من أنقاض القرى إلى «مطبخ مريم»: صمود الإنسان في وجه الحرب

في عمق الحروب وأصوات القذائف، يُكتب تاريخ من الألم والفقدان. الحرب ليست فقط مواجهات بين جيوش، بل هي اجتياح لحياة الناس، اقتلاع لجذورهم، وتدمير لمعالم وجودهم.
خلال حربها على لبنان، لم تسعَ إسرائيل فقط لتهجير الأهالي، بل عمدت إلى إعدام الحياة ذاتها في القرى الحدودية. كانت الغارات كطوفانٍ لم يرحم لا الكبير ولا الصغير، وقد أجبر السكان على ترك بيوتهم خلفهم، نازحين إلى المجهول. كانت كل ضربة تدوي بمحو قريةٍ، وكل صرخة تأتي من أعماق البيوت المحطمة، بيتًا تلو الآخر، حتى لم يعد هناك ما يشهد على وجودها سوى حطام الأحلام، وكأنها لم تكن.
القرى الحدودية لم تكن الضحية الوحيدة، فقد امتدت يد العدوان لتلتهم بيروت، العاصمة النابضة بالحياة، التي كانت تجسد حلم كل عربي. البقاع والشمال لم يسلما، وحتى الجبال الشاهقة التي كانت يومًا ملاذًا هادئًا، لم تسلم من عدوان الجيش الأكثر أخلاقية في العالم.. لم يعد هناك مكان آمن في لبنان، الكل في دائرة الخطر، الكل مهددٌ بأن يتحول إلى رقم في قائمة الموت أو الدمار.
في هذا المشهد السوداوي، تبرز قصص الإنسان، ذاك الذي يصر على الحياة حتى في أقسى الظروف. ففي إحدى المناطق الشمالية، بادر رجل شهم إلى فتح أبواب منزله، الذي بناه بيده، حجرًا فوق حجر، ليستقبل عائلات نازحة تركت خلفها كل شيء، لتجد في منزله ملاذًا من قسوة الطرقات وبرد تشرين وشراسة الأمطار. هذا المنزل الذي يحمل ذكريات الرجل، يحمل أحلامه وتاريخه، تحول في لحظة إلى ملجأ من نوع آخر، حيث ضم بين جدرانه ضحكات الأطفال، أنين كبار السن، ودموع الأمهات المكلومات. كان هذا البيت ملاذًا للأمل في قلب الفاجعة، مكانًا يُحتمي فيه من وحشية الحرب التي لا ترحم.
لكن الصواريخ لا تعرف الرحمة والعدو الإسرائيلي يتفنن في أساليب القتل.. فقد جاء صاروخٌ، كصاعقة من الجحيم، ليحول ذاك الملاذ الآمن إلى ركام. ألعاب الأطفال، ثيابهم، ضحكاتهم، كلها تبعثرت تحت الأنقاض. كان مشهدًا أشبه بغول غزة، الذي لا يزال يغرس أنيابه فيها يوميًا. إنها حلقة مفرغة من الألم تتكرر، من لبنان إلى فلسطين، من بيت إلى بيت، ومن حلمٍ إلى حلمٍ يتحطم.
وسط هذا الدمار، يبقى السؤال: كيف يُمكن للإنسان أن يستمر؟ كيف يُمكن أن تجد الأمل وسط كل هذا اليأس؟ الإجابة تكمن في قلب ذلك الرجل الشهم، وفي قلوب الملايين من اللبنانيين والفلسطينيين الذين رفضوا أن يُمحى وجودهم. نعم، قد تتهاوى المنازل وقد تُدفن الأحلام تحت الأنقاض، لكن الإنسان الذي يحمل في داخله حب الحياة والإيمان الكبير، ويجد في الألم سببًا للمقاومة، لا يمكن أن يُهزم.

مطبخ مريم.. حكاية محبة

في خضم الدمار الذي اجتاح لبنان، برزت من بين الركام قصصٌ تنبض بالإنسانية الصافية. كان الناس يبحثون عن ملاذٍ، عن دفءٍ، عن أي شعاع أملٍ ينير ظلام الأيام الموحشة التي جلبتها الحرب. ووسط كل هذا اليأس، جاء الأب هاني طوق بمبادرة حملت معها نبض الحياة، «مطبخ مريم».
لم يكن مطبخ مريم مجرد مكان لتقديم وجبات الطعام، بل كان قلبًا ينبض بالرحمة، ويدًا ممدودة في وجه الألم. كان الأب هاني، برفقة مجموعة من الإخوة المحبين، يعملون ليل نهار بلا كلل أو ملل. لقد أدركوا أن الحرب لم تحطم فقط البيوت والجدران، بل كسرت أيضًا الروح، وجعلت الناس يشعرون بأنهم قد تُركوا وحدهم في مواجهة هذا الجحيم. لذلك، كان عملهم أكثر من مجرد إطعام الجائعين، بل كان فعلًا من أعمال الرعاية والمحبة، احتواءً لكل روح مكسورة وإعادة إحياء لكل أمل متلاشٍ.
في مطبخ مريم، لم يكن الطعام مجرد وسيلة للبقاء، بل كان جسراً يجمع بين البشر، حيث يجلس الأب هاني مع العائلات النازحة، يتحدث إليهم، يُصغي لآلامهم، ويُقوي عزيمتهم التي كادت أن تذبل تحت وطأة المعاناة. كان يجد في كل قصة، في كل وجه متعب، فرصة ليُعيد لهم جزءًا مما فقدوه: إنسانيتهم. كان يقدم لهم الطعام بعناية، وكأنه يقدم لهم قطعة من قلبه، ليقول لهم بأنهم ليسوا وحدهم، وأن لبنان، رغم كل ما مر به، ما زال يضم قلوبًا كبيرة تنبض بالحب.
كانوا يأكلون حتى الشبع، وأثناء ذلك كانت الكلمات تتساقط بينهم كالمطر الخفيف، لتروي أرواحهم المتعبة. لم يسأل أحد عن الدين أو الانتماء السياسي. لم تكن تلك الأمور ذات أهمية هنا، فالجوع واحد، والألم واحد، والإنسانية واحدة. في مطبخ مريم، الجميع متساوون، فلا فرق بين نازح من الجنوب أو نازح من الشمال، بين من هرب من بيروت أو من البقاع. القلوب مفتوحة، والأبواب مشرعة، وكأن هذا المكان هو النقطة التي تتلاقى فيها أرواحهم المنهكة لتتساند وتتعافى.
يبتسم الأب هاني للناس، رغم الألم محاولاً طمأنتهم، لكن عينيه تحملان ثقل الحرب، الألم الذي يعيشه الناس. هو يعرف جيدًا أن الطعام قد يُسكت الجوع، لكنه لا يكفي لتسكين الألم العميق، الذي تركته الحرب في النفوس. لذلك، يجلس مع النازحين بعد الوجبة، يتحدث عن الغد، عن الأمل، عن أن الحروب، رغم قسوتها لا تستطيع أن تقتل الروح ما دام هناك من يختار أن يقاوم، ليس بالسلاح فقط، بل بالمحبة.
«مطبخ مريم» ليس مطبخًا فقط، بل هو رمز للتضامن، مكان وجد فيه الجميع حضنًا دافئًا وسط البرد القارس، ضوءًا في آخر النفق المظلم. هو شاهد على أن الحرب مهما امتدت لن تستطيع أن تطفئ نور الإنسانية. الأب هاني وفريقه كانوا يُعيدون تعريف الصمود، ليس كحالة من التحدي فقط، بل كحالة من الحب الذي لا يعرف حدودًا، الحب الذي يجمع الجميع تحت سقف واحد، ليأكلوا معًا، ويضحكوا معًا، ويبكوا معًا، في مواجهة حربٍ لا تميز بين إنسان وآخر.
هذا هو لبنان الحقيقي، ذاك البلد الذي لا ينهزم، رغم الدمار، والذي يجد في محنة الحرب فرصة لأن يبرز أنبل ما في النفس البشرية. في مطبخ مريم، لا تُصنع فقط وجبات، بل تصنع قصص الرحمة والتآخي.. قصص تُعيد الأمل لكل من ظن أن الحرب قد انتصرت.

*كاتبة لبنانيّة

كلمات مفتاحية

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

إشترك في قائمتنا البريدية