بعض الكلمات، أو حتى الجُمل المبثوثة في كتاب حمدي أبو جليّل، ربما ضيّعت على من لم يفهمها شيئا من متعة القراءة. راح يخطر لي، وأنا أقف حائرا إزاء كلمات يستعصيّ عليّ فهمها منه، أنها بقيّة باقية من لغة أبو جليّل البدوية، تلك اللغة التي لا بد عبرت في رحلة نقصان متدّرج مع توالي سنوات إقامته في القاهرة.
في الكتاب الواقع في منطقة وسطى بين الرواية والسيرة، تتوزّع اللغة بين هذين الحدّين، خصوصا أن السيرة تذهب بعيدا في الماضي العائلي، الذي رجع به الكاتب إلى الجدّ الخامس. وهي سيرة غير متعاقبة زمنيا. لم تبدأ من الماضي لتصل إلى الحاضر على غرار ما نقرأ في السِيَر عادة، بل إن الزمنين يسيران بالتوازي، جنبا إلى جنب. مرّة يعود الكتاب إلى الجدود وعيشهم وتقاليدهم، ولغتهم على وجه الخصوص، ومرّة يحطّ في الحاضر المحتفظ ببعض عناصر ذاك الماضي.
عن اللغة التي يعلّمها لمعشوقته الفرنسية، يقول الكاتب «هي لهجتي أنا، المزيج الأهوج من البدوية والقاهرية والفيومية»، وفي مكان آخر من الكتاب يقول عن تلك اللغة، إنها «لغة البدو المخلّطين التي ليس لها أيّ علاقة باللغة العربية». هي لغته التي كتب بها روايات وقصصا في «الفاعل» و«لصوص متقاعدون» و«الصاد شين» وكتب أخرى. لكننا هنا، في «يدي الحجرية» الصادر حديثا، إزاء حضور كثيف للغة البدوية، الخالصة أحيانا من كل ما قد يأتيها من خارجها. نقرأ هذه اللغة في القصائد القديمة، المغنّاة وغير المغنّاة، لشعراء من البدو بينهم، فرحات بو محارب الذي خصّص أبو جليل فصلا من كتابه مثبتا فيه قصيدة هذا الشاعر في هجائه لعائلته. وهناك قصائد بدوية أخرى منشورة في الكتاب بعضها لـ«شاعر بدوي مجهول» غُنيّت مرّات من مطربين عديدين، كان أوّلهم عوض المالكي، «مطربنا الكبير، الذي كان يتمتّع بشهرة جبّارة بين القبائل البدوية في مصر وليبيا، حتى تسعينيات القرن الماضي». هي لغة، بل ثقافة، واسعة الانتشار في بقعة جغرافية واسعة (بين مصر وليبيا) لكن لا يعرفها إلا أهلها. بين ما يفعله الروائي أبو جليّل هو دفعنا إلى أن نعرف أن هذه الثقافة، المنفصلة عن العربية التي نتداولها، موجودة وحاضرة، وهي متميّزة أيضا عن مجاوِرتها العربية، كون الناطقين بها لا يعيبهم هجوها، كما فعل فرحات بو محارب، أو كما كتب أبو جليّل نفسه في روايته «الفاعل» واصفا بدو الفيّوم بقوله «ضربت عليها الذلّة والمسكنة، وباءت بغضب من الله شديد».
هو عالم مختلف ذاك الذي يحتل نصف كتاب حمدي أبو جليّل. تلك البداوة لا نعرفها إذ ليست هي البداوة التي عرفنا عنها في كتب التاريخ والأدب. يكفي أن نقرأ أسماء نساء العائلة الممتدة في ذلك الموقع الشاسع، الأسماء الغريبة التي كأن من أطلقت عليهن لم يأتين من تاريخ وجغرافيا نعرفهما.
وجليّل، في كتابه الأخير هذا، يستعيد ما كان سطّره المؤرّخ النابلسي، الذي كان زار الفيوم أيام المماليك ووصف أهلها بأنهم «لا يتمتعون بأي مكرمة أو كرامة ولا وجود ولا يتحرّكون إلا بمحرِّك». لم يرغب حمدي أبو جليّل في أن يصل بكتابته إلى العربية التامّة. تلك المكابدة التي قاساها كل متكلم بلهجة أهله أو بلده وهو في طريقه إلى الفصحى الكاملة، أهملها كاتبنا، أو أوقفها عن كتابته. هو يستطيع أن يقول إنه يكتب بلغته، التي سمّى بعض مكوّناتها أعلاه. أما كتابه الأخير هذا فخطوة إلى الأمام في سعيه ذاك.
«أكتب زيّ ما بتنطَق» يغنّي الشيخ إمام كلمات أحمد فؤاد نجم، مستبقا ميلا شاع من بعده. كأننا ذهبنا إل أبعد مما دار في النقاش الذي بدأ في النصف الأول من القرن الماضي، حول كتابة الروايات في الفصحى الكاملة أو الفصحى المعدّلة. مؤخّرا، وفي مبادرة لافتة صدرت ترجمة لـ«غريب» ألبير كامو بالعامية المصرية، وتلك كانت قد صدرت منذ عقود مترجمة إلى العربية. كان ذلك أشبه بدعوة لإقامة المقارنة بين الترجمتين، أو اللغتين، هكذا بما يدلّ إلى أن إحداهما (العامية) تقدّمت شوطا آخر إلى الأمام. كأن التسليم بالفصحى كلغة للكتابة يجري التراجع عنها الآن. لطالما تساءلت كيف حصل أن شاعرا غزير المعرفة بالفصحى هو سعيد عقل، قرّر في وقت متأخر من كتابته، أن يتحوّل عنها إلى العامية، نطقا وكتابة. كنا نظن أن المنافحين إلى العامية هم غير القادرين على احتمال صعوبتها.
العامية تتقدّم، أو على الأقل بات متاحا تقدّمها. لم نعد في وقت ما كان خيار العامية متاحا. كان الروائي العراقي فؤاد التكرلي قد قام بتلك المغامرة في روايته «الرجع البعيد» حيث أجرى الحوار بالعامية العراقية (وقد عدّل من أجل ذلك رسم بعض الحروف ليُمكن لفظها كما تُنطق) لكنه عاد وتراجع عن ذلك، معيدا الفصحى إلى الحوار.
هو عالم مختلف ذاك الذي يحتل نصف كتاب حمدي أبو جليّل. تلك البداوة لا نعرفها إذ ليست هي البداوة التي عرفنا عنها في كتب التاريخ والأدب. يكفي أن نقرأ أسماء نساء العائلة الممتدة في ذلك الموقع الشاسع، الأسماء الغريبة التي كأن من أطلقت عليهن لم يأتين من تاريخ وجغرافيا نعرفهما. أما في ما يتعلّق بالجوانب الأخرى من الكتاب، وهي كثيرة، فيمكن، بل ينبغي الرجوع إليها في تناول آخر.
كاتب لبناني
الاستاذ حسن داوود العامية ببساطة هي كل اغانينا وهي كل شعرنا الشعبي او العامي هي حديثنا اليومي في كل مجالاتنا الحياتية فنحن شعوب تختلف عن كل الشعوب فليس لدينا ما يمكن تسميتها اللغة الام التي يفترض ان نمارسها في البيت والشارع والمدرسة فالفصحى هي لغة القراءة والكتابة والتعليم ولا تشبه عاميتنا او لهجاتنا كما يسميها البعض التي هي لغات بحد ذاتها كما المصرية والعراقية والمغاربية
تدفق في البـطـحـاء بعد تبهطلِ ****** وقعقع في البيداء غير مزركل
وســار بأركان العقيش مقرنصاً ****** وهام بكل القارطات بشنكــلِ
يقول وما بال البـحاط مـقرطماً ****** ويسعى دواماً بين هك وهنكـلِ
إذا أقـبـل البعـراط طاح بهمةٍ ****** وإن أقرط المحطوش ناء بكلكلِ
يكاد على فرط الحطيـف يبقبـق ****** ويضرب ما بين الهماط وكندلِ
فيا أيها البغقوش لسـت بقاعـدٍ ***** ولا أنت في كل البحيص بطنبلِ
************