لنجيب محفوظ. ويظل كارها علي جواد الطاهر، لا لأنه لم يكتب عنه، بل جلية الأمر أن عبد الوهاب الخبير بخلق العداوات، ولا ينجو من شواظ لسانه أحد، اشتبك في خلاف مدمر مع الجواهري شتاء سنة 1972 لعله تناغماً مع دعوات الناقد المصري الذي جاء مربد سنة 1971 وهو أول مرة يعقد مثل هذا الطقس الثقافي. محمد النويهي، تنفيساً عن حقد وحسد، لهذا التألق الجواهري الذي يزيح من طريقه في المهرجانات، كل شويعر وشويعرة! النويهي يبشرنا بـ(انتهاء مرحلة الجواهري) وقد صدرت مجلة «ألف باء» ناشرة صورة الجواهري على غلافها الأول ورأي النويهي الحاسد، كما لمست هذا الحسد من أستاذنا الشاعر المصري، كمال نشأت، يوم كان يدرسنا في آداب الجامعة المستنصرية.
أقول وقد انشغل الوسط الثقافي، وكان الوسط وقتئذ موّاراً دفّاقا، انشغل بهذا الخلاف، فحسم أستاذي الطاهر الأمر بمقال نشره في جريدة «التآخي» جاء فيه ما معناه: إن من المخجل، بل من المعيب أن نقارن بين شاعرية الجواهري، وشاعرية عبد الوهاب، وعن أيهما أفضل، فهذا الأمر لا يقبل نقاشا ولا جدلا. ويصل به الحال أن يشي بالقاص عبد الستار ناصر، الذي كان قد نشر قصة عنوانها «سيدنا الخليفة» كان فيها تعريض بمتصرف لواء بغداد سنة 1969 الحاج خير الله طلفاح، الذي تفتقت عبقريته، في الحفاظ على الآداب العامة، بأن أنشأ شرطة الآداب مهمتها حلق شعر الشباب الذين كانوا يطيلون شعورهم، فضلاً عن الفتيات اللواتي يلبسن ملابس قصيرة بصبغ سيقانهن.
يغري عبدُ الوهاب كاتباً عراقيا لِتَسَقّطْ ما يراه هفوات الناقد المصري غالي شكري، كما أنه يطلب من غالي كتابة مقدمة لأحد مجاميعه، فيلبي هذا الإنسان الطيب طلبه، ويكتب لا مقدمة بل دراسة ضافية في نحو أربعين صفحة، لكنه ينشر مجموعته تاركا المقدمة، وكأن الأمر لعب صبيان!
يذهب صدام يوم كان نائباً إلى وزارة (الإعلام) للوقوف على حقيقة الأمر، سائلاً إياه عن القصة، وبدل أن يدافع عن عبد الستار وشى به قائلا للنائب: هذا لا يعرف الكتابة، بل يُكتب له ويضع اسمه على المكتوب! ما أدى إلى اعتقال القاص عبد الستار ناصر، ويوم التقيا في مؤتمر القصة القصيرة الذي عقد في مصيف صلاح الدين صيف سنة 1978، يعاتبه عبد الستار ويتطور العتاب إلى شجار متهما إياه بأنه السبب في حبسه.
هفوات غالي شكري
يغري عبدُ الوهاب كاتباً عراقيا لِتَسَقّطْ ما يراه هفوات الناقد المصري غالي شكري، كما أنه يطلب من غالي كتابة مقدمة لأحد مجاميعه، فيلبي هذا الإنسان الطيب طلبه، ويكتب لا مقدمة بل دراسة ضافية في نحو أربعين صفحة، لكنه ينشر مجموعته تاركا المقدمة، وكأن الأمر لعب صبيان!
يحدثنا الباحث شجاع مسلم العاني عن عبد الإله أحمد، الذي لا يعجبه العجب ولا الصيام في رجب، ولقد التقيت به أكثر من مرة فكنت أراه متشنجا، ولاسيما يوم رد على تلميذه يحيى الكبيسي في جلسة استذكار للقاص المبدع عبد الملك نوري، في اتحاد الأدباء لمناسبة أربعينيته، إذ وقف صارخا في وجه يحيى: إني أتحداك! وقد انتفخت أوداجه وظننت أنا به الظنونا! وكان العاني من بين المحاضرين، وذلك مساء الاثنين 14 أيلول/سبتمبر 1998.
ينقل الناقد العاني صوراً من تراجع المجتمع العراقي وعسكرته، فهذا المدير؛ مدير ثانوية قتيبة في مدينة الثورة، كان أشد قسوة على طلابه من مديرية الأمن، يرسل الطلاب زرافات ووحدانا إلى مديرية أمن المنطقة، لأنهم وزعوا حلويات بذكرى تأسيس حزبهم، فترأف بهم مديرية الأمن وتطلق سراح هؤلاء الطلاب المساكين! في حين عشنا مع معلمين ومدرسين ومديرين – قبل أن تتراجع قيم مجتمعنا – كانوا بمثابة آباء، بل أفضل: علي حيدر، شاكر الجودي، مصطفى الشيخ، محمد عبد اللطيف العاني، جمال المتولي، عبد الأمير البلداوي، عزة محمد جان، محمد علي البير، فؤاد درويش و..و. بل إن معاون هذا المدير، الذي أمسى في سنوات تلت رئيسا لتحرير جريدة «العراق» صلاح الدين سعيد، كان يبصق في وجوه الطلاب ويضربهم ويطردهم، وإذ يعاتبه الأستاذ شجاع يأتيه الجواب البليد: إذن ماذا أفعل؟
فتصوروا- يقول العاني- أي وحوش هؤلاء؟
يرِد في الكتاب ذكر حميد مرعي السوري الذي كان يتردد على القائم الذي وقف في المحكمة العسكرية الخاصة متهماً أو شاهداً. وحميد مرعي هذا السوري من أصل فلسطيني كان قد خطب الفتاة (يسرى سعيد ثابت) شقيقة إياد، أحد المخططين لعملية اغتيال رئيس الوزراء العراقي الأسبق عبد الكريم قاسم مساء 7 تشرين الأول/أكتوبر 1959 وقد قُدِم للمحكمة متهماً، واقفا في قفص الاتهام إلى جانب خطيبته وشقيقها، وأحمد طه العزوز، وسليم عيسى الزيبك، وشاكر محمود حليوة، وسمير عزيز النجم وعلي حسون، وخالد علي الصالح؛ لولب محاولة الاغتيال الفاشلة، الذي يؤكد في كتاب مذكراته «على طريق النوايا الطيبة» عدم معرفة مرعي بمحاولة الاغتيال، وحكمت المحكمة ببراءة يسرى. كما أن اسم الممثلة زينب هو فخرية عبد الكريم.
يرد اسم الباحث المصري اليساري خليل كلفت (1941 -2015) بصيغ عدة منها: خليل إسماعيل كلفت، وعدة أماكن، ويرد مرة واحدة بصيغة (خليل كلفت إسماعيل). لقد اشتهر هذا الباحث المظلوم باسم (خليل كلفت) كتب دراسة قيمة عن البياتي، وكان يكتب باسم مستعار هو (صالح محمد صالح) فضلا عن إصداره مجلة «كاليري 69».
جاء قول الباحث شجاع: «وكان العراقيون قد انشغلوا بهذه المعركة، حين قام شاب عراقي رومانسي كان يعمل مع برتراند راسل بالنزول إلى الأهوار مع مجموعة من رفاقه تقليدا لأرنستو- تشي- جيفارا الذي أصبح أسطورة آنذاك، لكن المجموعة من الشبان فقدت طريقها في الأهوار، وأنهتها قوات الحكومة العراقية»
أقول إنه الشاب خالد أحمد زكي المولود في الناصرية سنة 1938 وقتل في (معركة الغموكة) في 3 حزيران/يونيو 1968.
كاتب عراقي